عرفت العمليات ضد الأجانب في الجزائر تصعيداً خطيراً بعد خطف سفير سلطنة عمان والسفير السابق لليمن. وكانت هذه العمليات قد تجددت بعنف بمناسبة اجتماع قمة الدول الصناعية السبع في نابولي. عشية افتتاح القمة اغتيل سبعة ايطاليين من طاقم باخرة راسية في ميناء جنحن جيجل في احدى المناطق الساخنة في المواجهة الضارية بين النظام الجزائري والمعارضة الاسلامية المسلحة. وغداة اختتامها، اغتيل يوم 11 تموز يوليو، وفي قلب العاصمة، سبعة أوروبيين من جنسيات روسية وأوكرانية ويوغوسلافية ورومانية، يعملون في التنقيب عن النفط والمياه. ويضع هذا التصعيد المفاجئ والخطير سلطة الرئيس زروال - ومن ورائها الجيش - أمام امتحان عسير: فالهجوم يستهدف مباشرة مصداقية الجزائر على الصعيد الدولي، وهيبة الدولة على الصعيد الداخلي. أي ان الذين يقفون وراء هذه العمليات يريدون ان يقيموا الحجة على فشل مدبّري انقلاب 11 كانون الثاني يناير 1992 في تحقيق واحد من اهم التزاماتهم ألا وهو "استعادة هيبة الدولة في الداخل وسمعتها في الخارج". وهذه المحاولة تتضمن رسالة واضحة لشركاء الجزائر على الصعيد الدولي، مفادها باختصار ان مساندتهم للنظام القائم بالجزائر رهان خاسر، "لأن هذا النظام يثبت يومياً عجزه عن حماية مصالح شركائه ورعاياهم" و"كذلك الوفاء بالتزاماته حيالهم". وقْعُ هذه الجرائم التي ذهب ضحيتها أجانب أبرياء كان كبيراً في اوساط الديبلوماسيين في العاصمة الجزائرية، لا سيما انها جاءت في لحظات وداع لأن كثيراً من الديبلوماسيين والمتعاونين الاجانب كانوا بصدد مغادرة البلاد لنقلهم الى بلدان اخرى او استدعائهم الى بلدانهم او لانتهاء عقودهم. ويتساءل الديبلوماسيون كثيراً عن صمت السلطات الجزائرية التي تبدو وكأنها غير قادرة على اية مبادرة يمكن ان تحرك الأوضاع باتجاه أو بآخر. رد... على الاقصاء! لم يعلن أي طرف عن تبنيه لمثل هذه الجرائم النكراء، وان كان رابح كبير الناطق باسم جبهة الانقاذ في الخارج سارع الى نفي اي صلة لحزبه بعملية مساء 7 تموز يوليو التي ذهب ضحيتها البحارة الايطاليون. وأمام هذا الغموض والتعتيم فإن اصابع الاتهام توجه اساساً الى "الجماعة الاسلامية المسلحة" التي اصبح النظام الجزائري يشخص فيها "التطرف الاسلامي" ويقصيها بناء على ذلك عن أي حوار أو تسوية محتملة مع "الاسلاميين المعتدلين". واذا كانت الجريمة من فعل الجماعة المسلحة، وهي تحالف بين "الأفغان" وتيار "الجزأرة" المناهض لخط الثنائي مدني - بلحاج، فإن الرسالة تكون واضحة: "لا حوار بدوننا" وذلك رداً على بعض التحركات الدولية التي تشجع الرئيس زروال على "توسيع قاعدة حكمه" بادماج "الاسلاميين المعتدلين" في الحوار الوطني والبحث عن تسوية بين الجزائريين. وقد لمس المراقبون فعلاً في خطاب الرئيس زروال بمناسبة عيد الاستقلال بداية خجولة في هذا الاتجاه اذ انه لطّف من لهجته كثيراً، مقارنة بخطاب 19 ايار مايو عندما وصف الثوار الاسلاميين بپ"العمالة والخيانة والارتزاق"، وعاد مرة اخرى