بعد احتجاز دام اسبوعاً كاملاً، أفرجت "الجماعة الاسلامية المسلحة" في 22 تموز يوليو الماضي عن كل من سفير اليمن في الجزائر السيد قاسم عسكر جبران، وسفير سلطنة عمان السيد هلال بن سالم السيّابي وكان يرافقهما ضيف يمني هو السيد قاسم الثور من قيادة الحزب الاشتراكي وسائق مغربي يعمل في السفارة العمانية. تضاربت الروايات حول عملية الخطف ومجرياتها لكن السفير اليمني روى القصة ل "الوسط" وهنا أبرز ما جاء فيها: "عملية الخطف تمت خطأ" حسب رواية السفير اليمني… لأن الخاطفين وعددهم 15 كانوا يظنون ان السفيرين ومن معهما، من رجال الامن الجزائري، جاؤوا لاستطلاع المنطقة في سيارة ديبلوماسية! وقد أكد لهم ذلك أمير الجماعة الاسلامية ابو عبدالله أحمد عند لقائه بهم الاربعاء 20 تموز، اذ قال لهم: "لم نفكر ولم نخطط ابداً لاختطافكم، لكن صدفة من الله جاءت بكم إلينا!". بعد ظهر الجمعة 15 تموز حصلت العملية في سد الحَمِيزْ وهو منتزه جميل عند مشارف جبال بوزقزة، والذجربر، على مسافة 15 كلم من خميس الخَشْنَة. المنطقة "ساخنة جداً"، ان لم نقل تحت النفوذ التام للجماعات الاسلامية المسلحة. لكن ما الدافع الى هذه الجولة المغامرة؟ صاحب الفكرة هو سفير اليمن عميد السفراء العرب * و هو يعرف المنطقة جيداً وأراد ان يعرّف بها جاره السفير العماني وضيفه السيد قاسم الثور الذي وصل الجزائر قبل يوم واحد من عملية الخطف. كيف تمت العملية؟ يقول السفير اليمني: "نزلنا من السيارة عند مدخل السدّ وبدأنا نقترب من البحيرة، وقبل ذلك لاحظت سيارة من نوع "بيجو" تقتفي أثرنا، ويمعن ركّابها النظر فينا، فحسبتهم من رجال الامن، وخُيّل اليّ ان واحداً منهم لم يكن غريباً عليّ. لكن فجأة وجدنا انفسنا مُحاصرين بسيارتين وب 15 مسلحاً، يطلبون منّا ان نسلّم انفسنا وأسلحتنا! لم نجد مفراً من الامتثال قبل ان نعرّف بأنفسنا واستظهار هوياتنا ، ونطلب منهم إخلاء سبيلنا باعتبارنا ضيوفاً على الشعب الجزائري حكومة ومعارضة وجماعات مسلحة! غير ان الجماعة المسلّحة التي كانت تتكون من عناصر ناضجة نسبياً أصرّت على اصطحابنا. وهكذا وجدنا أنفسنا في سيارتين مختلفتين تسيران بنا على ضفة وادي الحميز باتجاه الغابات الكثيفة. وعند مدخل الغابة تركنا السيارتين واخذنا نسير باتجاه الشرق لغاية منتصف الليل، حين تسلّمتنا مجموعة ثانية تكفّلت بإطعامنا. وبعد قسط من الراحة استأنفنا السير باتجاه اعالي الجبل لغاية الثانية صباحاً، حين توقفنا في مكان مجهّز قضينا به بقية ليلتنا الاولى". أثناء هذه الليلة قرر أمير الناحية تجنب قتل المخطوفين الاربعة وترك أمرهم الى امير الجماعة الاسلامية المسلحة ليبتّ فيها شخصياً. وهكذا اصبحت المهمة تتلخص في ايصال السفيرين ومرافقيهم الى السيد الامير الموجود في مكان بعيد. جيش... من المراهقين! استمرت الرحلة الى مقر الامير خمسة ايام، قضاها المختطفون بين مجموعات مسلحة تتعاقب على اصطحابهم ونقلهم تارة مشياً وتارة بالسيارة.. مرة في المسالك الجبلية الوعرة ومرّة اخرى وسط القرى العامرة بالمواطنين الذين تتنقل العناصر المسلحة بينهم بدون حرج! وقد تعاقبت عليهم حوالي 15 مجموعة، عبر ما لا يقل عن 20 موقعاً... ومن الملاحظات التي سجلّها سفير اليمن: صِغَر سن المسلحين الذين تتراوح اعمار اغلبيتهم ما بين 10 و18 عاماً. طاعتهم العمياء لأمرائهم الذين يتميزون بمعرفتهم بمبادئ الاسلام والشريعة، عكس الغالبية الساحقة التي يجهل اكثر افرادها مبادئ القراءة والكتابة. "العزلة الاعلامية" التي يتم تعويضها بأشرطة الكاسيت التي تحوي احاديث وخطباً دينية. التمسّك القوي بالقضية والاستعداد التام للتضحية في سبيلها. أداء الصلوات في اوقاتها، مع التعبير بركعة عن نجاح كل عملية يقومون بها! قدم الاسلحة التي يحملونها وعدم تجانسها. وحسب شهادة سفير اليمن، فإن معاملة الجماعة للمخطوفين كانت حسنة، اذ كانوا يقاسمونهم طعامهم ومبيتهم ويتشاركون في تأدية الصلاة. وحدث ان كلّف السيد قاسم الثور بالآذان وهو من الزيدية، فضمن آذانه عبارة "حَيّ على خير العمل" فاستغربت الجماعة ذلك منه واعتبرته بدعة! لكن بعد الشرح تفهّمت الأمر دون احتجاج كبير. هذه المعاملة أعادت الطمأنينة الى نفوس السفيرين ومختطفيهم، وشجعتهم على مناقشة "الأمراء" بل مجادلتهم احياناً. مطالبة الاجانب بدفع الجزية! ويتبين من المواقف المبدئية للجماعة، انها تتمسك بالقرآن والسنّة والسلفية وتسقط ما دون ذلك. فهي تعتبر المذاهب والنِحَل من البدع والضلالات! وبخصوص نظام الحكم لا ترى الجماعة بديلاً عن نظام الخلافة الذي "تجاهد" في سبيل اقامته ليكون "اطاراً للمّ شمل العرب والمسلمين من جديد"! وفي سياق النقاش والمجادلة تجرأ ضيوف الجماعة على طرح بعض الاسئلة المحرجة مثل: اغتيال الاجانب والعلماء والمثقفين والمنتخبين …الخ. والطريف في الأمر ان "الأمراء" اكدوا تبني الجماعة لبعض العمليات محاولين في الوقت نفسه تبريرها. فالجماعة قررت تصفية كل اجنبي يساعد النظام القائم مباشرة. اما الاجانب الذين لا ينطبق عليهم هذا الشرط، فينبغي عليهم الخضوع لنظام الذمة المعروف في الاسلام. اي يدفعون الاشتراك للجماعة مقابل امنهم! ويبدو ان هذا النظام مُطبّق فعلاً في بعض الولايات! وبهذه المناسبة، أعلنت الجماعة المسلحة تبنيها لاغتيال الايطاليين السبعة في جيجل، عشية انعقاد قمة الدول الصناعية السبع في نابولي. وتبنت الجماعة الاسلامية مرة اخرى اغتيال الشيخ محمد بوسليماني، مبررة ذلك بكونه يتعامل مع النظام "من خلال تدريس عناصر من الشرطة والقضاء" و"قد نهرناه عن ذلك فلم يستجب"! وتبنت الجماعة - لأول مرة - اغتيال السيدة دليلة ادريسي المصححة بصحيفة "لوسوار". وبررت هذه الفعلة التي استنكرها المختطفون ب: 1 - مشاركة الضحية في مسيرة 29 حزيران يونيو وهي كانت تحمل لافتة "مناهضة للاسلام" حسب رأي الجماعة. 2 - "بمسؤوليتها" كمصصحة فيما ينشر بالصحيفة المذكورة من مواد اعلامية مناهضة للاسلاميين. وقد حاول سفير عمان نفي هذه المسؤولية بناء على تجربة سابقة في الحقل الاعلامي. وكان جواب ممثل الجماعة - الذي تبين انه شارك في استنطاق الضحية - إثبات المسؤولية لأن الضحية "كانت تصحّح الاخطاء النحوية واللغوية بما يجعل الخطاب الاعلامي أبلغ وأجدى"! 3 - "جهل الضحية بأمور الاسلام"… "فقد طُلب اليها ان تتشهد فأخطأت الشهادة". وأكدت الجماعة ايضاً تبنيها عملية 29 حزيران التي استهدفت مسيرة سعيد سعدي، وان العملية نفذت بقنبلتين يدويتين. وظهر نوع من الجدل في صفوف الجماعة حول اغتيال المنتخبين على المستوى البلدي… فمنهم من أجاز قتلهم دون تمييز "لأنهم في خدمة النظام"، وهناك من أقرّ ضرورة التمييز بين المنتخبين الذين اختارهم الشعب وبين المعيّنين الذين انتدبتهم السلطة. وكان من الطبيعي ان يتطرق النقاش والجدل الى الاشخاص والأنظمة فكانت الاحكام التالية من الجماعة: - الشيخ نحناح: "لا وزن له"! - الشيخ جاب الله: "أهون من نحناح"! - سعيد