سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أربعة كتاب وباحثة في ندوة "الوسط" عن "الادب والترحال الفكري" . المثقف العربي في مهب التحولات والهجرات : إحساس باستحالة المستقبل وبأن الليل سيطول 2 من 3
يعيش المثقف العربي اليوم، في مختلف الاقطار والمنافي، حالة من العزلة، لكي لا نقول الاستقالة، ومرحلة تساؤلات واعادات نظر وتحولات جذرية. "الوسط" جمعت خمسة مثقفين مصريين، لمحاولة رصد تلك الهجرات الفردية أو الجماعية من أيديولوجية الى أخرى ومن مناحٍ ثقافية وجمالية الى مناحٍ مغايرة، على ضوء المتغيرات التي عصفت بالعالم في نهايات هذا القرن. ونواصل في ما يلي نشر وقائع الندوة التي شارك فيها الروائيان يوسف القعيد وجمال الغيطاني، الناقد جابر عصفور، القصاص محمد مستجاب وأستاذة علم الاجتماع سامية الساعاتي. في الحلقة الثانية من ندوة "الوسط" حول "الأدب والترحال الفكري"، تطرّق النقاش الى آثار نكسة حزيران يونيو 1967 على الحركة الأدبية والثقافية، والتحولات والمتغيرات التي طرأت منذ ذلك الحين على المجتمع العربي عامة، والمصري بشكل خاص. كما تحدث المشاركون أيضاً عن علاقة المثقف بالسلطة وانقلاب المبدع الى مواقع جديدة، فيها تنكر تام لماضيه في بعض الأحيان. أعلن الغيطاني أنه يحاول، وسط زمن تعصف فيه المتغيرات، أن يتمسك بالفكرة التي يعتنقها... أن يبقى أميناً لنفسه، لا أن يصبح ما يريد له الآخر أن يكون. "ومن هنا، في فترة من الفترات، شعرت انني امام مهمة رئيسية تواجهني وهي حماية الذات ... - قال الغيطاني - وحماية لوجهة نظري، التي أعتبرها من الثوابت لتقبّل المتغيرات". هذا الكلام وارد في ظرف محدد. ولكن مع مرور الوقت، لا نعتقد أنك تستطيع أن تحمي مجتمعاً أو جماعة أو أفراد من أثر الترحال الفكري وأحكامه. - جمال الغيطاني: قد يحدث الترحال بشكل أو بآخر، ولكنني اتحدث عن الجوهر. في السبعينات مثلاً، مررنا في حالة خمود أعقبت مرحلة الصحوة التي كان فيها المجتمع يواجه اهدافاً كبيرة واهدافاً عامة، جعلت الانسان يقبل التضحية من أجلها. هكذا وضعت نصب عينيّ فلسفة "تحجيم الطموحات". ماذا أريد من الحياة؟ أريد ظروفاً محددة، الحد الادنى الذي يمكنني من كتابة رواية وتأمين اسرتي. وهذا الحد يمكن أن يصبح كبيراً جداً اذا اردت، ويمكن أن يصبح "معقولاً" إذا اردت أيضاً. قبل فترة شاهدتُ على شاشة التلفزيون أديباً يتحدث من منزله، وكنت عاصرت هذا الاديب ورأيته عن قرب، اذ بدأنا معاً وكانت بدايته شديدة التواضع. فماذا لو قسنا الفارق بين بدايته، وبين ما هو عليه الآن؟ فهو بالمفهوم الاجتماعي عاش ترحالاً عظيماً، وهذا يظهر من مسكنه الفخم، ويظهر ايضا من انتقال الفريق التلفزيوني الى مسكنه لاجراء الحديث. وهذا الزميل، ربما يكون كسب شقة في "المهندسين" أو "جاردن سيتي"، ولكنه خسر نفسه كمبدع. فمعيار محاسبة المبدع في المحصلة الاخيرة ليس الا مادة ابداعه! التحاور لا الاستلاب وهنا نصل الى مسألة التراث التي تَكرّم الدكتور عمرو عبد السميع باثارتها قبل قليل راجع السؤال ما قبل الاخير من الحلقة الاولى في العدد الماضي من "الوسط". وموضوع التراث بالنسبة إليّ شخصياً، مسألة نفسية وفكرية وموقف من الحياة. التراث عندي يعني التأصيل، ولا يعني ردة سلفية متحجرّة تعزله عن الواقع المعاصر. وكلما تطرقنا الى العلاقة بالتراث، نجد من يتهمنا بمغازلة جماعات معينة لها وجودها في المجتمع وهي تدعو الى الردة. وهذا المنطق طبعاً غير صحيح! فاذا كنا نرفض التراث لمجرد تمسك تلك الجماعات به فهذا خطأ فادح، لأنه من غير الممكن ان نتجاوز التيارات السلفية الا من خلال التراث نفسه. ولا يمكن أن نتحاور مع تلك التيارات، من دون استيعاب التراث، ومن دون فهم الواقع الذي نعيشه. ومفهومي للتراث واسع جداً وعريض. إنه، بالنسبة اليّ المعاش، والواقع، وهو الفاعل في الحياة اليومية. والتراث هو الذي يمنحني الخصوصية في الكتابة، والاصالة في التعبير، والحماية في مواجهة متغيرات أكبر تحدث الآن في العالم وتستهدف هويتنا الحضارية والثقافية. وهنا قد يقول قائل إنك تحاول أن تلغي الآخر. وأنا أجيب: لا، بل أحاول أن أتعامل مع الثقافات الانسانية، ولكنني أنتظر من هذه الثقافات أن تنظر اليّ كما أنظر به اليها: من موقع متكافئ. من هنا أدعو الى التحاور على قدم المساواة، وليس الاستلاب الى هذه الثقافات. سقوط الفكرة الاشتراكيّة؟ نحن كجيل عشنا، بشكل عام، ظروفاً صعبة جداً، وعاصرنا متغيرات هائلة وتجارب قاسية كل منها على حدة كفيل بأن يقصم ظهر شعب بأكمله. لنتذكر قليلاً ما حدث عام 1967، ثم الانتقال من التجربة الناصرية الى التجربة الساداتية وما تلى ذلك من تقلبات وتغيرات اجتماعية حادة في المجتمع، ثم انهيار التجربة الاشتراكية - ولا اقول "انهيار الاشتراكية" لأن ما طبق في الاتحاد السوفياتي يمثل تجربة محددة، وكان الاشتراكيون العرب وغير العرب يعرفون سلبياتها ويستفيدون منها ويسكتون عليها. وأذكر أننا بعد أن زرنا الاتحاد السوفياتي، كتبنا وأشرنا الى مخاوفنا وتحفّظاتنا وملاحظاتنا تجاه السلبيات التي أدّت الى الوضع القائم الآن، فوجدنا يومها من يتهمنا بتشويه التجربة الاشتراكية. المهم أن نهاية هذا الشكل من "التجربة الاشتراكية" هناك، لا يعني موت جوهر الفكرة. من ناحية أخرى، نحن ولدنا ونشأنا في ظل الصراع العربي الاسرائيلي. وها هو الوضع ينقلب رأساً على عقب، فيحدث "ترحال" واسع من الصراع المسلح الى الرغبة في الصلح. وأنا واحد من الناس الذين عاشوا هذا الصراع لسنوات عدة كصراع ساخن، والآن نحن مطالبون بتقديم تنازلات. هناك المنطق الواقعي، والتفكير السياسي بلا شك. ولكن أنا كمبدع يجب أن أظل ثابتاً على قناعتي، فاذا كان الكل مجمعاً على الصلح مع اسرائيل، لماذا