للحديث بالحاح عن "الحوار الوطني" و"المصالحة الوطنية". فدافع الاقصاء عن الحوار اذن قد يكون وراء تطاول "الجماعة الاسلامية المسلحة" على هيبة الدولة وسمعتها ومصداقيتها وتصعيد تهديدها لأمن وحياة الديبلوماسيين والاجانب عموماً. والجدير بالذكر في هذا السياق ان "الجماعة الاسلامية" كانت أول - وآخر! - من أصدر بياناً بتهديد الاجانب، ويمنحهم مهلة شهر لمغادرة البلاد، وذلك في تشرين الأول اكتوبر من العام الماضي. ولم تتوان "الجماعة" عن تنفيذ تهديدها، اذ قامت في أواخر الشهر ذاته باختطاف ثلاثة فرنسيين يعملون بالمصالح القنصلية في الجزائر العاصمة. والغريب في أمر هذه العملية أنها انتهت بإصدار بيانين: الأول عن مصالح الأمن، يؤكد "ان الرهائن الثلاثة تم تحريرهم بالقوة من قبضة الارهابيين". ودعمت التلفزة المحلية ذلك بتركيب فيديو حول عملية التحرير. الثاني يحمل توقيع "الجماعة الاسلامية المسلحة"، ويعلن الافراج عن الرهائن بمناسبة عيد الثورة فاتح تشرين الثاني. وقد حملت "الجماعة" احدى الرهائن نص التهديد الموجه الى الاجانب والذي تحثهم فيه على مغادرة الجزائر في مدة أقصاها 30 تشرين الثاني نوفمبر. هذا الغموض الذي اكتنف اختطاف الفرنسيين الثلاثة جعل الاعلام الباريسي آنذاك يصل الى الخلاصة التالية: "ان العملية من فعل جماعة اسلامية لكنها من تدبير مصالح أمنية". وقد عاد هذا الاعلام أخيراً الى الحديث عن "كتائب الموت" المكلفة بتنفيذ بعض "المهام القذرة" التي تتجنب مصالح الأمن التورط المباشر فيها! زروال... في حلقة مفرغة ويشكل الاعتداء على الاجانب حلقة جديدة في مسلسل الصراع الدائر بين النظام القائم و"المعارضة الاسلامية المسلحة"... هذا الصراع المرشح لتطورات خطيرة بسبب "السلطة الفعلية التي أوقعت نفسها في مأزق سياسي وظلت تراوح مكانها رافضة أي بحث جدي عن سبيل للخروج منه" على حد قول احد المراقبين. ويتمثل المأزق في المعادلة التالية: "الجيش يرغب في تسليم السلطة الى المدنيين بأسرع ما يمكن "غير ان الاحزاب غير جديرة بذلك وليست مستعدة له، كما برهنت على ذلك تجربة التعددية الديموقراطية حتى الآن". ويفسر الملاحظون في هذه المعادلة التي يصعب فك رموزها بكون السلطة الفعلية في الجزائر ظلت في يد الاشخاص انفسهم تقريباً منذ احداث تشرين الأول اكتوبر 1988. ويزعم البعض ان الجناح الذي دبر هذه الاحداث واستفاد منها سياسياً وسلطوياً، هو الذي ما انفك يدير دفة الجزائر، رغم تغيير "الواجهات الرسمية" من الشاذلي الى زروال! ويفسر السيد مولود حمروش رئيس الحكومة الأسبق هذه الظاهرة بانتصار "الجناح الذي يقايض تغيير النظام بتغيير الاشخاص". أي تجنب التغيير الحقيقي وهو مطلب اجتماعي سياسي منذ منتصف الثمانينات، بواسطة "مناورات تغيير" محصورة في بعض الهياكل والاشخاص! الجيش ... والفخ الأمني وقد نجم عن هذا المأزق السياسي مأزق أمني يتمثل في اقحام الجيش دون استعداد معنوي وعسكري كاف، في مواجهة ظاهرة عنف سياسي ذات امتدادات شعبية أكيدة. والملاحظ ان "الجبهات الثلاث" الانقاذ والتحرير والقوى الاشتراكية الفائزة بالدور الاول من الانتخابات النيابية في 26 كانون الاول 1991، نجحت، شعبيا، الى حد كبير في تحديد "الظالم والضحية" "فالظالم" هم "أطراف السلطة الذين دبروا انقلاب يناير 1992 وألغوا نتائج الدور الأول من الانتخابات وأوقفوا المسار الديموقراطي". وثمة من يرى انه من الناحية المعنوية هناك شك وشبهة في القضية التي يقاتل من أجلها أفراد الجيش وأكثرهم من أوساط شعبية تتساءل ببراءة: "لماذا لم تترك السلطة الاسلاميين يجربون الحكم بدورهم؟!". ان الطابع الشعبي للجيش الجزائري اسمه الرسمي "الجيش الوطني الشعبي"، بالاضافة الى غموض القضية التي يراد منه الدفاع عنها والتضحية في سبيلها تحد من "طاقته القمعية" الى حد كبير، وهناك شبه اجماع حول هذه النقطة بين المراقبين في العاصمة الجزائرية على اختلاف مشاربهم. بعبارة اخرى من المرجّح الا يذهب افراد الجيش الذين على احتكاك مباشر ويومي بالأحداث بعيدا في "قمع" او مواجهة "تمرد الحركة الاسلامية المسلحة". بعض الملاحظين يقدرون "الطاقة القمعية القصوى" للجيش الجزائري نظراً للعوامل الآنفة الذكر بپ100 ألف قتيل. وبعد ذلك من المحتمل ان تظهر عليه اعراض "التشبع" و"التقزز" و"الرفض" و"التفكك" كما هي حال كل جيش يواجه مقاومة شعبية. وقد يكون من الصعب ان نحدد الآن الى اي مدى استنفد الجيش الجزائري "طاقته القمعية"، لكن من المؤكد ان رياح "التجاوزات الأمنية" بدأت تزكم أنوف المعارضة والمجتمع وأنصار حقوق الانسان داخل الجزائر وخارجها كما تثير الغضب ممارسات العنف الدموي الاعمى الذي تقوم به بعض المجموعات المسلحة. بل ان انعكاسات هذه الوضعية بدأت تظهر على مستوى الجيش نفسه. فحوادث الفرار من الجيش تتزايد بشكل مثير وكذلك حوادث التمرد والعصيان. في المدة الأخيرة زار احد الاصدقاء مقر ولاية في الجنوب الجزائري فاستوقف انتباهه ان الجناح المخصص بالبريد مثقل بصور الجنود الفارين، بأسلحتهم، والذين يجري البحث عنهم. وعشية عيد الاستقلال قام ضابط برتبة نقيب وعلى متن مروحية مقاتلة من عين أرنات سطيف بمهاجمة زملائه في السرب وبينهم قائده ليفر بعد ذلك الى مكان مجهول. وقد التزمت مصالح الأمن الصمت المطبق بشأن هذه العملية المثيرة. ومن حين الى آخر تتناقل الصحافة المحلية انباء عمليات جريئة تقوم بها "الحركة الاسلامية المسلحة" داخل ثكنات الجيش بالتواطؤ مع افراد منه، وأحياناً يكون المتواطئون من فئة الضباط. كل هذه المعطيات جعلت بعض الغيورين على وحدة الجيش يخرجون عن صمتهم، كما فعل السيد مولود حمروش الذي دعا صراحة في مداخلته امام اللجنة المركزية لجبهة التحرير في 8 تموز يوليو الجاري الاحزاب السياسية الى مساعدة الجيش على الخروج من الورطة السياسية الامنية التي زجّ فيها من قِبَل الجناح المنتصر في أحداث تشرين الاول اكتوبر 1988. استعداد كبير... لدى "الجبهات الثلاث" والواقع ان الاحزاب المهمة لا سيما الجبهات الثلاث الفائزة بانتخابات 26 كانون