أضحى الكاتب والأديب اليوم يجوب البلدان المختلفة في عطلته الصيفية فيلاقي في أسفاره من الشعوب والحضارات ما هو مختلف ومباين لحضارتنا.. لكن هذا لم ينتج لنا ما يعادل أدب الرحلات الذي كان موجودا في تراثنا!! فما هو السبب في توقف الأديب عن إنتاج أدب كهذا رغم وجود التجربة؟ هل هو ضعف في الأديب أم انتفاء للحاجة؟ وهل انتفت الحاجة فعلا ولو إلى نوع جديد من أدب الرحلات يتناسب مع هذا العصر؟ هذا ما يناقشه الأدباء في مواقف متباينة، حيث ينفي بعضهم التراجع من الأصل في حين يعلن البعض الآخر وفاة أدب الرحلات وذوبانه في فنون أخرى كالصورة والرواية والبرامج الوثائقية.. حاجة إنسانية في البدء، يرى الدكتور عبدالله حامد أستاذ الأدب بجامعة أبها أنه لا مسوغ لربط النتاج الرحلي لأدب الرحلة الحديث «بالصيف وسياحته» فربما يكثر السياح لدينا، لكنهم يضيعون اللبن في الصيف! فبواعث الارتحال الحديث متعددة حيث الرحلة العلمية، والعملية، والصحفية، والسفرية، والحجازية والدعوية...إلخ، وأعتقد -ومن خلال ما أراه يصدر باستمرار- أن الكتابة في «أدب الرحلة» لم تتوقف، بل هي مستمرة، ولن يكون آخرها بالطبع ما كتبه عبدالله الجمعة في كتابه (حكايات سعودي في أوروبا) وبين يدي الطبعة السابعة والثلاثون منه! وما كتبه أنس العسافي بعنوان (أيام في نوتنغهام- مشاهدات سعودي مبتعث)، وما كتبه قبل ذلك نواف القديمي في كتابه (أوراق مغربية) (ويوميات الثورة)، ود. محمد حامد الأحمري في: (أيام بين شيكاغو وباريس) وعلي الدميني في (أيام في القاهرة). وأجزم أن قدرة الأديب على الكتابة، واتساع مخزونه الثقافي يمكن -إذا ما أحسن توظيفهما- أن تبدع في الكتابة الرحلية، إلى جانب خصوصية بعض التجارب الرحلية؛ إذ ليست الكتابة الرحلية رصدا تقريريا لمشاهد الرحلة وحوادثها، بل هي امتزاج طبيعي، وغير متكلف بين الرحلة وفضاءاتها، و«الذات» التي تكتب! ولن يكون بعيدا عنا هنا بعض التجارب التي تضاف إلى التجارب الحديثة، حيث يمكن أن أذكر هنا كتاب غازي القصيبي (العودة سائحا إلى كاليفورنيا) وعبدالله المدني (عشرون عاما من الترحال)، وإدريس الدريس (مدن تمطر دما)، ومن قبلهم ما كتبه: عبدالله مناع ويحيى المعلمي ومحمد عمر توفيق، ومن قبلهم عربيا ما كتبه الطهطاوي وطه حسين ويوسف السباعي وأنيس منصور وعبدالسلام العجيلي، ويحيى حقي، وجمال الغيطاني، والقائمة تطول... إن الرؤية التي تقول بانتفاء الحاجة إلى هذا الأدب، أو التي تقول: ماذا يمكن أن يكتب أديب الرحلة بعد هذه الثورة الاتصالية؟ رؤية غير علمية، فالكتابة الرحلية ليست حديثا جافا عن مشاهد وحوادث، بل هي امتزاج بين الذات الكاتبة وما تراه وتعايشه، وليست نقلا حرفيا لتنقلات الرحلة! هذا الامتزاج الخلاق بين «الذات» والرحلة هو ما يسجل هذا الانتشار الكبير لبعض كتب الرحلات، ويكفي أن أقول لك إن الطبعة التي لدي من كتاب أنيس منصور (حول العالم في 200يوم) كانت بتاريخ 1993م وهي الطبعة الثانية والعشرون! وهو ما يدل على أن هذا الأدب لم ولن يتوارى إذا وجد الأديب القادر! من هنا، فالكتابة الرحلية لم تتوقف، وآلياتها الفنية حققت تطورا يوائم العصر الحديث، وأعتقد أننا الآن في أمسّ الحاجة إليها، فالآلة الحديثة تنقل نقلا مجرّدا، لكن الذات الإنسانية الأديبة الواعية تنقل من خلال ذاتها، وشتان بين الأمرين! ولعل ما يؤكد الحاجة إلى الإنسان هنا أن بعض القنوات العالمية والعربية بدأت في تسيير «كاميراتها» في بعض برامجها الوثائقية