في المنفى الباريسي الذي دفعه الى أعادة اكتشاف هويته، وعرّف العالم بأدبه، يعيش محمد ديب في عزلة فنية، لم يقطعها الا في ما ندر. لكن الكاتب الفرنكوفوني الذي يعتبر مؤسس الرواية المغاربية الحديثة، فتح قلبه ل "الوسط" في حديث عن الادب والذات، عن التراث الذي "ليس ميّتاً ولا ماضوياً بالضرورة"، وصولاً الى دوامة العنف التي تلف بلاده. وخلافاً لرشيد بوجدرة وآخرين دخلوا في مواجهة حادة مع الاصوليين، يقترح ديب على أقرانه "عدم التحول الى خصوم مباشرين لهؤلاء". كما أنه يعمل حالياً على رواية من وحي الاحداث الجزائرية الراهنة. بعد قرابة نصف قرن من الابداع وأكثر من عشرين رواية منشورة، لا يزال الكاتب الجزائري محمد ديب الذي يعدّ مؤسس الرواية المغاربية الحديثة، أغزر كُتاب جيله، وأكثرهم حضوراً على الساحة الأدبية. وكانت ثلاثيته الاولى، الى جانب "نجمة" كاتب ياسين و"الماضي البسيط" لادريس شرايبي، من ابرز الاعمال التي عرّفت بالثقافة والتراث المغاربيين في العالم، وتتلمذت عليها أجيال كاملة من أدباء المغرب العربي. وشهد أدب محمد ديب - منذ "السنوات البطولية" - تحولات عدّة، الا إن التطور "لم يكن خطياً، بل اتخذ اتجاهات متعددة ومتشعبة في وقت واحد". فبعد استقلال بلاده، أصبح "كاتباً مستقلاً" بامكانه ان يختار مواضيعه بحرية، ولم يعد ذلك "المحامي" الذي أملت عليه دوره ظروف الاستعمار، والحركة الوطنية التي انخرط فيها ووضع أعماله الادبية في خدمتها. "أردت ان أصهر صوتي في الصوت الجماعي للشعب الجزائري، وان أجعل كتاباتي أسلحة بيده"، هكذا صرّح عند صدور روايته "الحريق". بعد الثلاثية الشهيرة: "الدار الكبيرة 1952، "الحريق" 1954 و"النول" 1957، التي تميزت بأسلوب واقعي تتخلله نزعة وطنية مناهضة للاستعمار، توالت أعمال محمد ديب لتنتظم في مراحل أساسية ثلاث، تبدأ كل منها بثلاثية مغايرة، تشكل نقطة تحوّل وبداية تجربة جديدة. فبعد المرحلة النضالية المشار اليها، أنتج محمد ديب خلال الستينات ثلاثيته الثانية: "من يتذكّر البحر" 1962، "الجري على الضفّة المتوحشة" 1954، و"رقصة الملك" 1968. وتميزت هذه الثلاثية بنظرة نقدية الى الواقع الجزائري بعد الاستقلال، لكنه،يقول الكاتب اليوم، "انتقاد أشبه بالعتاب الذي يمكن أن نوجّهه الى شخص يعزّ علينا كثيراً، ويكون الحب هو المصدر الأساسي للعتاب...". وفي منتصف الثمانينات، صدرت لمحمد ديب ثلاثية جديدة، اصطلح دارسو أدبه على تسميتها ب "ثلاثية الشمال"، كون أحداثها تدور في بلدان الشمال، بخلاف الروايات السابقة التي كانت مادتها من بيئته الأصلية، وتتخذ من الجزائر مسرحاً لأحداثها. ويعتبر ديب أن خصوصية هذه "الروايات الشمالية" تكمن في أنها تنظر دائماً الى بلدان الشمال بعين انسان من الجنوب. وهي بذلك "تثأر"، على طريقتها، من الأدب الكولونيالي الذي كان ينظر الى مجتمعاتنا بعين انسان