يبدو ان "معركة" رئاسة الجمهوية قد فتحت باكراً في بيروت على رغم ان المدة التي تفصل اللبنانيين عن هذا الاستحقاق تقارب سنة وبضعة أشهر. ويبدو انها ستتكون من جولتين شرستين: 1 - جولة اقصاء الشخصية التي يعتبرها اللبنانيون والناخبون من كبار وصغار أنها الاوفر حظاً الآن للوصول الى سدة الرئاسة الاولى عندما يحين اوان هذا الاستحقاق الدستوري. ويتحد في هذه الجولة معظم الطامحين الى الوصول الى هذا المركز، على رغم الخلافات الكثيرة والكبيرة التي تفرقهم وينطلق بعضها من مصالح خاصة، في حين ينطلق بعضها الآخر من تباينات في تقويم الاوضاع الداخلية وتالياً في وسائل معالجتها. وهذه الشخصية الاقوى هي قائد الجيش العماد اميل لحود الذي أثار خوف الطامحين، على رغم انه لم يتحدث عن ترشيحه للمنصب الاول في الدولة ولم يفاتح أحداً لا في الداخل ولا في الخارج، وعلى رغم نفيه هذا التوجه كلما سئل عنه. ويبدو ان استخدام كل الأسلحة اللازمة في هذه المعركة مباح من أجل كسبها. ولهذا فإن جهد الطامحين، يضاف اليه جهد عدد من المراجع اللبنانية الكبيرة من رسمية وسياسة وربما دينية، ينصبّ حالياً، وسيبقى منصبّاً في الفترة المقبلة على إفقاد القائد لحود رصيده وصدقيته في أوساط الناس والناخبين الفعليين لرئيس الجمهورية، واللذين كانا ثمرة التقدم الكبير على طريق اعادة بناء المؤسسة العسكرية وابعاد العسكريين عن السياسية والسياسيين ومنع الجيش من التحول مراكز قوى لمجموعات سياسية وطائفية ومذهبية. فضلاً عن نجاحه في تنفيذ المهمات التي أوكلتها اليه السلطة السياسية، وكلها جسيمة وخطيرة وذات انعكاسات مهمة على البلد. التشكيك والتهويل واستعمل الطامحون وسيستعملون مستقبلاً، لتحقيق هدفهم، وسائل عدة منها دفع اللبنانيين الى التشكيك في حقيقة اهداف قائد الجيش وذلك بتصويره ساعياً الى منصب رئاسة الجمهورية، عن طريق استخدام الجيش لتنفيذ غايته واعتماده على نظافة كفه وعلى حسن سيرته اللذين لا يستطيع ان يشكك فيهما أحد. ومن شأن نجاحهم في ذلك اضعاف الهالة التي أحاطت به منذ توليه منصبه. ومن أساليبهم أيضاً التهويل والتحذير من قيام حكم عسكري في البلاد نتيجة وصول العماد لحود الى قصر بعبدا وان بالوسائل الديموقراطية. وهم يعرفون تعلق الناس بالحرية وبالنظام الديموقراطي ورفضهم القمع والتوتاليتارية. وسينطلقون في ذلك من التأكيد أن الوصول بالطرق الدستورية الى السلطة لا يعني قطعاً احتراماً للديموقراطية وللنظام البرلماني. إذ أن شيئاً او أحداً لا يستطيع ان يمنع ممارسة العسكر السلطة، وان من وراء الستار في المرحلة الاولى، وعلناً في مرحلة ثانية. وسيعطون مثلاً على ذلك ما جرى بعد ثورة العام 1958 عندما نشأ حكم عسكري مخابراتي بثياب مدنية استمر نحو 12 سنة، وقد انزعج اللبنانيون منه ثم رفضوه على رغم ان منشئه حاول في البداية إرساء أسس دولة قوية وعادلة تتيح فرصاً متكافئة للجميع. وسيعطون مثلاً آخر تجربة العماد ميشال عون في السلطة التي أوصلت البلد - في رأيهم - الى حال مأسوية وممارسات عسكرية مع النواب في اكثر من مناسبة. وسيشيرون الى ممارسة معينة لعناصر عسكرية حصلت مع وزير بارز قبل أكثر من سنة. وستكون اللافتات الكثيرة التي رفعت لمناسبة عيد الجيش في الاول من آب اغسطس الجاري، فضلاً عن الصور والشعارات، مادة لتعزيز مشاعر الشك في الجيش والتخوف منه. علماً أن هذه اللافتات رفعها بإيحاء معين فريق لا تتجاوز نسبته عشرة في المئة، وفريق ثان من المتملقين والذين يقفون مع القوي دائماً - وهؤلاء كثر في اوساط الشعب اللبناني - وثالث يؤمن فعلاً بالجيش، ورابع هدف اصحابه الى التنفير من الجيش وتشويه صورته والاساءة الى سمعة قائده. ولا يتوانى بعض المراجع، في هذه الجولة الشرسة، عن انتقاد "الشهابية الجديدة" التي ترفع جهات لبنانية معينة شعارها باعتبارها قادرة على معالجة المشاكل الداخلية، وعن انتقاد المؤمنين بها. ولا يتورع أيضاً عن اظهار اصراره على السعي للحؤول دون تعديل الدستور لانتخاب العماد لحود رئيساً للجمهورية. ويعتبر في هذا المجال ان المجلس النيابي لا يستطيع في الشهرين اللذين يسبقان الانتخاب القيام بأعمال اشتراعية، ما يقود الى ان انتخاب لحود الذي يعني ضمناً تعديلاً للقوانين لا يمكن ان يتم خلال هذه الفترة. وفي المجال نفسه سيحاول الطامحون والمراجع المتفقون على إقصاء لحود والمختلفون على أشياء كثيرة معظمها جوهري، الافادة من كون الجيش قام بالخطوات الاساسية التي اعطته الصدقية والرصيد المعروفين، وانه لن يكون في مقدوره تحقيق انجازات جديدة. الامر الذي يسهل النيل من قائده ووضعه على طريق الاهتراء. مرشحون للمراجع 2 - جولة المرشحين المتنافسين سواء نجحت عملية اقصاء العماد اميل لحود او فشلت او ادت الى اضعافه بعض الشيء الامر الذي يخفف من ضعف الآخرين. وستكون هذه الجولة حامية ايضاً استناداً الى المعلومات المتوافرة لدى اكثر من جهة. فالمرشح الاول والثاني والثالث لانتخابات رئاسة الجمهورية، لدى مرجع رسمي كبير، هو وزير الخارجية فارس بويز. واذا تعذر اقناع الناخبين الفعليين به فإن هذا المرجع يطرح بعيداً عن الاضواء اسم موظف مدني كبير لعمله جانب غير مدني وتربطه به علاقات وثيقة منذ سنوات. والمرشحان الاولان عند مرجع رسمي كبير آخر للانتخابات نفسها هما الشيخ ميشال الخوري الحاكم السابق لمصرف لبنان ونجل "ابي الاستقلال" المرحوم الشيخ بشارة الخوري، ونائب المتن نسيب لحود. علماً ان الشيخ ميشال أكد غير مرة في اكثر من مناسبة انه خارج حلبة التنافس على الرئاسة الاولى هذه المرة، وأبدى استعداده لكتابة شيء بهذا المعنى وتوقيعه وإرساله الى وسائل الاعلام اللبنانية... وعلماً أن الشخصية القوية والمستقلة للنائب لحود قد تخفف من بعض الحماسة إليه. وللمرجع نفسه مرشحان آخران، اذا تعذر ايصال الخوري ولحود لظروف معنية، هما الوزير والنائب جان عبيد والوزير والنائب ايلي حبيقة اللذان تربط كل منهما علاقة تحالف مع سورية وعلاقات صداقة مع كثير من المسؤولين الكبار فيها. ومرشح الساعة الاخيرة الذي قد يطرحه هذا المرجع الرسمي الكبير، علماً أنه يحاول اظهار دعمه له منذ الآن، هو نائب البقاع الغربي المحامي روبير غانم الجديد في "فن" السياسة. ومن الاسباب التي تدفعه الى هذا الطرح اعتقاده بأنه لا يواجه معارضة من المراجع الاخرى ومن الناخبين الكبار لانه لم يخطىء الى الآن وليس مشاكساً. يبقى مرجع رسمي كبير ثالث، وهو أبقى وقد يبقي طويلاً خياراته مفتوحة. أولاً لأنه يعتبر نفسه أقوى الناخبين المحليين بحكم موقعه. وثانياً بسبب علاقته الوثيقة بسورية، او بالاحرى لاقتناع سورية بقدرتها على الاعتماد عليه في اكثر من موضوع. وثالثاً لانه يعرف ان الالتزام منذ الآن قبل جلاء ظروف عدة قد يضعف قوته كناخب محلي. وهذا ما يرفضه في ظل الصراع بين المراجع خصوصاً اذا تكتل ضده المرجعان الآخران. وذلك قد يكون محتملاً على الاقل في المرحلة الاولى لا في المرحلة النهائية حيث هناك ضبط وضوابط وضابط وسقف. التمديد طويت صفحته؟ هل يعني ذلك ان خيار الانتخابات نهائي وان خيار التمديد سنتين للرئيس الحالي الياس الهراوي الذي تنتهي ولايته مطلع خريف 1995 قد طويت صفحته؟ مصادر سياسية واسعة الاطلاع لا ترى ذلك. فالى تلك الجولتين، هناك معركة ثالثة شرسة هي الاخرى تتعلق بالتمديد على رغم ان المعني الاول به، اي الرئيس الهراوي، يبدي رفضاً مطلقاً له امام زواره ولدى مفاتحته بهذا الامر. وفي هذا المجال فإن الرغبة في التمديد قد تكون بدأت بالاختمار لدى الهراوي. وتدل إلى ذلك اشارات عدة منها اعتباره ان سن وزير الخارجية فارس بويز الذي لا يتجاوز 39 عاماً قد تحول، الى عوامل اخرى، دون اتخاذ الناخبين الفعليين قراراً يمهد الطريق امام وصوله الى بعبدا. وذلك لم يكن يحصل قبلاً. ومنها ايضاً الكلام الذي نشر عن اندفاع مراجع معينة في الدعوة الى التمديد. ومنها ثالثا المحاولات التي تجريها جهات معينة مع مرجعيات مسيحية - وتحديداً مارونية - معنية مثل غيرها وربما اكثر من غيرها باستحقاق الانتخابات الرئاسية لاقناعها بقبول التمديد. وتنطلق المحاولات من دغدغة مشاعر هذه الجهات ومواقفها حيال الوضع برمته. فالتمديد سيعني، في حال حصوله، ان مجلس النواب الحالي الذي تنتهي مدته صيف 1996 لن ينتخب رئيس جمهورية ما بعد التمديد، وانما مجلس آخر منتخب في ظروف مختلفة عن ظروف انتخابات المجلس الحالي. مما يعني احتمال تمثيل تيارات مسيحية عدة فيه. ومعروف ان معظم الفاعليات المسيحية السياسية والدينية يعتبر ان تمثيل المجلس الحالي للبنانيين منقوص، وتحديداً للمسيحيين وللموارنة خصوصاً. ومعروف ان سبب ذلك مقاطعتهم الانتخابات في حينه. وترى المصادر السياسية الواسعة الاطلاع نفسها، ان الهدف من اندفاع كثيرين في السعي الى التمديد ربما كان الحؤول دون وصول قائد الجيش الى بعبدا. كما قد يكون محاولة يستهدف خصوم الرئيس من ورائها توريطه وافقاده "الرصيد" الذي جمع خصوصاً في اوساط معينة، لكنه في كل الاحوال مرتبط وسيبقى مرتبطاً بعوامل عدة أبرزها: محلي يتعلق بالمجلس النيابي وتحديداً برئيسه نبيه بري الذي لا تشير مواقفه العلنية ولا المعلومات الموثوق بها عن تحركاته انه متحمس الى التمديد. وخارجي يتعلق بسورية الموجودة في لبنان، والمعنية به وصاحبة الدور الاساسي فيه باعتراف جهات دولية عدة. وعلى رغم ان اشارات واضحة منها عن هذا الموضوع لم تظهر بعد ربما لان الأمر لا يزال مبكراً فإن عدداً من القريبين منها يرجحون ألا تماشي التمديد. وقد تظهر ذلك قريباً من خلال مواقف واضحة لشخصيات سياسية ونيابية فاعلة قريبة منها، وتحديداً من خلال اثارة مواضيع يمكن ان تعيد "التنافس" بين المرشحين والمراجع الداعمين لكل منهم. وتعتقد المصادر السياسية ان قائد الجيش العماد اميل لحود لا يتأثر كثيراً بالمحاولات التي تستهدفه، فهو يتابع عمله في المؤسسة العسكرية على النحو الذي بدأ من دون اي اعتبار لأي عامل آخر. وتقول ايضاً ان الحركة الجارية سواء من الخائفين منه ومن وصوله الى السلطة او من مؤيديه على أهميتها، لن يكون لها التأثير الحاسم في الانتخابات الرئاسية. فالتأثير سيكون للناخب الكبير وللناخبين الكبار. فإذا قرروا ان الافضلية في الرئاسة الاولى لمدني سينتخب مدني. واذا اعتبروا ان المصلحة تقتضي عسكرياً بلباس مدني سينتخب عسكري بلباس مدني. لكنها تلفت الجميع، في هذا المجال، ولا سيما منهم العاملين على منع ايصال لحود الى بعبدا، الى ضرورة عدم الانجراف في "المعركة" لتتحول تهديماً للجيش. وقد حصل هذا قبل سنوات عندما عاقب "المدنيون" بعد انتصارهم على "العسكر" الجيش كله وليس العناصر التي أخطأت منه. وكان ذلك الباب الذي دخلت منه الريح وعصفت بلبنان أكثر من 16 سنة.