إلى الأدغال، والصحارى، والمدن الصناعية والسياحية، برفقة مذيع متمكن يعلق، ويضيف، ويضفي على الصورة التقنية أبعادا مهمة ونوعية... تغيّر المفهوم القاص والأكاديمي الدكتور فهد حسين من البحرين يرى أنّ أدب الرحلات من الأنواع المهمة في الأدب عامة وثقافة المجتمعات بشكل خاص، لما له من علاقة وطيدة بالأنواع الأدبية الأخرى، لأنه يهتم بالمكان والناس والثقافة المختلفة والمعيشة المتعددة، كما أنه يقف على الأنماط الحياتية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، ولكن هذا قد تغير إذ تطور المجتمعات ونموها وتحولها عبر التاريخ أثّر بشكل مباشر على المفهوم العام لأدب الرحلات، وعلى الكاتب المعنيّ بهذا النوع من الكتابة، فقديمًا كان الكاتب يتنقّل من مكان جغرافي لآخر بغية الكتابة عنه في إطار جغرافيته وتاريخه وعادات الناس وحركتهم، وطبائعهم وطعامهم وشرابهم، وبخاصة أن الوصول إلى هذه الأمكنة أو الانتقال إليها ليس بالأمر السهل والبسيط، لذلك كانت الناس المتابعة لأدب الرحلات متعطشة لمعرفة هذه البلاد أو تلك، ولكن ما هو حاصل الآن مختلف تمامًا عما في السابق، بل ينبغي أن يأخذ مفهوم أدب الرحلات شكلاً آخر؛ لأن العالم بات قرية كونية، وبإمكان الإنسان المهتم الضغط على زر الحاسوب والدخول إلى العالم الافتراضي ليعرف كل ما يريد عن أي بقعة في العالم، بل في الكون والمجرات أيضًا. تراجع الاهتمام الأديب القاص خليل الفزيع، أوضح أن الاهتمام بأدب الرحلات تراجع بسبب التقنية ومنافسة الرواية له، وقال: الرحلات كانت صعبة، يلاقي فيها المسافر المشقة والعناء. وكانت تستغرق وقتا طويلا يتيح للمسافر فرصة تسجيل معاناته ومشاهداته في السفر. وبسبب هذه المعاناة قلّ المسافرون. إلا ما كان منها لطلب العلم. أو معرفة الأماكن القديمة والتحقق من أماكنها. مما يستحق التسجيل حول ما ورد في الشعر العربي وكتب التراث. لكن في هذا العصر أصبحت الرحلات الطويلة متاحة للجميع دون أن تستغرق وقتا طويلا. ولم تعد المشاهدات أو الانطباعات بالأمر الذي يستحق التسجيل. لأن المعلومات عن جميع البلدان أصبحت متوفرة عبر الإنترنت. وبالتالي بإمكان الجميع الاطلاع عليها بسهولة دون الحاجة لكتب الرحلات التي تُعنى في العادة بمثل هذه المعلومات. كما أن الفضائيات أصبحت ترحل بالإنسان إلى كل مكان وهو في بيته وبين أهله. حتى قيل: إن العالم على اتساعه أصبح قرية صغيرة. وختم الفزيع قائلا: مع ذلك هناك من يستهويهم أدب الرحلات، وفي هذا المجال ظهرت كتب كثيرة في بلادنا والبلاد العربية الأخرى تحمل هذه الصفة، لكن عددها في تراجع للظروف التي ذكرتها سابقا. وربما حملت بعض الروايات جانبا من أدب الرحلات. لكنها في النهاية تظل في إطار الروايات ولا تخرج عن نطاقها. اختطاف وموت القاص ناصر الجاسم اتفق مع الفزيع قائلا: بعد الانفجار المعرفي والتقني المتمثل في تعدد وسائل التواصل الاجتماعي كتويتر وفيس بوك وواتساب وغيرها، وطغيان ثقافة الصورة؛ الصورة الملتقطة باحترافية عالية بحيث تكون معبرة عن الواقع وناقلة له بشكل مثالي فيما يسمى البوستر والملصق والبروشور والمطويات وغيرها، وتضخم مفهوم التسويق والترويج السياحي للبلدان والذي تقوم به السفارات والملاحق الثقافية والإعلامية وتنفق الدول له الأموال الضخمة وترصد له الموازنات، وتزايد المعارض الدولية الثقافية، وازدهار علم الترجمة وعدم اقتصاره على اللغات الحية وشموله للغات الميتة والمهجورة وحتى المنقرضة، أستطيع