تلقى المجتمع السياسي الجزائري أخيراً من رئيس الدولة الجديد الأمين زروال بداية جواب عن انشغالات: مواقف واجراءات ملموسة، تعبّر عن "القطيعة المنتظرة" مع سياسة "المجلس الأعلى للدولة" الذي ذهب كما جاء، دون أن يترك أثراً يذكر في أوضاع البلد التي ازدادت سوءاً وتدهوراً! عربون القطيعة والانفراج شمل اجراءين في غاية الأهمية: الأول اخراج قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ من سجن البليدة العسكري ووضعهم في مكان ما تحت نظام "الاقامة الجبرية المخففة". أنباء لم تتأكد بعد، تحدد هذا المكان "بقصر هولدن" الذي سبق أن آوى الرئيس الأسبق أحمد بن بلة قبل أن يفرج عنه الرئيس بن جديد سنة 1980. ويقع هذا القصر على الطريق الرابط بين "أولاد فايت" و"الدويرة" جنوب غرب العاصمة الجزائرية. والثاني الافراج عن عضوين من مجلس الشيوخ من رفاق الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج وهما علي جدي مسؤول لجنة الشؤون السياسية وعبدالقادر بوخمخم وكلاهما من المقربين من الشيخ عباسي. وثمة من يعتقد ان الشيخين قد كلفا بمهمة محددة: - الاتصال بأعضاء مجلس الشورى المبعثرين من جراء المضايقات والملاحقات الأمنية، بهدف التشاور في امكانية الاجتماع للبت جماعياً في مسألة ومضمون الحوار مع الرئيس الجديد الأمين زروال. - الاتصال بالشيخ أحمد سحنون رئيس الرابطة الاسلامية بهدف الاستعانة به في تهدئة النفوس وتطمين "الخارجين على القانون"، تمهيداً لاطفاء الحريق الذي يلتهم البلاد والعباد منذ أكثر من عامين. - الاتصال بالجماعات الاسلامية المسلحة ودعوتها الى الكف عن أعمال القتل والتخريب، في انتظار ما سيسفر عنه "الحوار الجاد" الذي يدعو اليه الرئيس زروال. هذا "التحرك الملموس" في اتجاه "الجبهة الاسلامية"، تزامن تقريباً مع الاعلان عن مقتل مراد سيد أحمد الملقب بسيف الله جعفر الأفغاني، أحد قادة "الجماعة الاسلامية المسلحة" التي أُظهرت في الآونة الأخيرة بمظهر الخصم المتشدد لكل من السلطة القائمة و"الجبهة الاسلامية" على حد سواء. واعتبر مقتل جعفر الافغاني بمثابة نجاح للأجهزة الأمنية الجزائرية. وتبدو هذه التصفية في هذا السياق بالذات، "كهدية" على طريق التقارب الملحوظ بين الاسلاميين المعتدلين والسلطة الجديدة. هذه المؤشرات الايجابية بخصوص تطور الأوضاع في المستقبل القريب، أكد الرئيس زروال في كلمة هامة أمام أول مجلس وزراء يترأسه منذ تنصيبه في 31 كانون الثاني يناير الماضي، انها تندرج ضمن استراتيجية محددة: "استراتيجية الوفاق الوطني" التي "ينبغي ضبطها ووضعها حيز التنفيذ في أقرب الآجال". الوفاق الوطني حسب رؤية الرئيس زروال "ينبغي أن يكون المحور الرئيسي لهذه الاستراتيجية"، لأنه "يشكل أمنية الأغلبية الساحقة لشعبنا". ولم ينس زروال في كلمته المهمة أمام مجلس الوزراء تحديد التكتيك الملازم لتحقيق الوفاق المنشود، وهو تكتيك مبني على محورين متكاملين: 1- ارادة واضحة و"عزم صادق على تشجيع الحوار الجاد ومواصلته كأسلوب لحل المشاكل السياسية". 2- قدرة السلطة الجديدة "على استئصال العنف من مجتمعنا". ويمكن للمراقب أن يستشف في الاستراتيجية المذكورة والتكتيك المرتبط بها نقاط تقاطع واضحة مع الجبهات الثلاثة: الانقاذ، التحرير، القوى الاشتراكية أهمها: 1- ان السلطة وجبهة الانقاذ أصبحتا تتحدثان عن الحوار بلغة واحدة تقريباً، فكلا الطرفين يشدد على "الأسلوب الحضاري" لحل المعضلة السياسية القائمة. 2- ان السلطة توصلت منذ بضعة أشهر الى نتيجة ان "الحل الأمني" ليس كافياً، بينما أصبحت قيادة الجبهة الاسلامية تستبعد امكانية "الحسم العسكري"، أي اسقاط النظام بالقوة كما يدعو الى ذلك "أفغان الجزائر". 