الاول 91، ما انفكت تعبّر عن استعدادها اللامشروط للتفاوض الجدي مع قيادة الجيش بحثاً عن حلول وسطى تجنّب الجزائر مطبّات الانفلات الامني العام او "تعميم" الحرب الاهلية. فجبهة التحرير الوطني دعت منذ الخريف الماضي الى لقاء بين "الاحزاب السبعة الهامة" والمجلس الاعلى للدولة ينتهي الى وفاق وطني حقيقي، مقترحة ان تكون الوضعية الامنية ومخاطرها على رأس قائمة الاولويات التي تطرح على اللقاء المشترك. وتصبّ اقتراحات جبهة القوى الاشتراكية في الاتجاه نفسه تقريباً، وان كان رفاق آيت احمد يفضلون ان يتم "التفاوض الجدي" مباشرة بين الجيش والجبهات الثلاث. وتبدي قيادة الجبهة الاسلامية للانقاذ في البليدة استعدادها الكامل للمساهمة الجادة في معالجة المضاعفات الخطيرة المترتبة على وقف مسلسل الانتخابات والمسار الديموقراطي. ولا تشترط مقابل ذلك سوى الافراج عنها لأن "السجين غير مسؤول شرعاً"! مطالب الانقاذ ويروي الشيخان بو خمخم وجدّي المُفرج عنهما في آذار مارس الماضي ل "الوسط" وقائع اللقاء الذي تمّ بين قيادة الجبهة وثلاثة من اعضاء لجنة الحوار الوطني، يُعتقد انهم يوسف الخطيب وعبدالقادر بن صالح رئيس ومقرر اللجنة على التوالي واللواء الطيب الدراجي احد الضباط السامين الثلاثة الذين يمثلون الجيش. فقد كان اعضاء اللجنة يشتكون مما آلت اليه اوضاع البلاد من تدهور يزداد خطورة يوماً بعد يوم، ويطلبون من قيادة الانقاذ ان يتحلى موقفها بالتفهّم والحكمة وتجنّب المواقف المتشنجة والشروط التعجيزية. وكم كانت دهشة اعضاء اللجنة كبيرة! عندما وجدوا الشيخ عباسي ورفاقه يبكون دماً من جراء هذه الاوضاع بالذات! حتى ان احد اعضاء اللجنة لم يتماسك وقام دون ان يشعر قائلاً: "الله اكبر". وحسب الشيخين بو خمخم وجدّي ان قيادة الجبهة تخلّت عن مطلب اجراء الانتخاب الى ان تعود المياه الى مجاريها واصبحت تكتفي بالحدّ الادنى المعقول جداً وهو: - الافراج عن القيادة ولو اقتضى الامر وضعها مرحلياً تحت نظام الإقامة الجبرية. - تمكينها من الاطلاع على الوضع بصفة شاملة. - تمكينها في مرحلة اخيرة من جمع المجلس الشوري لإبداء الرأي في نص الاتفاق المبرم سواء مع الجيش ام القيادة المنبثقة عنه. وفي تصريح للشيخين بوخمخم وجدّي لاسبوعية محلية نقلا عن الشيخ علي بلحاج قوله: "امنحوني مهلة شهرين وأعدكم بإطفاء الحريق!". وتأكيداً لحسن نوايا قيادة الجبهة، طالب بلحاج في رسالة الى زروال جرى تسريبها في منتصف حزيران يونيو الماضي "بالكشف عن محتوى بيان كل من السلطة والجبهة المتعلقين بالحوار وشروطه"، اشارة الى لقاء قيادة الجبهة بلجنة الحوار الوطني، وبوزير الدفاع في كانون الاول ديسمبر من العام الماضي. ودعا بلحاج في نفس الرسالة: "ان يكون الله في عون الرئيس زروال ليكشف الأعداء الحقيقيين للوطن". ومعلوم ان الافراج عن الشيخين بوخمخم وجدي تم كخطوة أولى ضمن خطة متفق عليها بين الجانبين، بهدف استطلاع الأوضاع وإخبار زملائهم الباقين بذلك... لكن بمجرد خروجهما منعا من الاتصال