لم تعد "السينما العربية الجديدة" أسطورة تتحرّك في ضبابها حفنة من المخرجين الشباب يفتقرون الى النضج والتجربة والى معرفة الواقع، ولا مصطلحاً نقدياً فارغاً - ينطوي على كثير من الادعاء - يزيّن به النقاد وهواة السينما كتاباتهم ومناقشاتهم. فهذا التيار الذي يتسع لتجارب متناقضة أحياناً، يجمع بينها الانتماء الى زمن وقيم ومشاغل مغايرة، الى أساليب في قول الذات والتعبير عن العالم والانتماء الى العصر، تختلف عن الأساليب والمشاغل السائدة... هذا التيار هو اليوم أمر واقع، رسّخته تجارب الثمانينات، وأكدت حضوره. لكن كمية المصاعب والتحديات التي يواجهها مخرجو "الموجة الجديدة"، وهم ينتمون حكماً الى "سينما المؤلف، زادت وتضاعفت مع الزمن، ما يعكس عبثية الحياة الثقافية في العالم العربي، بقدر ما يمكن اعتباره ترجمة لأزمة شاملة لا تقتصر فقط على الجنوب، أزمة تبدأ عند فقدان القيم والمعايير وانهيار النماذج الجاهزة، ولا تنتهي عند منافسة التلفزيون: تلك الأداة الخطيرة والمتسلطة التي يعتبر يسري نصرالله أنها "أستولت على جمهور السينما وأفسدت ذوقه"، بينما يرى فيها نوري بوزيد فرصة لدعم انتشار السينما الجادة "لو أن كل تلفزيون عربي يقدّم فيلماً عربياً واحداً في الشهر". انتهزت "الوسط" فرصة انعقاد "مهرجان السينما العربية" في باريس قبل أسابيع، لتجمع فوق صفحاتها آراء وشهادات ثمانية من أبرز ممثلي السينما العربية، هم حسب التسلسل الابجدي: فريدة بليزيد المغرب، نوري بوزيد تونس، مرزاق علواش الجزائر، برهان علويّة لبنان، رضوان الكاشف مصر، نبيل المالح سورية، رشيد مشهراوي فلسطين ويسري نصرالله مصر. مع هؤلاء تناولنا بعض القضايا الجمالية، بدءاً بموقع السيناريو من السينما الجديدة، والمكانة التي يحتلها الاثر الادبي في تجربة كل من هؤلاء السينمائيين. كما تطرق النقاش الى كيفية وصول الافلام العربية الجادة الى جمهورها، عبر الحواجز والحدود، وفي ضوء غياب البنى التحتية وشبكات التوزيع، وسياسات الدعم والتنمية، واهتمام الحكومات على اختلافها من جهة والمنتجين المستقلين من الجهة الأخرى. فمتى يتولّى العرب انتاج صورتهم بأنفسهم؟ والى أي مدى يصح ما يراه برهان علويّة من أننا "نخاف نحن العرب، عندما نشاهد صورتنا على الشاشة، فيخيّل الينا أننا نشاهد فيلماً خلاعيّاً!"؟ نوري بوزيد: نحن العرب لا نعترف للمخرج بصفة المؤلف موقفي من قضية الاقتباس الأدبي في السينما ربما كان فيه نوع من الغرابة! فحتى أشهر قريبة، كنت أقول إنني ضد أي تحويل لنص روائي الى فيلم، لإيماني بأن لغة السينما شيء ولغة الأدب شيء آخر. ولذا فإن الاقتباس يحط من قيمة العمل الأدبي ويحط من قيمة السينما وقوة تعبيرها. والجديد الآن أنني أحضّر لتحويل رواية عربية معروفة الى فيلم. لكنه تحويل مغاير تماماً للاقتباس الأدبي الحرفي. فأنا أريد كتابة سيناريو يستوحي روح الرواية عبر لغة سينمائية، من دون نقل تفاصيل الرواية وأحداثها الأصلية حرفياً. وحتى بالنسبة الى الشخصيات فإنني في السيناريو أسقط العديد من شخصيات الرواية