قبل 36 ساعة من توقيع اتفاق القاهرة من رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، طلب وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر من الشخصيات الفلسطينية التي التقاها في القنصلية الأميركية في القدسالشرقية، ومن بينها فيصل الحسيني وحنان عشراوي وغسان الخطيب وصائب عريقات وفريح أبو مدين وآخرون، ان لا يدلوا بآرائهم حول الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي في وسائل الاعلام قبل التوقيع عليه في القاهرة. وجاء طلب كريستوفر، الذي تحدث لمدة عشر دقائق فقط واستمع طوال 80 دقيقة بعد ان لاحظ ان الشخصيات الفلسطينية التي التقاها خصوصاً الحسيني وعشراوي وأبو مدين، استشاطوا غضباً مما تضمنه الاتفاق بعد ان اطلعوا على تفاصيله قبل نشرها. وقال أحد أعضاء الوفد الفلسطيني الذي حضر اللقاء مع كريستوفر ان الاسرائيليين نجحوا في انتزاع قضايا أساسية في القاهرة "نجحنا في الحصول عليها في مفاوضاتنا السابقة". وأضاف ان كريستوفر أراد بكلامه القول "لا نريد منكم ان تثيروا الرأي العام الفلسطيني قبل توقيع الاتفاق"، ومع ان غضب الحسيني والآخرين لم يترجم بتعليقات علنية على ما تضمنه الاتفاق قبل انتهاء مراسم التوقيع في القاهرة صباح يوم الأربعاء الماضي، الا ان هناك بين الوزراء الاسرائيليين من يقول ان المفاوضين الفلسطينيين استطاعوا في مفاوضات القاهرة الحصول على نقاط اضافية هي بمثابة مقدمة لسيادة فلسطينية في غزة وأريحا تبدأ بحكم ذاتي وستؤدي حتماً الى اقامة دولة فلسطينية. ويدافع الدكتور نبيل شعث أحد أبرز مهندسي اتفاق الحكم الذاتي عن الجانب الفلسطيني عما تم تحقيقه في مفاوضات القاهرة، ويقول ان دخول 9 آلاف شرطي وضابط فلسطيني وآلاف الكوادر الادارية وغيرها الى منطقة الحكم الذاتي وحصولنا على حقوق في ادارة شؤوننا بأنفسنا وانتزاع هويتنا المصادرة عبر الموافقة على اصدارنا جوازات سفر وطوابع بريدية، وخطوط هاتفية دولية وعلم وملاحة جوية وبحرية هي بلا شك خطوة على طريق تحقيق حلمنا الفلسطيني". واعترف شعث لپ"الوسط" بأن المفاوضات كانت "مضنية وشاقة"، وتوقع ان يستمر الجدل بين اسرائيل ومنظمة التحرير في المرحلة المقبلة حيث تتداخل الأمور ببعضها البعض وتستمر عمليات التداخل والتشابك في مجالات الحياة المختلفة، بدءاً من نقاط العبور وانتهاء بالأعمال العسكرية التي يتوقع ان تتواصل ضد أهداف عسكرية اسرائيلية ومدنية. وفي وثيقة الاتفاق المكونة من 200 صفحة ما يوضح تفاصيل تسليم السلطات المدنية وصلاحيات الشرطة وجدولاً زمنياً لانسحاب القوات الاسرائيلية من قطاع غزة وأريحا. ويبدو واضحاً انه على رغم ان الاتفاق يعطي الفلسطينيين حكماً محدوداً فان اسرائيل احتفظت بمسؤوليتها عن الأمن وبحق نقض أية قوانين قد يسنها المجلس الفلسطيني الجديد المؤلف من 24 عضواً، لا سيما ان الاتفاق تضمن الموافقة على تشكيل لجنة مراجعة مشتركة مؤلفة من ثلاثة قضاة اسرائيليين وفلسطينيين. ولا يسمح للسلطة الفلسطينية الجديدة اعتقال اسرائيليين أو ايقاف سياراتهم، الأمر الذي يجرد ادارة الحكم الذاتي من أي سيطرة على المستوطنين الذين مُنعوا، بموجب القانون من حمل أسلحة أو ذخيرة من دون ترخيص. وباستثناء النجاح في الاتفاق على تخطي عقبات اللحظة الأخيرة التي سبقت التوقيع في القاهرة، فان "الجو المكهرب" الذي خيم على لقاءات رابين وعرفات استدعى في أكثر من مناسبة تدخل الوزير كريستوفر والرئيس