بهم، ولم يتمكنا من زيارتهم في 7 حزيران الجاري إلا بعد جهد جهيد و"وساطات" متعددة! ولم تخل الزيارة مع كل ذلك من استفزازات مجانية. ان مثل هذه الممارسات الصادرة عن "السلطة الفعلية"، جعلت "الاحزاب المهمة"، لا سيما الجبهات الثلاث تتحفظ كثيراً على تصريحات "الواجهة السياسية" الرسمية! كمثال على ذلك ان هذه الاحزاب اصبحت تتجاهل تماماً خطب الرئيس زروال! وسواء تعلق الأمر بخطاب 19 أيار "المتشدد" أو خطاب عشية 5 تموز "اللين"، فالمتتبع للإعلام المحلي لا يعثر على أي رد فعل من أي حزب سلباً أو إيجاباً. تحفظات... زعيم بربري ويعتبر حسين آيت أحمد أكثر الشخصيات السياسية حيطة وتحفظاً، وقد سبق ان توقع غداة تعيين الرئيس زروال ان لا يذهب الرجل بعيداً، لأن "السلطة الفعلية" ليست بيده إن لم تكن ضده! وفي آخر حديث له لصحيفة محلية دعا آيت احمد مباشرة "السلطة الفعلية" الى "الكف عن تلاعباتها"، والعمل الجاد "لاشراك المعارضة في وضع قواعد اللعبة... مع الالتزام الصريح باحترام هذه القواعد". ويطالب الزعيم البربري "بتحرير الجزائر من النظام القائم، على ان يتم ذلك مع السلطة الحالية وليس ضدها، لأنه يفضل ان يتغير النظام سلمياً". والجدير بالذكر ان حسين آيت أحمد وحزبه اصبحا يحظيان بمكانة متميزة لدى واشنطن، وهو زار الولاياتالمتحدة في المدة الاخيرة واستقبلته شخصيات بارزة بينها مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط روبرت بيلليترو. وفي أعقاب هذه الزيارة اخذ الزعيم البربري يتحدث عن "التدويل بمعناه الايجابي"... ويشرح ذلك بقوله في الحديث المذكور: "نحن نؤيد حضوراً دولياً لمراقبة المرحلة الانتقالية لأن الحكام الحاليين لا يتمتعون بكامل ثقتنا". ويقترح تجسيد ذلك في "لجنة دولية لعودة السلم ودفع المسار الديموقراطي بالجزائر". ومن مهام هذه اللجنة ضمان "مراقبة دولية كاملة للانتخابات القادمة". تكتيك المعارضة المسلحة وبداهة ان انعدام عنصر الثقة بين السلطة الحالية والمعارضة السياسية، لا يساعد كثيراً على تطور الاوضاع ايجابياً باتجاه انفراج قريب. ويبدو فقدان الثقة في السلطة أكثر حدة في صفوف المعارضة الاسلامية المسلحة التي يعتبر جزء منها "الحوار خيانة"! وقد التقت "الوسط" غداة خطاب 19 أيار، حيث وصف الرئيس زروال الجماعات المسلحة بأقسى الأوصاف، الشيخين بوخمخم وجدي فوجدتهما في غاية الاستياء، وكان اكثر الاسئلة تردداً على الشفاه هو: "كيف يمكن بعد الخطاب إقناع العناصر المسلحة بحسن نوايا السلطة القائمة؟". فليس غريباً اذن ان تزداد المواجهة اشتعالاً، هذا التصعيد الذي تضاعف من وقعه الحرارة الاستثنائية لهذا الصيف. ضحايا هذه المواجهة من الطرفين يقدرها السيد حسين آيت احمد بپ10 آلاف قتيل وقد تتجاوز 15 ألفاً قبل نهاية السنة. وحسب مصادر أمنية فإن عدد ضحايا جهاز الشرطة وحده يناهر 1500 قتيل. وتذهب المواجهة بكثير من المواطنين الابرياء بدوافع انتقامية احياناً بحكم العلاقة العائلية برجال الامن أو بالعناصر