الأصلية، وأخلق شخصيات جديدة، تبعاً لما يتطلبه ايجاد معادلات أسلوبية سينمائية، تنقل أجواء الرواية وروحها بالعمق نفسه الذي عبر عنه النص الأصلي المكتوب. وهذه مهمة ليست سهلة، لأن سحر الكلام الذي يشكل قوة العمل الأدبي يجب ايجاد ما يعادله في لغة السينما. نظرتي الى المسألة لا تزال على حالها في العمق إذاً، على الرغم مما قد يبدو عليه الامر ظاهرياً. فأنا ما أزال مقتنعاً أن النقل الحرفي للرواية يحط من قيمتها ومن قيمة السينما. وما أنا مقبل عليه في فيلمي المقبل هو تجربة مغايرة تماماً. سأستعير من الرواية شخصية واحدة محورية، وأعيد كتابة العمل كله انطلاقاً من هذه الشخصية. وأعتقد أن هذا ممكن، شرط ألا يكون لكاتب النص الأصلي أي تدخل. طبعاً أنا كسيناريست أتعهد باحترام النص الأصلي، لكن هذا الاحترام لا يتحدد بالنقل الحرفي، إنما بحرص السيناريو على الامانة في نقل روح النص الأصلي من عالم الأدب الى لغة السينما. وأين الضرر من الاتيان بعناصر جديدة تثري العمل الأصلي؟... بالنسبة إلي، للسيناريو - سواء كان أصلياً أو مقتبساً - مكانة أساسية، في حياة الفيلم وشخصيته. فهو الذي يعطي للعمل اتجاهه وبنيته وأسلوبه وجماليته. وهذه العناصر الأربعة التي هي أساس نجاح أي عمل سينمائي، لا تتحدد فقط بالاطار المصور وبعمل المخرج وحده، بل أيضاً ببناء الشخصيات وشاعريتها، وغير ذلك من العناصر التي لا تتبلور أثناء كتابة السيناريو والحوار. وأنا كتبت سيناريوهات لغيري، وأقبل مبدئياً العمل على سيناريو كاتب غيري. ولكنني في كل الحالات، أقول ان للمخرج الحرية التامة في أن يعدل ويغير في السيناريو، كما يشاء. لأن السيناريو - على أهميته - ما هو الا عنصر من عناصر العمل السينمائي كما يظهر بعد اكتماله. السيناريو شيء عابر مكتوب عليه أن يختفي تدريجاً، كلما تقدمنا في انجاز الفيلم. لنقل أنه أشبه بالدعائم الحديدية التي يقيمها البناؤون أثناء انجاز عمارة ما. من دون هذه الدعائم لا يستوي المبنى ولا يمكن أن ينجز. ولكن عندما يكتمل البناء فان هذه الدعائم مصيرها أن تزاح وتختفي. والسيناريو هو النطفة الاولى التي يتكوّن منها جنين الفيلم، فاذا كانت أصيلة يأتي الفيلم أصيلاً. كما أن الفيلم يخرج من السيناريو كما تخرج الفراشة من شرنقتها... لكنني حين أتحدث عن المكانة الأساسية للسيناريو، فإن هذا لا يمنعني من أن أقول رفضي للميثولوجيا التي يراد اضفاؤها على السيناريو في السينما العربية. فحتى بعد انتهاء التصوير، تبقى للمخرج امكانات لا تحصى لتغيير العمل جذرياً، حين يكون على طاولة التركيب. فبنفس فبالصور نفسها، يمكن أن نركّب عشرة أفلام مختلفة. وهنا تكمن قوة السينما. لهذا أقول أن المخرج هو الكل، ولو لم يكن هو كاتب النص الأصلي. وأدافع عن هذا الكلام حتى عندما يتعلق الأمر بسيناريو أكتبه لمخرج غيري. فأنا أترك له كل الحرية في التصرف والتعديل، لأن العمل السينمائي في النهاية يُحسب عليه، وهو المسؤول الأول عنه. وأعتقد ان هناك، في الأوساط السينمائية العربية، مبالغة في التركيز على أهمية