لا نترك 20 شخصاً "مجنوناً" يعبّرون عن ايمانهم بأن وجود هذه الدولة ليس محكوما بالبقاء. فربما ثبت في يوم من الايام أن رأيهم هو الصحيح. الآن مطلوب منك ان تستجيب للمتغيرات الآنية، أي أن يكون ترحالك "سياسياً" لا "فكريّاً". وفي الوقت نفسه يوجد مثقفون أُسمّيهم "المبررون العظام"، ينتقلون من حالة الى أخرى مناقضة كلياً، كمن ينتقل من الساخن الى البارد، فيفعلون ذلك في منتهى الطبيعية، ولا يكلفون أنفسهم حتّى عناء اعادة النظر باللغة والتعابير والالفاظ والشعارات التي كانوا يستخدمونها في المرحلة السابقة. وهؤلاء يحتلون مكان الصدارة في المجتمع، ويتبوأون المناصب الحساسة، وهم نجوم لهم تأثير واسع على الناس. ثنائية الفرد والمجتمع لا بد من الاشارة هنا الى أن الشخصية القومية هي مجموعة من السمات ذات الثبات النسبي. ويبدو أن عامل التغيير في المحيط، سواء كان متعلقاً بسقوط الايديولوجيات أو بتغيير النظام الدولي ينعكس هذه المرّة بصورة متوترة على الشخصية القومية في بلد مثل مصر... الى أي مدى تمثل حالة الانتقال هذه عاملاً خصباً، يساعد الاديب في ترحاله الفكري، أو في اغترابه أيضاً؟ - سامية الساعاتي: من الممكن أن تكون المتغيرات التي تشيرون اليها عاملاً مساعداً في الترحال الفكري، بسبب عزلة الاديب عن المجتمع، اذا انطلقنا من هذه الثنائية الازلية: "المجتمع والفرد". يجب أن ننظر كذلك الى أسلوب حياة المجتمع، وتأثير ذلك على الافراد. هناك أيضاً قطب يتحرك باستمرار وهو التغير الاجتماعي، وهو تجسد في كلام الزملاء عبر أشكال مختلفة. هذا القطب هو وراء متغيرات لا تحصى في الشخصية المصرية. هناك أشياء كثيرة تغيرت، كالارتباط بالارض مثلاً. فالمصري كان اذا سافر من طنطا الى أسوان، يعتبر أنه "تغرب" وترك الارض. أما الآن، فلم يعد الامر كذلك. كل أسرة تكون سعيدة بوجود فرد منها بعيداً، في دول الخليج مثلاً. وأنا أرى أن وطأة المجتمع على الفرد كبيرة، الامر الذي انعكس على حياته، فطرأت عليها مجموعة من التحولات. وهناك قلة من الافراد، بينهم أدباء ومبدعون، يحاولون الوقاية من التغير. لكن ذلك لا يعني أكثر من كون المبدع يسبح كعادته ضد التيار. فلا شك أن هناك ادباء أحدثوا تغيراً، في الماضي، من خلال كتاباتهم. - يوسف القعيد: تحدث الدكتور جابر عصفور راجع الحلقة الأولى، العدد 136 عما وقع في حزيران يونيو 1967 باعتباره تغيراً، أو تحولاً وانتقالاً من حالة الى حالة أخرى، أو انقلاباً استتبعه تغيير المثقفين لمواقفهم. وأنا اعتقد أن الواقع ظل قائماً حتى فترة 1970 - 1971، بقي نسيج الواقع نفسه متماسكاً. التغيير الوحيد الذي حدث في هذه الفترة هو بداية بروز التيار الديني أو توسيع المرجعية الدينية في المجتمع. لكن أي "انقلاب" لم يحدث، ولا سجلنا أي تحول يستحق الذكر على مستوى المثقفين ومواقفهم! الدكتور عصفور يقول: "بعد سقوط الماركسية مطلوب البحث عن أفق جديد"، وأنا أتساءل أي أفق؟ كان أمامنا نمطان: رأسمالي مزدهر ومستقر، واشتراكي كان يمثل حلمنا جميعاً وشهد الانهيار الذي نعرف. فأي افق نبحث عنه؟ وأزعجني كلام الاستاذ مستجاب لأنه يفصل بين النص وصاحبه، ويفترض أن الكاتب يجلس لكي يكتب مقالة ثم ترحل هذه المقالة لتنشر في سياق آخر أو في تركيبة أخرى. أما أنا فأرى أن الكاتب هو نصه، والنص هو كاتبه. والأستاذ الغيطاني انزعج حينما قلت إننا انتقلنا الى طبقة أخرى، وقال إننا مستورون ولسنا اغنياء. لكن ما قصدته بالضبط هو أننا في الستينات كنا نسير على قدمينا من مقهى الفيشاوي الى مستشفى غمرة، والآن نركب سيارة. هذا من المتغيرات التي تستحق الذكر، وليس معناه أننا صرنا اغنياء لأن هذه مسألة نسبية جداً. موقعي الطبقي تغير وأشعر ان موقعي على الأقل تغير في البنية الطبقية الاجتماعية في مصر. وكل مساء عندما أعود الى المنزل بعد انتهاء عملي، أشعر بهذا التحول. وهذه المفارقة تسبب لي حالة من العذاب الشخصي: انني من هؤلاء الناس، واكتب واعبر عنهم، لكن بيني وبينهم مسافة. هناك نقطة أخيرة: نحن نتحدث عن الذين غيروا موقفهم واستبدلوا مواقعهم وقناعاتهم، لكن هناك بالفعل جبهة عريضة من الكتاب لم يغيروا مواقفهم، ولم يغيروا قناعتهم. وهؤلاء أثبتوا أن لديهم خيارات واضحة تحدد التزامهم، وأنهم يستندون الى وعي وثيق وثوابت لم تتغيّر أبداً. وماذا تعني بالالتزام؟ - يوسف القعيد: الانتماء الى القناعات، ذاك الذي لا يتغير كلما هبّت رياح. نحن بدأنا الكتابة في آخر الستينات، وكنا نراهن على شيء وهو أن الجماهير تعرف ما نكتبه، وفور احساسها بوجود خلل في الواقع فهي ستتحرك لتغير هذا الواقع الى الأفضل. وكان هذا هو الدافع الأساسي بالنسبة إليّ للكتابة، اكتب لكي ألفت النظر الى وجود خطأ في العالم. والآن وبعد حدوث كل المتغيرات التي تحدثنا عنها، وعلى رأسها سقوط أول دولة في التاريخ تقوم على فكرة الاشتراكية صار لدي مأزق حقيقي. على من اراهن؟ من سيتولى تحويل ما اكتبه الى واقع أو أحلامي الى حقائق على أرض الواقع؟ البعض يقول "راهن على الصفوة" لأن الصفوة هي التي تقود التغيير. كثير من الكتاب الذين نبتوا في بستان الاشتراكية يقولون هذا همساً أو تصريحاً. وبدأت تتسلل الى أعمالهم كلمات جديدة مثل الدهماء والغوغاء... لكنك ذكرت قبل قليل أن هناك مسافة أصبحت تلمسها وتحسها بينك وبين الناس! وهؤلاء الذين يراهنون على الصفوة باتت المسافة التي تفصلهم عن العامة شاسعة ربما، لظروف خاصة بهم... - يوسف القعيد: الرهان على الصفوة يعني أن ننغلق على أنفسنا. نحن نكتب ونحن نقرأ ما نكتب ونصير منتجي الثقافة ومستهلكيها في الوقت نفسه. - جمال الغيطاني: أنا أتفق مع القعيد في موقفه، لكنني أرى أن كلامه يحتاج الى مزيد من التحديد. فحينما أتحدث عن الجماهير التي أريد الوصول إليها، سأجد أن هذه الأمة مجرد وهم، لأني أكتب وشعبي أغلبه من الاميين! يكفي أن ننظر الى الارقام: ما حجم توزيع أعمالنا وما مدى تأثيرنا في الوسائل الاكثر انتشارا التي تتاح لنا؟ أما الذي يجب الا يتغير، فهو وجهة نظري التي أعبر من خلالها عن مصالح هؤلاء الناس، أياً كان موقعي الاجتماعي. فبمجرد أن أظهر في التلفزيون، يبدأ أهالي الجمالية في التعامل معي على انني من السلطة، على اعتبار أنني اظهر في الاطار نفسه الذي يظهر فيه الوزراء وكبار المسؤولين. يكفي أن تُشاهَد في اجتماع ضم كبار المسؤولين في الدولة، وانت لست سوى فرد موجود في الصالة، كي يعتبر أهلك في البلد أنك قادر على التوسط لايجاد عمل لمن لا عمل له! المهم في هذه المسألة هو أن يحافظ المبدع على احساسه بالواقع. هذا الاحساس اذا تكلّس أو أصابه الخدر، فهذا يعني الموت التدريجي للمبدع، وللثقافة التي ينتمي اليها. - سامية الساعاتي: الاستاذ يوسف القعيد يشعر عندما يذهب الى العزبة أن هناك تغييراً وأن هناك مسافة بينه وبين بقية الأفراد. ألم تلاحظ أن اهالي الريف انفسهم تغيروا؟ أنا أرى أن المجتمعات الريفية شهدت متغيرات كبيرة كيفاً وكمّاً. فالاستاذ يوسف القعيد تغيّر، وأهله في الريف أيضاً تغيروا. - يوسف القعيد: بكل تأكيد ظروفي تغيرت، وأحلامهم تغيرت، وسقف مطالبهم تغير. "القارىء المفرد"! في ظل كل هذه المتغيرات، الى أي مدى أصبح "ترحال" المثقف باتجاه السلطة ضرورياً وأخلاقياً؟ - جابر عصفور: أفضل أن نؤجل الحديث عن موضوع السلطة بعض الوقت. ولنأخذ أعمال الغيطاني والقعيد ومجموعة أخرى من الأدباء والكتاب كعينة: هل هناك ارتحال تعكسه هذه الأعمال الأدبية؟ أتصور أن الحديث عن أشياء ملموسة على هذا النحو، يمكن أن يفضّ كثيراً من الاشكالات ويجيب عن أسئلة كثيرة معلقة. والواضح انه عندما نسترجع الكتابات الأدبية المهمة في الوطن العربي نلاحظ أن الارتحال من النقيض الى النقيض يتم دائما في الاطراف القصوى. إذا تذكرنا "السبنسة" لسعد الدين وهبه مثلاً، نجد أحد الأبطال يقول إن ركاب السبنسة ممكن أن يكونوا هم ركاب الدرجة الأولى وركاب الدرجة الأولى يكونوا ركاب السبنسة. أما ركاب الوسط فيظلون ركاباً في الوسط. وإذا طبقنا هذه النظرية على الأدب سنجد أن حركة التغير الحادة في مناطق الاعتدال تكون غير موجودة. والمثال على ذلك الأديب نجيب محفوظ: من أول كتاباته الى أحدثها عهداً، لا نستطيع أن ندعي أن هناك ارتحالاً جعله ينتقل من نقيض الى آخر. هناك حكماً نوع من التحوّل، لكن داخل حدود المنطقة نفسها. بمعنى أنه لم يفعل مثلاً ما فعله كاتب بدأ حياته بالواقعية الاشتراكية حتى اعتبر من غلاة هذا المذهب، واذا به مثلاً بعد عشرين عاماً يصبح من رافعي راية النزعة الفردية والعبثية. وهنا لا بد من طرح السؤال الآتي: هل الوقوف في الموقع الوسطي كافٍ دائماً لاقامة علاقة متفاعلة بين الحدين، بحيث يجد من اختار هذا الموقع نفسه قادراً على تجاوز تناقضاته الذاتية فيتغير باستمرار؟ أم أن الوسطية المستمرة يمكن أن تقوم "بتوليفة" تتجاوز التناقض المنطقي والفلسفي بين الفكرة والفكرة المعاكسة؟ ألاحظ دائما أن هناك تحولاً دائماً من الجماعة الى الفرد على مستوى الأدب بمعنى أن هناك انتقالاً من ايديولوجية الحل الجماعي الى ايديولوجية الحل الفردي. يوسف القعيد قال إنه، في بداياته، كان يتصور أن الناس عندما تقرأ أعماله ستحدث ثورة، ذلك أنه بدأ حياته وهو يتوجه الى الجماعة بخطابها مؤمناً أنها ستستجيب. وأنا أتصور أن هذه البداية تحولت، ولم يعد القعيد يخاطب ما يمكن أن نسميه ب "القارىء الجمع"، وإنما أصبح يخاطب "القارىء المفرد". وهذا في نظري تحوّل أساسي في مسيرته الادبية. وهل يصب هذا التحول في مصلحة "أدب الصفوة"؟ - جابر عصفور: كلا. ليس بالضرورة. لكن هناك تحولاً آخر مهماً يبدو على علاقة ب "المشروع القومي". إنه تحول عن التركيز على البطل الفرد المنقذ والمخلّص، هذا التركيز الذي غرقت فيه أعمال يوسف القعيد وجمال الغيطاني وصلاح عبدالصبور وعبدالرحمن شوقي... كان هناك دائماً البطل المنقذ الذي يقود الجماعة، وبمجرد مجيئه تحل مشكلات كثيرة. البطل الذي يعاتب ويحاور ويناقش ويخاصم. وهذا البطل يكون أحياناً صدى لما يتوهمه الأديب عن نفسه، من أنه المنقذ الذي يخلّص المجتمع. "اللابطل" وسقوط الواقعية كل هذه التحولات: الاستغناء عن صورة البطل المنقذ، مخاطبة الفرد بدلاً من المجموع، حلول مشروع الخلاص الفردي للاديب مكان خلاص الجماعة... هل يمكن إن نستنتج منها سقوط الواقعية كمذهب أدبي؟ - جابر عصفور: بمعنى ما، هذا وارد بالتأكيد... الادب يدور الآن حول ما يمكن أن نسميه "اللابطل"، أي الكائن البسيط "الغلبان". لم يعد الكاتب يتحدث عن "الزيني بركات"، وإنما عن شخصيات بسيطة يمكن أن تكون مغمورة تماماً. وهناك تحول آخر مهم ويتعلق بزاوية النظر: من الحاضر الى الماضي. ليست هناك نظرة الى المستقبل، على عكس الحال في الأدب الأوروبي حيث يدور جزء لا بأس به من النتاج الادبي حول المستقبل. أدبنا أدب مشدود الى الماضي، والحركة فيه دائماً من الحاضر الى الماضي. في قصائد محمد عفيفي مطر مثلاً، هناك اشارة دائمة الى الماضي الذي هو "النموذج المثالي"، والأمر نفسه ينطبق على قصائد أمل دنقل التي نجد فيها دائماً اشارة الى الماضي باعتباره العنصر الأكثر نقاء. ولكي نكون منصفين، هناك محاولات في العودة الى الماضي توخّت تدمير اسطورته. سعدالله ونوس في مسرحية "الفيل يا ملك الزمان"، يريد مثلاً تدمير أسطورة الحاكم الفرد. وربما كانت العودة الى الماضي مرتبطة أيضاً بتناقضنا مع الآخر الغربي المتقدم الذي نريد أن نثبت له أن لدينا ماضياً "خطيراً". وهذا الانتقال من الحاضر الى الماضي، لايوازيه على الارجح إلا