أن أقرر موت أدب الرحلات، فلم يعد القارئ بحاجة إليه، ولم يعد الأديب مبهورا بما يراه، وليس في حاجة لتسجيل انفعالاته وكتابة مرئياته وتدوين ملاحظاته ورصد سلوكيات الأقوام التي يزورها، فالمذيعان الإذاعي والتليفزيوني يقومان بذلك، وكذلك الصحف والمجلات المتخصصة في السياحة، لقد اُختطف دور الأديب وسُرق، فالكاميرا أمست أجمل وصفا من وصفه، والملصق الإعلاني أكثر دقة منه في التعبير والتأثير. ماض وحاضر الكاتب والروائي محمد فلاج العنزي قال: إن السفر يعتبر جنسا أدبيا وحده للذين لم يعودوا إلا وهم مالئوا جعبتهم منه، فالبعض منهم يجوب الكثير من بلدان العالم دون أن يستفيد من شمولية الفكر والإنتاج والعمارة والبناء في الكثير من بلدان العالم الغربي والشرقي دون أن ينعكس على ثقافته انعكاسا أدبياً فيثري به مجتمعه بكل تلك الصور الإبداعية وصفاً يجدد في اللغة والمعنى وينفض عن غبار الماضي أو المحلي المتكرر، لكن الصدمة أننا طالما نقرأ لهم مقالات أدبية لا تتعدى رسم كل ما يزوره من معالم حضارية وأماكن تراثية وثقافة مجتمعية وصفاً جغرافياً يحدد به الأماكن والتواريخ لا يُكسب الأديب أوالقارئ ثراء أدبيا مستخدماً به تلك الموجودات الكلية أو الجزئية منها. ومن المخجل بمكان من يقرأ عن إرث أُدباء المهجر أو المغتربين من بلاد الشام بسبب الظروف القاسية من الفقر أو غلظة الاستعمار الأجنبي بداية منتصف القرن التاسع عشر حتى شد البعض منهم الرحال إلى الغرب باحثين عن الحياة برغم أن ظروفهم كانت صعبة، أضف إلى ذلك صعوبة وسائل المواصلات والاتصال، بل إن البعض منهم كان بائعا جائلا في الشوارع كسباً للعيش، ومع هذا أسس البعض منهم ما يُعرف بأدب المهجر والذي توزّع على عدة مدارس كانت من أجمل ما أنتجه العرب في تلك الحقبة. إنما الانتكاسة الفكرية إذا ما وضعنا المقارنة في هذا الزمن مع سهولة التنقل بين عواصم مختلف دول العالم للمثقفين والأدباء السعوديين دون أن نجد لها أي أثر في زيادة الإنتاج والوعي بين أدبيات الحاضر والذي شكت منها المكتبة العربية. ويختم العنزي بالقول: إن السبب قد يعود إما لعدم الاهتمام أو لضعف الأديب في قدرته على نقل كل تلك الموجودات أو الصور إلى نص أدبي، تمر الأعوام وتتعدد السفرات وإنما لا تتعدى زيارة المطاعم والمسارح والشواطئ، أما الأدب وفن غواية النص الأدبي الباذخ لم نر منه شيئا حتى يومنا هذا، وربما يطول الانتظار. قراءة ثقافية ويقول القاص عبدالجليل الحافظ: لعل السبب الذي جعل هذا الفن ينزاح بشكل نسبي عائد لأكثر من سبب؛ لعل من أبرزها هو أن الناس في أغلبهم أصبحوا يجوبون البلدان ويزورونها، فما عاد هناك داع للوصف لهذه البلدان. كذلك حل جهاز آخر مكان الكتاب في وصف البلدان هو التلفاز؛ فبدلا من أن أقرأ وصف أحدهم كيف رأى برج إيفل أشاهد برنامجا تلفزيونيا كاملا عن هذا البرج، لماذا صُنع وفي أي مناسبة وسبب الاسم وتاريخه وكل ما يتعلق به من أشياء لن يعرفها ذلك الأديب من خلال زيارته، أو قراءة كتاب عن تاريخ البرج، قس على ذلك الكثير من معالم السياحة في العالم. ويتابع الحافظ: من هنا ينبغي على الكاتب المهتم بأدب الرحلات أن ينظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، أي قراءة المكان ثقافيًا وأنثربولوجيًا وليس تسجيليًا وتوثيقيًا كما في السابق، وهذا يتطلب الانغماس في ثقافة الشعوب بعمق وقراءة المكان والزمان والناس بشكل آخر تمامًا، فالكاتب يضع على ظهره حقيبته المملوءة