لا بد ان نعترف، انه مهما كانت نزاهتنا، فنحن نكتب - أيضاً - لنكذب. والذين يدّعون انهم يكتبون ليكونوا صادقين الى أبعد حدّ. يضحكونني في سذاجتهم. أو في غشهم المطلق. فالكتابة مراوغة مستمرة مع الذات. تحايل دائم على الآخرين، اختبار دائم لقدرتهم على قراءة البياض. وقدرة الزمن على الاحتفاظ بالسواد من الكلمات. في الواقع، نحن نكتب دائماً نصنا خارج النص. ولذا في كل كتبنا صفحة من البياض المطلق، وحدها قصتنا. صفحة هي كفن الكلمات التي ستموت معنا. فكفن الكاتب - كحياته - ليس سوى ما بقي من بياض بين صفحات كتبه. وما بقي من ورق أبيض على طاولته. منذ الأزل، نحن نكتب، وندري تماماً. انه في نهاية كل كتاب، ينتظرنا حاجز تفتيش، ينبش في أفكارنا... يفسّر أحلامنا، يتربص بنا بين جملتين... يفسر صمتنا، ونقاط الانقطاع بين كلماتنا. ولكن الجديد، اننا كنا نكتب لقارئ مجهول... فأصبحنا نكتب لقاتل مجهول، يحكم علينا حسب مزاجه. كنا نعرف الرقيب، فنواجهه أو نتحايل عليه. فأصبحنا لا ندري من يراقب من، وما هي المقاييس الجديدة للكتابة. الجديد في الكتابة اليوم، ان القمع كان يأتينا من السلطة ومن الأهل. فأصبح يأتينا من القارئ نفسه. وهكذا، انقلبت أحلامنا تماشياً مع انقلاب المنطق. كنا نحلم ان نكتب كتباً جديدة. فأصبحنا في الجزائر نحلم باعادة طبع كتبنا القديمة. فما كتبناه منذ عشرين سنة... لم نعد نجرؤ على كتابته اليوم. كنا نحلم ان نعيش يوماً بما نكتب. أصبحنا نحلم ألا نموت يوماً بسبب ما نكتب. كنا نكتب ونحن نحلم بوطن نموت من أجله. فأصبحنا نكتب لوطن نموت على يده. كنا في بدايتنا، نحلم ان نغترب ونصبح كتاباً مشهورين في الخارج. اليوم وقد أصبحنا كذلك، أصبح حلمنا ان نعود الى وطننا لبضعة أيام... ونعيش فيه نكرة قدر الامكان. منذ عشرين سنة، كنت أحلم ان تصلني فيه يوماً دعوة من باريس لألقي فيها محاضرة. اليوم، اصبحت أمنيتي ان تصلني دعوة من الجزائر ألقي فيها المحاضرة نفسها التي ألقيتها في باريس... وأعود بعدها الى أولادي. منذ عشرين سنة، كنت احلم ان أقرأ شعراً في بيروت على جمهور راقٍ. ولكنني يوم وقفت منذ سنتين لأقرأ شعراً في بيروت... غادرت القاعة وأنا أبكي... فلقد اكتشفت بعد هذا العمر... ان امنيتي اصبحت ان أقرأ شعراً في الجزائر... وان هذا لن يحدث أبداً بعد الآن. لقد تواضعت احلامنا كثيراً في زمن قصير. نحن كتاب الجرح العربي. انهكتنا الهزائم القومية. والخيبات الوطنية. بين زمن الموت... وزمن الذهول. دخلنا الزمن المضاد للكتابة. واذا كان هذا الواقع جحيم الكتاب وحتفهم. فميزته انه اعادة اعتبار للكتابة. ومناسبة لاعادة النظر بالنسبة للذين استرخصوا الكلمة طويلاً. وتطاولوا على شرف القلم. ليعوا انه لم يعد هناك من نص مجاني. وانه حان للذين هم ليسوا كتاباً، ان ينسحبوا ويتركوا هذا الجحيم للآخرين. لكتاب رائعين، هم الشهداء الاحياء للكلمة. لعشرات المبدعين الجزائريين، المشردين والباحثين عن مأوى لهم ولأولادهم. وعن مساحة صغيرة، يعيشون ويكتبون فيها. تكون أكبر قليلاً من قبر... وأقل كثيراً من وطن! * كاتبة جزائرية.