الانتقال من الواقع الى الوهم أو الفنتازيا. نعود ونكرر السؤال عن علاقة المثقف بالسلطة. - جابر عصفور: على مستوى ترحال المثقف من موقع المعارضة الى موقع قريب من السلطة، لن أتحدث كثيراً لكنني سأضع بعض العلامات والاشارات. ولا أريد أن اتحدث عما يمكن أن نسميه بالانتهازية، لأني أتصور أن الظاهرة الفردية لا تناقش لكن شيوعها في فترة من الفترات يعد ظاهرة قابلة للتحليل. وعن علاقة المثقف بالسلطة هناك حركة مد وجزر، وارتحالات كثيرة. على سبيل المثال، هناك مجموعة من المثقفين المصريين هاجروا عقلاً وجسداً الى بغداد في فترة من الفترات، لأن النموذج الذي كان يطرحه "البعث" في تلك الفترة كان الأقرب في نظرهم الى النموذج الناصري، الى أن اكتشفوا زيف هذه الحقيقة فارتحلوا الى مكان آخر. وأتصور أيضاً أن هناك ارتحالات صوب السلطة في المكان الواحد حتى عندما لا تتغير السلطة. بمعنى أن الأديب يبدو له الأمر أحياناً كأنه يقرع جداراً صلباً لا يريد أن ينفتح، أو يتغير فينتهي به الأمر في بعض الحالات الى نوع من اليأس ومن ثم نوع من المهادنة التي قد تبدو في اختياره لمجموعة من المواضيع لا تمثل له اصطداماً مباشراً بهذه السلطة. وهذا في حد ذاته يمثل نوعاً من الترحال، فبدلاً من أن يبقى الهم السياسي أو الاجتماعي هو المسيطر على ابطال هذه الرواية أو تلك القصّة، يترك مكانه لهمّ آخر هو البحث عن حقيقة مطلقة واشراقية. وأظن أن نموذج نجيب محفوظ واضح في هذا المجال. فالثلاثية كتبت قبل ثورة تموز يوليو بسنوات، ونلمس التركيز على المشكلة الاجتماعية في "زقاق المدق" و"القاهرة الجديدة". ثم نلاحظ محاولة اختبار المنطقة الصعبة في "أولاد حارتنا" عام 1954، قبل التحول الى الأعمال الرمزية ونموذجها رواية "الطريق"... كل هذه التحولات لا بد من تصنيفها في خانة الترحال بين نقاط تجاذب عدّة في اطار سلطة واحدة، وضمن حدود السلطة نفسها. - محمد مستجاب: الدكتور عصفور يبدو لي كثير التعميم. فبالنسبة الى رحلة النص باتجاه الماضي، هذا الأمر ناتج لدينا جميعاً من ضياع المشروع القومي وانهياره تماماً، ثم الاحساس باستحالة المستقبل، وبأن الليل المقبل سيطول. الدكتور عصفور ناقد اكاديمي يحول كل شيء الى نظرية. بالنسبة الينا ارتبط الأمل دائماً، على مستوى مغامر الكتابة، بشخص قادر على فعل المعجزات. وكان الشخص الموازي لهذا هو الذي يوفر لنا الطعام، ويحدد سعر الرز بقرشين للكيلوغرام، ويؤمن لنا العلم المجاني للجميع... وعندما انهارت الفترة الناصرية بدأنا نتنبه فعلاً الى سقوط النموذج وانظمته كلها وأصبحنا أكثر نقداً وأكثر تجريحاً للذات. وأنا اتحدث عن نفسي: أنا لست ابن فقراء بل ابن ناس كانوا يحلمون أن يصبحوا من الفقراء، لأننا كنا تحت مستوى الفقر بدرجات! الواقع مرير وكلمة مرارة لا تكفي. إننا نعيش واقعاً لا يمكن تحديد شكله، أو توقّع مستقبل له.