حسني مبارك، حتى أثناء توقيع وثائق الاتفاق على مرأى ملايين المشاهدين. ويقول مفاوض فلسطيني لپ"الوسط" ان عرفات أصّر على ان يتضمن أحد ملاحق الاتفاق خارطة معدّلة لمناطق الحكم الذاتي، وحين لاحظ عدم وجود الوثيقة رفض التوقيع على الملحق، الأمر الذي أوقف مراسم التوقيع 15 دقيقة. ويكشف هذا الأمر حقيقة مهمة، هو انه لا تزال هناك عقبات كثيرة تنتظر الفريقين. واعتبرت مصادر عربية ان في كلام الرئيس الفلسطيني عن القدس والمستوطنات وحصار الخليل واعتباره الانسحاب من غزة وأريحا مقدمة تفتح الباب لإزالة الاحتلال بأكمله ما يجعل الاتفاق الذي وقع في ذكرى ميلاد الرئيس مبارك في قصر المؤتمرات الدولية في مدينة نصر مجرد خطوة على الطريق الطويل لبناء الدولة الفلسطينية. أعداء وأصدقاء ولا يعني التوقيع على الاتفاق ان اعداء الأمس هم أصدقاء اليوم، بدليل ان رابين الذي لم يستطع الاستماع الى كامل خطاب عرفات باللغة العربية، لسبب عدم ادارته جهاز الترجمة، لم يصفق لعرفات ولو مرة واحدة، بل اكتفى بهز رأسه في مناسبتين على الأقل، ولعل قول عرفات ان غزة وأريحا هي البداية، وحديثه عن كيان وطني مستقل وان السلام لن يكون عادلاً الا اذا كان شاملاً، هي رسائل أراد ان يبعث بها الى الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي والى راعيي اتفاق السلامپوالولايات المتحدة وروسيا مفادها ان ما جرى توقيعه في القاهرة في احتفالات استغرقت ساعتين ما هو الا خطوة أولى على طريق شاق وطويل. وإذا كان الحديث بين رابين وعرفات خلال الساعات التي سبقت التوقيع تركز على موضوع السجناء ووجود رجال شرطة فلسطينيين بالزي الرسمي على معبر جسر اللنبي، الذي يربط بين أريحا والأردن وحدود المياه المسموح لزوارق الصيد الفلسطينية بالعمل فيها، أو عدم الموافقة الاسرائيلية على ان لا يحمل عرفات لقب "الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات" بل لقب زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، اضافة الى قضايا تتعلق بالأمن والمستوطنات والولاية القضائية، فان بعض هذه التعقيدات جرى حله بعد تدخلات أميركية ومصرية استدعت في بعض الأحيان اتصال مبارك وكريستوفر بالرئيس بيل كلينتون الذي كان في مدينة اتلانتا أثناء توقيع الاتفاق. ولا يبشّر كلام رابين حين تحدث في خطابه عن "أرض اللبن والعسل" بأن الحياة بين الفلسطينيين والاسرائيليين تعني ان المستقبل سيكون آمناً، لا سيما ان هناك فلسطينيين عبروا علانية عن رفضهم هذا الاتفاق، وقالوا ان مقاومتهم للمحتل ومحاربتهم للمستوطنين هي حق مشروع ولن يكون من مصلحة أحد من قادة السلطة الوطنية الفلسطينية الجديدة مصادرته. ومع ان اتفاق حركة فتح وحماس على التعاون في الحفاظ على الاستقرار داخل قطاع غزة ومناطق أخرى في الأرض المحتلة اقتصر على معالجة القضايا اليومية والحؤول دون وقوع احتكاكات بين أنصار الطرفين، الا ان هناك من يتوقع ان يتم تفهم الظروف التي يجب ان تحكم علاقات الأطراف الفلسطينية ببعضها البعض من جهة، وبعلاقتها مع الشريك الآخر الذي لا يزال يرابط حول غزة وفي معظم أراضي الضفة الغربية. ولعل أبرز امتحان يواجه عرفات في الأيام المقبلة يتمثل في قدرته على الامساك الكامل بالأوضاع والسيطرة على زمام الأمور داخل منطقة سلطته، ونجاحه في ارضاء كل الفلسطينيين وعائلات وعشائر وسجناء سابقين ولاحقين وقيادات داخل الأرض المحتلة وخارجها وسكان مخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة وخارجها اضافة الى المنتشرين في أصقاع الأرض من ذوي الخبرات المالية والادارية والفنية، وفوق هذا كله نجاحه في انشاء سلطة وأجهزة تعمل بشكل متواصل على تأسيس بنية تحتية تكون قاعدة لانطلاقة اقتصادية فلسطينية تشجع الدول المانحة للمساعدات على ان الأموال التي ستدفع لبناء الاقتصاد الفلسطيني ستصرف في الوجهة الصحيحة. وفي كلمته التي وجهت الى الفلسطينيين من كل الاتجاهات السياسية قال عرفات ان ما قدمه اتفاق القاهرة لا يلبي طموحات شعب عانى من الاحتلال الاسرائيلي على مدى عقود متتالية، وقصد من هذا القول ان ما تحقق هو خطوة سيعقبها خطوات لن تتحقق الا بالعمل المستمر، وما قصد الرئيس الفلسطيني قوله لمعارضيه حسب تفسير أحد مستشاريه هو "ان يتمهلوا في الرفض إذا أرادوا ان لا يشاركوا في وضع لبنات الكيان الفلسطيني في المرحلة الانتقالية التي قال عنها وزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز أنها لن تستمر أكثر من ثلاث سنوات، اذ ان ما حصلنا عليه في الوقت الحاضر هو ما سمحت به الظروف الاقليمية والدولية". وتقول شخصية فلسطينية مستقلة ان مساوئ الاتفاق كثيرة، لكن ذلك كله لا يلغي حقيقة واحدة ومهمة وهي أنه سيكون للشعب الفلسطيني للمرة الأولى في التاريخ سلطة وطنية سيشعر خلالها كل مواطن، مهما كانت خلفيته السياسية أو انتماءاته العائلية أو العشائرية، بأنه يجب ان يشارك فيها. وتضيف ان الالتزام الوطني سيدفع الجميع الى التخلي عن "الأنا" والقفز فوق الجراح واعطاء السلطة الفلسطينية الجديدة الفرصة لترتيب الداخل الفلسطيني على كل المستويات. ولا يوافق أحد القياديين المعارضين للاتفاق على ما يجري من ترتيبات. ويقول ان الكثيرين من قادة فتح تم تجاهل نضالهم بعد ان قام عرفات بعملية لارضاء أبناء العائلات والعشائر في قطاع غزةوالضفة الغربية عبر تعيينهم في مناصب مهمة. الا ان الرئيس الفلسطيني يعتبر هذه الاتهامات باطلة بل وظالمة ويقول "ان المرحلة صعبة وتحتاج الى تضحيات، وهي مرحلة بناء، ونحن بحاجة الى كل جهد وخبرة في كل مجال، ولهذا فان عملية التعيينات لم تكن بالصيغة التي فسّرها البعض، بل سيكون المجال في التعيينات مفتوحاً لأصحاب الاختصاص والمعرفة في عصر الكومبيوتر والتكنولوجيا". ويورد مثالاً على ما تقوم به حتى الدول العريقة بديموقراطيتها ويقول "في مذكرات رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر ما يؤكد انه حتى في تشكيلها لحكومتها الأولى قبل أكثر من 14 عاماً إضطرت لأن تراعي الاعتبارات المناطقية والعائلات والخبرات والتجارب، ومع ذلك فأنا مستعد، وبقلب مفتوح، لمد اليد الى كل من لديه نية العمل لبناء السلطة الوطنية الفلسطينية". تقسيمات ادارية ويقول أحد مستشاري عرفات لپ"الوسط" ان هناك مشروعاً كبيراً تم اعداده لبناء الحكم المحلي سيبدأ بتقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة الى محافظات وألوية وأقضية، في حين لا يوجد حالياً سوى 29 بلدية فقط، ولهذا فان مشروع إحداث هذا التقسيم والعمل بالنظام اللامركزي في الحكم المحلي سيساعد على تطوير آلية التنمية فيشعر كل مواطن بأنه جزء من السلطة القائمة. وأعدت لهذه الغاية أنظمة وقوانين تسمح لكل تجمع سكاني يزيد عن 500 مواطن بانتخاب مجلس محلي، ولكل تجمع سكاني يزيد عن 5 آلاف مواطن بانتخاب مجلس بلدي و400 مجلس محلي منتخب، بحيث يكون متوسط عدد أعضاء