السيناريو. وكثيرون يعتبرون غياب "الحدوتة" ضعفاً في السيناريو. وهذه نظرة قديمة ومتجاوزة. ورأيي انه متى بلغنا مستوى معيناً من التجربة، يصبح الباقي كله خيارات. فحين أرى فيلم مرزاق علواش الأخير، لا أقول أنه أخطأ، وكان الأجدى لو اختار أسلوباً آخر، بل أقول انه اختار الأسلوب الذي يراه مناسباً، وهذا الأسلوب لا يوافق ذوقي أنا شخصياً. لكن هذا لا ينتقص من منزلة المخرج ولا من قيمة عمله فأنا مهما اختلفت مع مخرج ما، إلا أنني أحترم حقه في أن يبدع بالطريقة التي تناسبه. أنا مخرج أحب أن أمارس "جنوني" في السينما. ومن منا لا يحب "جنون" يوسف شاهين مثلاً؟ لكننا نحن العرب لا نعترف للمخرج بصفة المؤلف، وكثير من نقاد السينما العربية يرفضون الاعتراف للمخرج بهذه الصفة، ويريدون مصادرة حقه في أن يمارس حريته، وأن يعبر عن ذاته وفنه بالشكل الذي يراه الأمثل. وبدل أن يحاول هؤلاء النقاد التدخل في عمل المخرج، لتحديد ما يحق أو لا يحق له، لماذا لا يركزون جهودهم على فتح النقاشات الجوهرية التي تطرح الآن على السينما العربية، ويتوقف عليها مستقبل هذه السينما؟ السينمائيون العرب اليوم ينجزون أفلاماً نوعية بإمكانها أن تستقطب جمهوراً معتبراً، داخل البلاد العربية وخارجها. لكن حواجز كثيرة تحول دون توزيع هذه الأفلام بالشكل اللازم، خاصة في بلداننا العربية. وبدون الجمهور، ما جدوى أو أهمية عمل سينمائي ما؟ صحيح أننا كسينمائيين لدينا مشاريع وأحلام وهواجس فنية نريد تحقيقها من خلال أفلامنا. لكننا في النهاية لا ننجز هذه الأفلام لأنفسنا، بل نريد لها أن تصل الى أكبر قدر ممكن من الناس. بالطبع العلاقة التي أنظر بها أنا شخصياً الى الجمهور ليست علاقة تملّق، بل هي تقوم على نوع من الاستفزاز يهدف الى تقديم اضافة الى هذا الجمهور، ودفعه الى التأمل والتفكير بأشياء ومسائل ربما لم يكن في البداية مستعداً أو متحمساً للخوض فيها. هذه هي رسالة السينما، والفن عموماً، وهذا ما يميزها عن الفكر السياسي! ولذا من المهم أن يصل الانتاج السينمائي والفني عموماً الى الجمهور في أقرب وأحسن الظروف، لأنه يؤسس لقيم جديدة ويساهم في تهيئة المجال دوماً لما هو أفضل. وهذا من دون السقوط في حسابات السياسة التي هي: الأغلبية، والأقلية، والسلطة، والمعارضة... الخ. الفنان لا يهمه كل هذا، ولذلك فهو على عكس السياسي الذي يريد ترضية الناس دوماً. الفنان يستفز الناس، وربما كلما كان أكثر استفزازاً كلما نال اعجاب الجمهور أكثر. لأن علاقة الفنان بالناس ليست علاقة "زبائنية"، مثلما هي بالنسبة الى رجل السياسة، بل هي علاقة أكثر دفئاً وحميمية، ولذلك فإن أثرها على أحاسيس الناس أكثر عمقاً. والسؤال الذي يطرح اليوم بحدة هو كيف تصل أفلام السينمائيين العرب الى جمهورها في كامل البلاد العربية، في ظل غياب موزعين يغطّون عدداً معقولاً من البلدان العربية، وفيما قاعات العرض تتدهور باستمرار وتخضع لمعايير تجارية، بالمعنى المبتذل، مما يحول دون تكريس عادات سينمائية تخلق جمهوراً منتظماً ووفياً لهذا الانتاج؟ يضاف الى هذا الحاجز الذي يعترضنا نحن سينمائيي المغرب العربي، حيث تغلق في وجهنا تماماً سوق السينما في المشرق العربي... كل هذا يجعلني أقول إنني لا أرى حلاً في القريب العاجل، سوى التلفزيون. لو أن كل تلفزيون عربي يقدم فيلماً عربياً واحداً كل شهر، بالاضافة طبعاً الى الأفلام المصرية التي تغص بها الشاشات الصغيرة والكبيرة، فإن الحواجز سترتفع قليلاً. وربما نكون أوجدنا حلولاً موقتة لمشكلة وصول السينما العربية الى جمهورها، في انتظار إرساء تقاليد توزيع عربية بديلة من حالة الفوضى الحالية. * آخر أفلامه: "بزناس" 1992 نبيل المالح: مطلوب صندوق عربي لدعم السينما أنا عملياً أكتب كل سيناريوهات أفلامي بنفسي، في ما عدا أربعة أو خمسة أفلام أخذتها من أعمال أدبية، بينها "الفهد" عن قصة لحيدر حيدر، "بقايا صور" عن رواية لحنّا مينه، وقصة محكية رواها لي نجيب سرور وصُغتُ منها سيناريو، وقصة بوليسية أجنبية اقتبست منها فكرة فيلم سياسي هو: "السيد التقدمي". أما بقية أعمالي، فكتبتها بنفسي. وأنا بصراحة لا أقدم على تجارب الاقتباس إلا إذا وجدت الرواية التي تمنحني، بأجوائها وأشكالها، ايحاءات خارقة. وحتى في هذه الحالة، لا أستفيد عملياً إلا من بُنى الشخصيات ومن الحدث الدرامي الأساسي. وفي الغالب أحب تأليف نص أصلي خاص بالسينما، لأنني أعتقد أن هذه هي الطريقة الأسلم للتعامل مع لغة السينما. وأعترف أنه من الصعب عليّ أن أتعامل مع سيناريو كتبه غيري. فأنا أحاول أن أضع أسلوبي وبصْمتي على الشكل السينمائي، ويجب أن يبدأ هذا من السيناريو نفسه، فأسلوب العمل يتشكّل أساساً أثناء كتابة السيناريو. وأشك في أنني يمكن أن أشتغل يوماً على سيناريو لغيري. أو لنقل أنه لم يقع بين يدي حتى الآن السيناريو الذي يغريني بأن أقدم على اخراجه. أما بالنسبة الى مسألة الجمهور، فإنني ألاحظ أن هذه الاشكالية تزداد تفاقماً، خاصة مع هيمنة التلفزيون، وتحول رؤوس الأموال الى الاستثمار التلفزيوني الذي هو أسرع ربحاً، لكنه في الحقيقة ليس الأكثر ربحاً. واعتقد ان الأمور على مرّ السنوات لم تكفّ عن التدهور، وهي ما تزال تسير نحو الأسوأ. ولا بد من أن نتوصل الى انشاء صندوق للسينما العربية، أو صناديق وطنية للسينما على مستوى كل قطر. لأن السينما تبقى هي الواجهة الحضارية لأي بلد، ولا بد من الحفاظ عليها وتطويرها. وفي الظروف الحالية، لا أعتقد بأن السينما العربية - كصناعة - مقبلة على الانتعاش. وهناك مشكلة أخرى تطرح هي أيضاً بشكل متزايد، وهي مشكلة التوزيع. ففيلمي الأول "الفهد" 1972 عُرض في مهرجانات عدة، فاستقطب اهتمام الموزعين، ووزِّع في أكثر من أربعين دولة عبر العالم. لكن آفاق التوزيع بدأت تضيق تدريجاً في ما بعد، الى درجة أنني قررت أن أتكفل بنفسي بتوزيع فيلمي الأخير: "كومبارس". وأنا حالياً أناضل من أجل ذلك، وأجد نفسي مأخوذاً في متاعب لا حصر لها بين شركات التوزيع والتلفزيونات. والحقيقة القاسية التي لا بد أن نعيها اليوم هي أنه لا وجود لسوق عربية للفيلم العربي - غير المصري - وأعتقد أن تغيير