سعدي: "كافر"! - جبهة التحرير: قاعدة الجماعة لا تميز بينها وبين الحكام، لكن "الأمراء" يقدّرون بعض مواقفها، لا سيما استنكارها لقضية التجاوزات الامنية والمطالبة بالتحقيق فيها. - الشيخ الزنداني: "عالم في خدمة نظام فاسد"! - صدام: "طاغية قاهر الشعب العراقي"! - ايران: "الشيعة كفر"! - أفغانستان: "الصراع على السلطة كفر والمطلوب ان تتضافر جهود الجميع من اجل بعث الخلافة الاسلامية"! صبيحة الاربعاء 20 تموز تمكن المختطفون من مقابلة أمير "الجماعة الاسلامية المسلحة" ابو عبدالله احمد، يقّدر سفير اليمن سنّه ب 35 عاماً الذي أكد لهم "ان الله وحده الذي قدّر لهم ان يكونوا في قبضة الجماعة التي لم ترغب ولم تخطط لذلك". لكن الأمير رغب في استغلال هذه "الصدفة الربانية". اي مقايضة السفيرين بعبدالحق العيايدة القائد السابق للجماعة الذي هو الآن قيد المحاكمة، بعد ان قُبض عليه منذ سنة بالمغرب وسلّم للجزائر في آب اغسطس من العام الماضي. وهنا احتج السفيران على هذه الفكرة وعملا على اسقاطها بمختلف الحجج مقترحين على سيادة الأمير البحث عن وسيلة اخرى لتحقيق هدفه هذا… وأخيراً تمكنا من اقناعه فبشّرهما بالافراج عنهما في غضون يوم او اثنين. ومع ذلك ظل الامير حريصاً على إسماع السفيرين تسجيلاً ل "بيان الوحدة" بين الفصائل في اطار "الجماعة الاسلامية المسلحة" وخلاصة التسجيل ان مبايعة ابو عبدالله احمد قد تمت من قِبَل جناح "الجزأرة" الذي يمثّله كل من محمد السعيد وعبدالرزاق رجام، و"حركة الدولة الاسلامية" بقيادة مخلوفي وشبوطي. استغرقت المقابلة التي تمت في غابة من جبال الشريعة - او تامزغيدة - اكثر من ثلاث ساعات، وقبل ان يودّعهم الامير اكد لهم على لاءات ثلاث: "لا حوار! لا هدنة! لا امن!". وحمّلهم رسالة الى السلطات الجزائرية مضمونها: "الافراج عن العيايدة، مقابل الكفّ عن اغتيال الاجانب". وبعد ظهر الجمعة 22 تموز ودع المختطفون بدورهم الغابة المذكورة، وركبوا سيارة مغطات ظلّت تطوف بهم اكثر من ثلاث ساعات، ليجدوا انفسهم في نهاية المطاف في مكان ما بين بير خادم والسحّاولة وتيقصرين ضواحي العاصمة. وهناك ودّعهم مرافقوهم من الجماعة الاسلامية، بعد ان وضعوا تحت تصرفهم سيارة خاصة، ودلّوهم على الطريق الموصل الى الطريق السريع الرابط بين المطار وبن عكنون. وبعد مشوار قصير وجد المختطفون انفسهم امام المدخل الرئيسي لحديقة الحيوانات، مقابل حي السعيد حمدين.. ومن هناك التحقوا بمنازلهم سالمين معافين. وقد توقفت "ساعة الاختطاف" لتبدأ ساعة الحرية في حدود السادسة والنصف مساء! بيان الخارجية الجزائرية يوم 23 تموز ذكر ان الافراج عن السفيرين اليمني والعماني، تم بفضل "الجهود المكثفة التي بذلتها مصالح الامن". وفعلاً لقد ضربت هذه المصالح المدعومة بوحدات خاصة من الجيش حصاراً رهيباً على المنطقة، وتمكنت من تدمير مواقع كثيرة للجماعة والقضاء على عدد كبير من افرادها. وقد اعترف أمير الجماعة بذلك للسفيرين، مؤكداً ان السلطة استعملت الطيران الذي قصف قرية كان يُعتقد ان المختطفين محتجزون بها! ورغم النهاية السعيدة ووضوح قصة السفير اليمني، فإن المراقبين بالعاصمة الجزائرية لم يتخلصوا بعد من شكوكهم وتساؤلاتهم! فملاحظ مثل ان محمد يزيد الشخصية التاريخية المعروفة وسفير الجزائر السابق في بيروت والذي قابلته "الوسط" بعد 45 ساعة من الافراج عن السفيرين ومرافقيهما، لا يكاد يصدق بأن عملية الاختطاف تمت فعلاً بسد الحميز!