3- أجاب الرئيس زروال في كلمته المهمة أمام مجلس الوزراء السبت الماضي 26/2/94 مباشرة تقريباً على تساؤل المعارضة - لا سيما جبهة التحرير وجبهة القوى الاشتراكية - حول "الغاية من الحوار"، أجاب بأن التتويج سيكون "العودة الى المسار الانتخابي الذي يجب أن يصبح السبيل الوحيد" لتقلد المسؤوليات. فك الارتباط بين الاعتدال والتطرف يمكن القول اذن، ان الرئيس زروال شرع فعلاً في تطبيق الخطة التي وافق عليها قادة الجيش في منتصف آب اغسطس من العام الماضي والتي تتضمن التكتيك المذكور سلفاً: تكتيك فك الارتباط بين "الاسلام السياسي" وما يلصق به من تطرف وعنف. وهذا يعني العودة بشكل أو بآخر الى خطة الشاذلي - حمروش المبنية على امكانية "ترويض" الظاهرة الانقاذية بواسطة الصندوق والتعايش معها في ظل نظام ديموقراطي تعددي... وفي الوقت نفسه التراجع عن خطة الثنائي بالقايد - علي هارون المبنية على استحالة التعايش بين "الاسلام السياسي" والمشروع الديموقراطي. وكانت هذه الخطة وما تزال تستفيد من "التحالف اللائيكي الشيوعي" "تجمع" سعيد سعدي و"تحدي" الهاشمي الشريف أساساً وامتداداته القوية في جهاز الحكم والمنظومة الاعلامية والثقافية. متغير حاسم: مدى تأثير أنصار الحل السياسي هل ينجح زروال في المضي بخطته الى غايتها؟ بعض الملاحظين يعتقدون أن بوادر الانفراج المرتبطة بالافراج عن جزء من قيادة الجبهة الاسلامية وتخفيف القيود على البقية الباقية، تشكل منعطفاً سياسياً قد يؤدي الى عودة الجبهة الى الحياة السياسية. لكن تطبيق هذه الخطة يخضع الى حد كبير لمتغير حاسم: تطور ميزان القوة بين العامل السياسي والعامل العسكري، وأيهما أقدر على التأثير في الآخر، في ظل أوضاع مليئة بالغموض وما يمكن أن ينتج عنه من مفاجآت. فهل ستكون الغلبة، من جانب السلطة ومن جانب الاسلاميين على حد سواء، لانصار الحلول السياسية السلمية؟ أم ان ديناميكية العنف ستخلق أوضاعاً جديدة تضعف من مواقع المعتدلين ضمن الفريقين المتنازعين؟ رهان الرئيس زروال ما زال محل تحفظ وشكوك: تحفظ من أنصار "الحسم العسكري" وفي طليعتهم التحالف اللائيكي الشيوعي الذي يرى "ان العودة الى السلم المدني غير مضمونة بالانفتاح على الجناح السياسي في الجبهة الاسلامية"، هذا الانفتاح الذي قد يتوج بالافراج عن الشيخين عباسي وبلحاج. وشكوك من جانب المعارضة. فالسيد حسين آيت أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية يذهب بعيداً في هذا المضمار، اذ صرح أخيراً قائلاً: "أعتقد أنه من الصعب على زروال أن يصمد ثلاث سنوات، طالما انه لا يحظى حسبما يبدو بدعم مطلق من "الجهاز" الذي ما يزال يبدي معارضة له". ويضيف آيت أحمد: "ومن ثمة لا نستبعد - بناء على تجربة السنوات الأخيرة - امكانية تعويض الرجل بواجهة أو شخصية أخرى يفرضها على الشعب كذلك أصحاب القرار الفعليين"! الشكوك نفسها تخامر الأذهان بخصوص مقدرة الشيخ عباسي ورفاقه على "ترويض مارد العنف الاسلامي" الذي نشط نشاطاً مذهلاً خلال شهر رمضان الحالي مقتنصاً ضحاياه - من جميع الفئات - بغفلة ما قبل الافطار وما بعده مباشرة. بعض المعلومات تشير الى ان الشيخ عباسي واثق من امكانية مساهمته الفعالة في كبح جماح هذا المارد واطفاء الحريق، قبل أن يستعصي على الجميع. لكن الواقع هل سيصدق هذه الثقة؟! المؤكد ان هناك بوادر مشجعة مع بداية تحرك الرئيس زروال باتجاه "الحوار الجاد" في سياق "استراتيجية الوفاق الوطني". لكن هذه الاشارات ما تزال غير كافية، ولا تؤثر بوضوح الى امكانية الخروج من "النفق المظلم" وشيكاً! فالطريق الى السلم المدني ما زال يستوجب تذليل العديد من العقبات أولها كسر شوكة أنصار "الحسم العسكري" سواء داخل النظام أو في صفوف المعارضة الاسلامية. والملاحظ ان أنصار الحل الأمني في صفوف جهاز الحكم ما زالوا أقوياء جداً، فهؤلاء نجدهم على رأس أهم المواقع الأمنية والاعلامية وحتى الاقتصادية! وبانتظار اتضاح ذلك تستمر دورة العنف فبعد وقت قصير من سقوط جعفر الأفغاني اغتيل صحافي يعمل في التلفزيون الجزائري فارتفع بذلك عدد الصحافيين الذين سقطوا في دورة العنف الى ثمانية.