هذا الوضع لا يتحقق بواسطة فيلم أو اثنين أو عشرة أفلام، بل بمنهجية جديدة ومتكاملة لعرض وتوزيع الأفلام العربية، في كامل بلدان العالم العربي. وهذا عمل طويل المدى. وفي الانتظار، فإن نضالاتي من أجل توزيع فيلمي بنفسي اعتبرها جزءاً من نضالي الشامل من أجل سينما استطيع أن أعبّر من خلالها عن ذاتي ووطني، وتكون في الوقت نفسه واجهة حضارية، ومنبراً ديموقراطياً أقول عبره فني وأفكاري. وأنا أضم صوتي الى أصوات زملاء آخرين، أمثال: نوري بوزيد، وفريد بوغدير، ومرزاق علواش، وأصدقاء آخرين من مصر أو من عندنا في سورية. لكن كل هؤلاء لا يملكون حتى الآن، للأسف، قوة مشتركة، ولا يشكلون كتلة فاعلة منظمة. بل أن أعمالهم لا تزال ثمرة جهود فردية، ومجرد لمعات لمخرجين يعملون وفق ما تتيحه لهم الظروف، وليس ضمن استراتيجية محددة وموحدة. * آخر أفلامه: "كومبارس" 1993 رشيد مشهراوي: الانتاج المشترك ومهرجانات السينما العربية أنا شخصياً لست متحمساً لاستعمال الادب في السينما، بل أميل أكثر الى أسلوب التجريب. وهذا لأنني أؤمن بعالمية السينما، وبالتالي فلا يجب أن نسقط عليها هويات محددة، كما في الأدب. قد يكون هناك أدب عربي، وآخر أوروبي، أو أميركي... الخ، لكن السينما واحدة عبر العالم كله. قد يكون فيلم أنجزه مخرج تونسي، أو مخرج فلسطيني يحمل قضية شعبه كله. لكن الفيلم يجب أن يبقى شخصياً، وأن يختار لغة سينمائية تكون مفهومة من الجمهور في مختلف البلدان، ويمكن أن يستوعبها جميع البشر. وهذا لا يتحقق إلا إذا كان فننا يركز على ما هو مشترك بين كل البشر. فإذا استطاعت أفلامنا أن تعكس انسانيتنا، فإن المجال سيكون مفتوحاً أمامها بالتأكيد للوصول الى الجمهور في مختلف بقاع العالم. وأنا بحكم طبيعة الأفلام التي أنجزها، أميل أكثر الى الاشتغال على سيناريوهات أكتبها بنفسي. وهذا لكي تكون لدي فكرة واضحة منذ البداية عما أريد تصويره، وأيضاً لكي أكون حراً في التصرف والتغيير، سواء خلال المونتاج أو أثناء التصوير أو على مستوى المعالجة بشكل عام. ولكن هذا لا يمنع أنني كمخرج يمكن أن أعجب بسيناريو كتبه شخص ثانٍ، وأكون مرتاحاً له كما لو أني كتبته بنفسي. وفي هذه الحالة، لا مانع من الاشتغال على هذا السيناريو. واذا كان هذا النقاش عاماً ومشتركاً بين مختلف مخرجي جيلي في العالم العربي، فإن مشاكل التوزيع وكيفية الوصول الى الجمهور، تكتسب بالنسبة الى سينمائي فلسطيني بعداً خاصاً يجعل المعالجة من زاويتي مغايرة عن الزملاء الآخرين. ينطلق وضعنا، نحن السينمائيين الفلسطينيين، من كوننا بلا دولة، لا نملك مؤسسة ثقافية ترعى السينما. وليست لدينا قاعات عرض ولا تلفزيونات، الخ. ولهذا كله يبقى مفروضاً علينا أن نمر عبر الانتاج المشترك. ونحن نلتفت، أول ما نلتفت، الى البلاد العربية. لكننا للأسف نجد أنها تعاني من مشاكل لا حصر لها، منها ما يمس الانتاج ذاته ايجاد الموازنات، الامكانات والوسائل التقنية... الخ، ومنها ما هو متعلق بالمصاعب التي أصبحت تعترض توزيع السينما العربية في بلدانها الأصلية ذاتها، لأن