المسلحة، واحياناً بسبب الاخطاء المتكررة نتيجة قلة الاستعداد في التصدي لأوضاع طارئة. والملاحظ ان تكتيك الجبهة الاسلامية - بمختلف فصائلها - في إدارة المعركة بدأ يتبلور على النحو التالي: أولا: العمل على عزل الادارة عن المواطن في المناطق الواقعة تحت نفوذ الجبهة. ومن مظاهر ذلك اجبار المواطن على التقاضي لدى "محاكم الجبهة" بدل اللجوء الى "محاكم الدولة". وقد سبق للثورة الجزائرية ان استعملت هذا الأسلوب لعزل ادارة الاحتلال الفرنسي. ثانيا: تركيز العمل المسلح على ضرب قوات الشرطة والدرك المجندة في العمليات الأمنية التي تستهدف الجماعات الاسلامية المسلحة. وحسب المعلومات المتوفرة لدينا فإن هذا التركيز بدأ يؤثر جديا على معنويات عناصر الجهازين، لا سيما جهاز الشرطة الحلقة الضعيفة في المنظومة الأمنية بحكم اختلاط عناصره بعامة المواطنين في الأحياء الشعبية خاصة. ثالثا: تحاشي الاصطدام المباشر مع الجيش في الجبال وخارج المدن، مع تنظيم الكمائن التي تستهدف بالدرجة الأولى الوحدات الخاصة. وتفيد مصادر موثوقة، ان الجماعات الاسلامية نظمت في الأيام القليلة الماضية كمائن ناجحة ناحية الشلف خلفت أكثر من مئة قتيل. رابعا: انتهاج سبيل الاعتدال والتطرف، على غرار أسلوب عمل السلطة القائمة.. فسجناء البليدة مع "الجيش الاسلامي للانقاذ" يلعبون ورقة الاعتدال، بينما تواصل "الجماعة الاسلامية المسلحة" لعب ورقة التطرف الى أقصى مدى! هذا التقاسم للأدوار بين "معتدلين" و"متطرفين" تحاول السلطة استغلاله وتحويل مجراه من التكامل والوحدة الى الاختلاف والتناحر. ومن الأوراق المستعملة في هذا الصدد - بهدف "تعميق الهوة" بين الجناحين - ورقة الحوار نفسها، اضافة الى انتحال بيانات من حين لآخر ونشرها باسم "الجماعة الاسلامية" سواء لاثارة الفتنة بين الفريقين، أو تبني عمليات مشبوهة تسيء للحركة الاسلامية بصفة عامة. لكن الملاحظ ان هذه المحاولات وغيرها من السلطة القائمة لم تحقق بعد الأهداف المرجوة منها. ويذهب الدكتور سامي النيِّر وهو باحث من أصل جزائري يعمل أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة باريس انه من العبث الاعتقاد بأن مثل هذه المناورات البسيطة كافية لحل الأزمة الجزائرية أو تجاوزها، طالما ان هذه الأزمة عميقة الجذور وتكمن أساسا في انقسام المجتمع الى طائفتين: - "طائفة مدمجة في النظام القائم سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا. - وطائفة مهمشة ومنبوذة حشرت حشرا في حالة ميؤوس منها..". وميزة الجبهة الاسلامية، في رأي الباحث، أنها استطاعت ان تتجاوب أحسن من غيرها من أغلبية المهمشين بتبني مطالبها في تغيير ظروف معيشتها والتطلع الى عدالة اجتماعية حقيقية. ولذلك فازت بالانتخابات. وينتهي الأستاذ النير الى الخلاصة التالية: "ان النخبة التي ظلت تحكم البلاد منذ الاستقلال انتهى دورها. وبالتالي يتعين على الجيش ان يترك السلطة في أجل مسمى". ولعل أبرز علامات النهاية "عجز هذه النخبة عن ادراك الطابع الاجتماعي