بالحاجيات التي يريدها كالكاميرا واللاب توب أو أي جهاز يمكّنه من تسجيل الملاحظات لتحليلها فيما بعد، وألا يكون بغرض الاكتشاف لأن هذا الأسلوب لم يعد مجديًا في زمننا، لذلك هناك من حاول -ليس من خلال أدب الرحلات- صرفًا، وإنما عبر السرد الروائي الذي يفتح المجال واسعًا للمبدع والكتابة عن ثقافة الشعوب والأمكنة، أو الدراما التليفزيونية أو السينما. وهو أمر مهم جدًا في حياتنا المعاصرة. رؤية وبريق الروائية هيفاء فقيه رأت أن أدب الرحلات اختفى في الفترة الحالية لعدم وجود الحاجة له، ففي الوقت الحاضر أصبح من السهولة بمكان التجول في أنحاء الكرة الأرضية بمجرد ضغطة زر على أجهزتنا النقالة أو حاسباتنا، وبإمكاننا مشاهدة أي مكان في الكرة الأرضية من خلال النت صوتاً وصورة، وبإمكاننا أن نتعرّف على عادات وحضارات الشعوب من نفس المصدر، ولقد حلت برامج الرحلات التليفزيونية محل أدب الرحلات المسطرة في الكتب. وختمت قائلة: لكن بالرغم من انتفاء الحاجة لأدب الرحلات، يبقى ما كتبه العديد من الكتّاب في أدب الرحلات محتفظاً ببريقه وله نكهة خاصة لأنه ينقل لنا رؤية الكاتب عن تلك البلدان التي كان في السابق صعب الوصل لها. إهمال الناشرين أما الروائي جعفر البحراني، فلم يجد اهتماما بأدب الرحلات حتى في السابق قائلا: لا أظن أن ما أُطلق عليه أدب الرحلات كان يشكل مجموعة وافرة من التصانيف في هذا الحقل. وإنما هو كتب معدودة من الشرق والغرب العربي لا تمثل حالة اشتغال عديدة بهذا الشأن. ولعلنا اليوم، نجد بعض الكتاب والمثقفين لديهم هذا الشغف بالكتابة في الرحلات وإنما يوقفهم عن النشر إيمان الناشر بنشر هذا الأدب، وهذا الفن في الوقت الحالي الذي نشهد فيه طغيان الصورة الفوتوجرافية أو الفيديو على مختلف المحتويات. وأنا شخصيا لديّ بعض الكتابات في هذا الشأن، كما أعرف بعض الأدباء والكتّاب لديهم أيضا كتابات في هذا الشأن، بل أكاد أجزم بأن كثيرا من الكتّاب والمثقفين لديهم شيء من هذه التجارب على الأقل لواحدة أو اثنتين من رحلاتهم العديدة. ليس أدباً الروائي عبدالرحمن الجاسر، قال: أدب الرحلات هو كغيره من الأجناس الأدبية التى ذابت في غيرها من الموضوعات والأغراض، فوجه الأدب بشكل عام وأنماطه طالها من التغيير والعصرنة الشيء الكثير. فتعاطي المبدع مع نصوصه اختلف كثيراً، فالنص يُنتج غالباً بعيداً عن هم التصنيف والتنميط والغرض الحاضر في ذهن المبدع هي التجربة الذاتية والحالة النصية أكثر من أي شيء آخر. كما أن المبدع كغيره أصبح النص أداته الثانوية في عرض تجربة السفر والرحلة، حيث أخذ المنحى البصري يَشي بتجربته ويستهلكها من خلال الصورة والتغريدة والفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وكما أن شعور الغربة والغرابة لم يعد حاضراً لدى المبدع، فهو ينتقل من بلد لآخر في ظرف ساعاتٍ معدودة وفي مشاهد متكررة سبقته لها الصورة البصرية في وصفها ونقلها واستملاحها، ولهذا يرتد النص غالباً على الذات وينطلق منها لا من الرحلة ووصفها. ولهذا، فإن أدب الرحلات لم يعد حاضراً في فصول الأدب المعاصر كما هو، بقدر ما أصبح أدب الرحلات المعاصر مجرد تجارب شخصية نثرية حول السفر أو الدول أو عادات الشعوب ونحوها لا يمكن أن تعتبر نصوصه نصوصاً أدبية بقدر ما نعتبرها تقارير صحفية ومقالات اجتماعية مسلية باستثناء بعض الأعمال القليلة التى تكتنز في ثناياها لغة جميلة وباذخة وسرداً قصصياً رائعاً نأمل أن يحظى بالجمع والدراسة والاهتمام.