كل مجلس حوالى سبعة أعضاء، ما يعني وجود بين 3 آلاف و4 آلاف قائد محلي، وأبدت السوق الأوروبية المشتركة استعداداتها لتقديم المساعدة المالية لاجراء انتخابات المجالس المحلية والبلدية والعمل على تجهيز مقرات لها وخصصت في المرحلة الأولى مبلغ مليوني دولار. ويرفض السيد منصور الشوا الذي كلف تشكيل مجلس بلدية غزة ان يكون تعيينه جزءاً من عملية الترضية، ويقول ان "ما تم بالنسبة الي هو "تكليف وليس تشريفاً"، ومع ذلك فانني أعتز بالتعاون القائم بيني وبين الأخوة الأعضاء في المجلس البلدي". ويقول الياس فريج رئيس بلدية بيت لحم "ان أمام السلطة الفلسطينية المقبلة مهمات كبيرة، ليست أقلها ان تكون الشرطة الفلسطينية فاعلة ومدربة ومجهزة تجهيزاً حديثاً". وقال ان الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني "سترحب بالتوقيع على أمل ان يتخلص من الاضرابات والبطالة، لأن استمرار الفوضى في المرحلة المقبلة سيكون مخيباً للآمال". واعتبر فريج "بأن المستوزرين كثر وطلاب الوظائف أكثر وان هناك أكثر من ألف مؤسسة دراسة ومركز بحث تتطلع الى حصة في السلطة الجديدة". وأعرب عن أمله في ان لا ترفع يد فلسطيني على أي شرطي فلسطيني، وقال أنها ستكون موضع احترام الجميع من كل الطوائف والمذاهب والاتجاهات". وأكد اللواء عبدالرزاق المجايدة، أحد أبرز قادة الشرطة الفلسطينية التي ستتولى مسؤولية الأمن في قطاع غزة، "ان هناك لجنة تنسيق فلسطينية - اسرائيلية تم الاتفاق على تشكيلها"، يترأس الجانب الفلسطيني فيها العميد زياد الأطرش قائد قوات القسطل وتضم كلاً من العميد غازي الحيالي والعميد محمود عصفور والعميد زياد عريف والعقيد عمر عاشور والمقدم عثمان شحادة والعقيد سليمان حلس والعقيد عبدالمعطي سبعاوي. ووصف اللواء المجايدة مهمة اللجنة بأنها تتناول وضع جدولة للانسحاب الاسرائيلي وفض المشاكل الأمنية التي تقع في الأراضي المحتلة بعد توقيع الاتفاق. وقال ان اتفاق حركة حماس وحركة فتح هو "من البشائر المتوقعة التي تؤكد ان الشعب يتعالى عن الجراح ويرتفع عن الحساسيات في سبيل المصلحة العليا". ويأمل اللواء المجايدة ان تكون خطوة الافراج عن عدد كبير من السجناء الفلسطينيين مقدمة لخلق اجواء الانفراج تتزامن مع وصول بضعة آلاف من رجال الشرطة الفلسطينية الى غزة وأريحا ورفع الحصار المضروب على عدد من مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع ان خلق "بحبوحة" اقتصادية داخل قطاع غزة وأريحا هو أمر يجب عدم التقليل من أهميته في ظل بقاء عشرات الآلاف من العمال في منازلهم محاصرين وممنوعين من عبور الخط الأخضر، فان هذا يعني ان مسألة تدفق المساعدات المالية من الدول المانحة ستكون العامل الأساسي في زرع بذور الاستقرار والشعور بأن مرحلة جديدة بدأت. ولا يخفي أكثر من مسؤول عربي وغربي قلقه من احتمالات فشل سلطات الحكم الذاتي في امتحانها الصعب في المرحلة المقبلة، ويقول هؤلاء ان أشياء كثيرة سيعتمد مستقبلها ونجاحها على نجاح الفلسطينيين أو سلطتهم الوطنية في فرض سيطرتها والفوز بثقة الحكام الاسرائيليين كمقدمة لفتح مجال التفاوض في شأن قضايا أكثر أهمية، كمستقبل القدس ومصير المستوطنات. ويعتبر طلب رابين من عرفات والشعب الفلسطيني بأن لا يخيّبوا ظن الشعب الاسرائيلي بمثابة رسالة موجهة الى الفلسطينيين ليحترموا تعهداتهم الأمنية، لأن ما تحقق في القاهرة، على حد قول رابين، هو "فرصة لا يمكن ان تتكرر".