لانفجار اكتوبر 1988"، بل الترجمة الخاطئة لهذا الانفجار الذي لم تر فيه سوى المطالبة "بالديموقراطية والتعددية وحرية التعبير، بينما المطلوب الحقيقي هو تغيير الظروف الاجتماعية"، أي تغيير النظام باختصار. تحايل على التغيير وعلى هذا الأساس يعتبر بعض المراقبين ان الأحداث التي تعيشها الجزائر منذ 6 سنوات مجرد تحايل من "السلطة الفعلية" لتجنب كل محاولة لتغيير حقيقي والتصدي لها بمختلف الوسائل، مشروعة وغير مشروعة، لتمييعها أو اجهاضها. فقد ذهب الشاذلي وجاء بعده بوضياف ثم كافي، لكن دار لقمان ظلت على حالها بدون تغيير. وجيء أخيراً بالرئيس زروال وتفاءل الناس خيراً، لا سيما انه كان يبدو "أشطر" من سابقيه حين "استطاع ان يملي بعض شروطه على السلطة الفعلية"، ولعل أهمها التفرد بمنصب الرئاسة والاحتفاظ بوزارة الدفاع. وساد الاعتقاد بعض الوقت بناء على ذلك ان "السلطة الفعلية" و"السلطة الرسمية" أصبحتا شيئاً واحداً. لكن تبين بعد فترة وجيزة - أقل من شهر ونصف! - ان الرئيس الجديد لا يختلف كثيراً عن سابقيه، وانه بدوره "أسير الجماعة التي جاءت به الى رئاسة الدولة"، وان هامش تحركه - باتجاه التغيير الحقيقي - محدود جدا على حد قول منتقديه. فعوامل "تحنيط" الوضع الراهن اذن، ما تزال قائمة ومؤثرة. وما لم "يتحرر" الرئيس زروال من هذه "العوامل" فليس هناك أي أمل في تجاوز الأزمة الراهنة لأن الكابح قوي جدا. ويرى آخرون انه بالركون الى عوامل الجمود، فقد الرئيس زروال بسرعة نادرة رصيده المعنوي وحقه في مهلة معقولة من المواطنين. وقد أصبح شعار "الحوار الجاد" الذي رفعه مذ كان وزيرا للدفاع يمثل خصوصا الجبهات الثلاث عنوان "مغالطة كبرى" لكسب الوقت لا غير. وفي ظل الانسداد السياسي الراهن يبقى المجال واسعا امام المناورة والعنف. فالسلطة ما انفكت تناور لتقسيم صفوف المعارضة بمحاولة ضرب "الجيش الاسلامي للانقاذ" ب "الجماعة الاسلامية المسلحة" تارة، وبتحريض حمروش لينافس عبدالحميد مهري على الأمانة العامة لجبهة التحرير تارة أخرى، وأخيراً باستثارة "جماعة الداخل" في جبهة القوى الاشتراكية ضد "جماعة الخارج"، أي ضد زعامة حسين آيت أحمد المقيم في سويسرا! وتبدو المعارضة من جهتها عاجزة عن تحقيق أي ائتلاف بينها، قد يغير من موازين القوى الحالية.. وكل ذلك يساعد على بقاء الأوضاع على ما هي عليه الآن، حيث يسود العنف السياسي بدون منازع، وحيث المواطن العادي مهدد في حياته دون أن يعلم لذلك سبباً. فلا غرابة اذن في سياق هذا الجمود الخانق أن يتحدث وزير الداخلية عن "العنف المزمن" و"ضرورة التكيف معه على غرار ما يحدث في اسبانيا وايرلندا الشمالية". ولكن شتان بين هذا وذاك! ويعتقد أغلب المراقبين ان موازين القوى مرشحة للتطور، بما يعجل بساعة الحسم في اتجاه أو في آخر.. ويبدو الدعم الدولي للسلطة القائمة محدود الجدوى لضآلة انعكاساته على مستوى المواطنين، نظراً لثقل الجهاز البيروقراطي ومختلف الاحتكارات التي تعود بالفائدة على فئة قليلة فقط من الشعب.