السينما الأميركية والأوروبية أصبحت مهيمنة حتى على أسواقنا العربية. وأمام وضع كهذا، لا يبقى لنا سوى الانتاج المشترك مع دول أوروبية. وهو ما اعتمدته في أفلامي الستة التي أخرجتها حتى الآن. وأعتقد أن هذه التجربة تسمح بتخطي العديد من الحواجز والعقبات. فمن جهة تتوافر لدينا الامكانات المالية والوسائل التقنية اللازمة، ومن جهة أخرى يسهل علينا توزيع الفيلم. وحين يكون الانتاج مشتركاً مع مؤسسة تلفزيونية أوروبية، فإننا نضمن أن الفيلم سييبث عبر هذا التلفزيون. أما حين يكون الانتاج مشتركاً مع مؤسسة انتاج أو توزيع، فإننا نضمن أن هذه المؤسسة ستسهر على توزيع الفيلم بشكل جيد، لأنها شريكة في الاستثمار، ويهمها أن تكسب من ورائه. ولكن السؤال الذي يبقى مطروحاً يتعلّق بكيفية إيصال أفلامنا الى المشاهد العربي. وللأسف ليس أمامنا في الوقت الحالي أية وسيلة أخرى، غير مهرجانات السينما العربية. والمفارقة أننا في هذه المهرجانات العربية نلتقي منتجين وموزعين من كل بلدان العالم، يأتون للبحث عن أفلام جيدة ليوزعوها في بلدانهم، أو عن مشاريع جديدة يعرضون مشاركتهم في انتاجها. لكننا لا نلتقي مطلقاً موزعين أو منتجين عرباً! * آخر أفلامه: "حتى اشعار آخر" 1993 يسري نصرالله: السينمائي العربي مطالب بتجاوز الحنين الى الماضي أعتقد أن السينما العربية اليوم تشهد أزمة سيناريو حقيقية، سواء تعلق الأمر بسيناريوهات مقتبسة أو مكتوبة مباشرة عن فكرة أصلية. وهذه الأزمة برأيي هي الأزمة ذاتها التي تعرفها الرواية العربية اليوم. فباستثناء تجارب روائية قليلة، تبدو الرواية العربية متأخرة عقوداً كاملة. وأغلب التجارب الأدبية ما تزال غارقة في النقاشات والمسائل التي كانت تطرح في الستينات، والتي تدور في الغالب حول علاقة الأدب بالسلطة، وهو محور أدبائنا المفضّل! في حين أن ما يشهده الواقع تجاوز هذه المسائل تماماً. فأنظمتنا اليوم مشرفة على الانهيار، ودور الدولة المهيمن لم يعد كما كان قبل هزيمة 1967، وقبل حرب لبنان، وحرب العراق، وانهيار الكتلة الاشتراكية... الخ. لكن حركتنا الثقافية تكاد لا تبصر هذا التحول، وهي لا تزال عاجزة عن التعامل معه واستنتاج تبعاته وعواقبه، وبالتالي محاولة بلورة دور أكبر للفرد في رواياتنا كما في أفلامنا. اليوم نحن جزء من هذا العالم الجديد الذي يشهد تحولات جذرية عاصفة، منذ نهاية الحرب الباردة وتراجع الصراع القديم القائم على ثنائية التضاد بين الشرق والغرب. ولا يمكننا أن نستمر طويلاً في إغماض أعيننا عن التساؤلات الكبرى التي تواجه كل شعوب العالم حالياً. نحن مطالبون بالتعامل مع هذه المعطيات الجديدة، ومحاولة اكتشاف وبلورة علاقات جديدة بالواقع، تجعل لانتاجنا الثقافي معنى في المستقبل. هذا هو المنطلق الذي أتعامل به مع السيناريو أو الرواية اللذين أريد الاشتغال عليهما. والفيلمان اللذان أخرجتهما حتى الآن "سرقات صيفية" و"مرسيدس" يحاولان، على الرغم من كل عيوبهما، طرح هذه الاشكالية: اشكالية الفرد المطالب ببلورة قيم جديدة وفهم جديد للواقع. ففي "مرسيدس" شخص تعوّد على النظر الى الواقع من خلال الايديولوجيا الاشتراكية. فلما انهارت هذه الايديولوجيا، وقف عارياً لا يدري كيف يواجه الواقع الجديد. والفرد العربي اليوم يقف هذا الموقف الحائر نفسه، أمام انهيار الدولة. ولذلك فهو ينقلب نحو الجماعات الاسلامية، علّها تؤدي الدور الذي كانت الدولة تؤديه حتى الآن، وتريحه من مواجهة التساؤلات الكبرى التي يفرضها عليه هذا الواقع الجديد. والسينمائي العربي الذي هو جزء من هذا الواقع المتعثر والحائر، مطالب اليوم بأن يتجاوز الحنين الى الماضي، وأن يدرك ما للفرد من أهمية، وأن يعطي لهذا الفرد البسيط الذي زعزعته كل هذه التحولات العاصفة، الرغبة في العيش ومجابهة المستقبل. لكن كل أفلامنا الحالية مغرقة في الكآبة، وهي جميعاً تنتهي إما بالجنون أو الموت أو الانتحار أو الزواج، وكل هذه النهايات كارثية لا تشجع على الحيوية واحتضان الحياة والأمل بالمستقبل. وهذه هي برأيي المشكلة الأساسية التي تواجه السينما العربية، بالاضافة طبعاً الى مشاكل الرقابة، وفوضى التوزيع، وعدم وجود قوانين تحمي حقوق السينمائيين. صحيح أن هناك رقابة على السينما في مصر، لكنني في النهاية استطيع أن أنجز فيلماً مثل "مرسيدس" بالشكل الذي أريده، دون أن تلغي الرقابة مشهداً واحداً منه. ولكن في ما بعد، حين يوزّع هذا الفيلم في هذا البلد العربي أو ذاك، تضيع حقوقه وأحياناً أجد أن أجزاء كاملة منه تُحذف. ولا توجد أية قوانين تحميني من هذه القرصنة. ولدي شعور بأن هناك تعمداً رسمياً في الحفاظ على هذا الفراغ القانوني، لأن السلطة تنزعج كثيراً من السينما. فهي لا تستطيع التحكم فيها بالقدر نفسه والسهولة ذاتها اللذين تتحكم بهما في قنوات ثقافية أخرى، كالتلفزيون وغيره... وأعتقد أن هذا الموقف - غير المعلن - هو السبب الحقيقي لكل الحواجز التي تحول دون وصول السينما العربية الى جمهورها بالشكل المطلوب. فحين يُطلب مني أن أدفع مقابل الدقيقة الواحدة من الدعاية عن فيلمي الجديد في التلفزيون ما لا يقل عن 1500 جنيه، في حين أن التلفزيون نفسه يشتري حقوق عرض فيلمي ب 8000 جنيه فقط، يتضح لي أن للدولة والمؤسسات الثقافية التابعة لها ضلعاً ما في القرصنة التي تعاني منها السينما. ولذلك فإنني لا أثق كثيراً في وجود إرادة سياسية لاتخاذ الاحتياطات القانونية اللازمة لحماية حقوق السينمائيين. والمؤسسات الثقافية ذاتها، التابعة للدولة، هي المسؤولة عن وضع قاعات العرض. ففي مصر اليوم لم يبقَ سوى 120 قاعة عرض لأكثر من 55 مليون مشاهد! وأمام وضع كهذا، عن أي جمهور نتحدث؟ خاصة وأن أوضاع السينما في أغلب البلدان العربية الأخرى أسوأ بكثير مما هي عليه في مصر. الجمهور في البلاد العربية اليوم استولى عليه التلفزيون. ولا بد من التنبه الى أنه لو كانت هناك دور عرض سينمائية في القرى، لما هبّت رياح التطرّف. فحين تسلم التلفزيون هذا الجمهور، أنظر ماذا فعل به. انه هو الذي ربّى التطرف، لأنه لم يكن سوى أداة لتيئيس الناس وإفساد أذواقهم و"تعبيطهم". * آخر أفلامه: "مرسيدس" 1993