الشمال. ومحمد ديب الذي فرض على نفسه عزلة تامة، منذ استقلال الجزائر، لم يدل بأية أحاديث صحفية، ولم يخرج عن صمته الا مرة وحيدة حين نشر مقالة في جريدة "روبتور" قطيعة الجزائرية التي كان يصدرها الراحل الطاهر جعوط. وكانت "الوسط" نشرت في حينها مقتطفات من تلك المقالة، وتابعت الجدل الذي أثارته حول تجربة الكتابة الأدبية باللغة الفرنسية في المغرب العربي. وبعد كل هذه السنوات، كانت "الوسط" أول مجلة تدخل بيت محمد ديب، حيث التقيناه لساعات طويلة، وعدنا بهذا الحوار: الاستقلال واكتشاف الفرد كيف ينظر محمد ديب اليوم، بعد قرابة نصف قرن من الابداع، الى مختلف المراحل التي عرفتها تجربته الأدبية؟ - لعل الروابط المشتركة بين هذه المراحل المختلفة قد لا تظهر بسهولة لمن ينظر اليها من الخارج. أما في ذهني، فهي واضحة كل الوضوح. هناك أسلوب كتابة واحد. فأي أدب، مهما كانت اللغة التي كُتب بها، لا يمكن ان يكتسب خصوصيته وتميزه الا من خلال أسلوب الكتابة الخاص بصاحبه. ولعل هذا أهم ما يميز الممارسة الابداعية عن غيرها من الكتابات التحليلية أو الصحفية. قبل ان انشر رواياتي الأولى المعروفة، كانت لي كتابات اخرى غير منشورة وغير معروفة حتى اليوم، وهي كانت ذات هواجس فنية وجمالية بالدرجة الاولى، ولذلك فهي تختلف تماماً عن "الثلاثية" التي جاءت في خضم الحركة الوطنية التحررية، وكانت اسهاماً مني في ضم صوتي الى الصوت الجماعي للثورة الجزائرية. وكان الظرف التاريخي آنذاك يحمّلنا ككُتّاب مسؤولية التعريف بوطننا وقضيته، بناسه وعاداته، وخصوصيته الثقافية. وبعد الاستقلال، صار الوضع مختلفاً. فالاستقلال كان بالنسبة إلينا نحن الكُتّاب الوطنيين المتمردين على الوجود الاستعماري، حدثاً رائعاً، له وقع خاص علينا. وضعنا كل ابداعنا في خدمة قضيتنا الوطنية، وعندما حصلت البلاد على استقلالها أصبح بامكاننا ان نتحرر بدورنا من عبء المرافعة باسم شعوبنا وأوطاننا. صحيح ان كتاباتنا اللاحقة ظلت مرتبطة بتربتنا الأصلية، لكن مشاغلنا أصبحت شخصية وأكثر ذاتية، ولم تعد تتعلق أساساً بالنضالات السياسية والاجتماعية التي عرفناها خلال حركة التحرر. وهكذا بدأنا تدريجياً نكتشف ذواتنا ومشاكلنا الحميمة والنفسية. وأصبح الفرد هو مركز اهتمامنا. ولكن تبقى بين هذه الأعمال المختلفة جسور مشتركة كثيرة. فقد تعثر على أجواء أو شخصيات متشابهة، في عملين متباعدين في الزمن. هذا لا يعني طبعاً ان التجربة نمت أو تطورت بشكل خطي، بل بالعكس اعتقد ان ثراء أية تجربة أدبية يكمن في تنوعها وتجددها باستمرار، وبأشكال مغايرة في كل مرة. واذا نظرتُ الى تجربتي الشخصية اليوم، أجد انها تطورت على شكل نجمة، أي في اتجاهات متعددة في الوقت نفسه. فلما انتقلت الى العيش في بلدان أخرى غير بلادي، كان لابد لأجواء رواياتي ان تتغير. أما نظرتي الى بلادي فلم تتغير، بل تعمقت أكثر، ذلك أن البعد يساعدنا دائماً على رؤية الاشياء بشكل أكثر موضوعية. هل شاهدت فناناً تشكيلياً خلال العمل؟ انه في لحظات معينة يحتاج الى الابتعاد عن اللوحة التي هو بصدد انجازها، كي يتسنّى له رؤيتها بشكل أكثر شمولية وموضوعية. وهذا ينطبق تماماً على المرحلة الثانية من كتاباتي، ابتداء من "الثلاثية الثانية". فبعد الاستقلال، أصبح من حقّي أن أوجّه الى بلادي نظرة نقدية، قاسية ولكن خالية تماماً من الضغينة، فنحن نعتب بشدّة على شخص قريب، بالذات لأننا نحبّه كثيراً! فحتى عندما أنتقد الحركات الاصولية الجزائرية - وأنا اختلف معها تماماً، وهذا شيء أود ان يكون واضحاً للجميع - أتعامل معها من دون ضغينة، وأعتبر مناصريها كأبنائي، مثلهم مثل بقية الجزائريين. ويتملكني شعور كشعور الأب الذي لا يمكن ان يحقد على أحد من ابنائه، مهما كان سخطه عليه ورفضه لتصرفاته، ومهما كانت هذه التصرفات تستدعي العقاب! الشجرة التي تحجب الغابة واذا عدنا الى تجربة الهجرة الى الشمال، فهي بالاضافة الى الرؤية النقدية التي أتاحتها لنا، سمحت لنا أيضاً بأن نكتشف ذواتنا بمقدار اكتشافنا الآخرين. وتحضرني في هذا الشأن مقولة الشاعر رامبو الشهيرة: "أنا" شخص آخر! ولا يمكن ان نكتشف ذواتنا فعلاً في اعتقادي الا عبر هذا الترحال، فاذا بقينا في بيئتنا الأصلية تظل نظرتنا أسيرة لها. ومتى تحررنا من تأثير هذه البيئة، فان ذواتنا تنكشف للآخرين، لكنها بالدرجة الأولى، وقبل كل شيء، تنكشف لنا. ولا شك في أننا أمام تجربة كهذه، نندهش من ذواتنا أكثر من اندهاش الآخرين. وأعمالي الأخيرة، منذ "ثلاثية الشمال"، تنطلق أساساً من هذا الاكتشاف للذات والدهشة المرافقة له. فلو بقيتُ في الجزائر، لكانت معرفتي لذاتي ولشعبي وللشعوب الأخرى محدودة جداً. هكذا تحررت نظرتي الى الآخر من وطأة الاستعمار، وخرجت من الاطار الذي وضعني فيه الأدب الكولونيالي الايكزوتيكي. وأنا في الحقيقة اكتفي باحياء أدب الرحلات الذي اشتهر به العرب القدامى، حين كان كتّابهم ورحالتهم يجوبون العالم، ويلقون نظرتهم الخاصة على الشعوب والمجتمعات التي يمرون بها، وهي دوماً نظرة عربية خالصة. وذلك ما أفعله بالضبط في رواياتي الأخيرة... وبالاضافة الى هذا التأمّل في "الأنا" و"الآخر"، ما هي هواجس وانشغالات محمد ديب الثقافية اليوم؟ - دعني أنطلق للاجابة عن هذا السؤال من مفارقة طريفة. فأنا أصبحت جزائرياً منذ عشت في فرنسا، في حين أنني كنت خلال اقامتي في الجزائر، اثناء الفترة الاستعمارية وحتى نفيي سنة 1959، أحمل الجنسية الفرنسية! ومع استعادة هويتي الأصلية، تولّدت لديّ رغبة جامحة في اعادة اكتشاف هذه الهوية، خاصة وانني أصبحت جزائرياً في بيئة أجنبية وغير مسلمة. وهذا البعد عن بلادي، سمح لي بأن ألقي على الواقع نظرة أكثر عمقاً، بعيداً عن التفاصيل اليومية التي تلهي أحياناً عن التعمّق في الواقع الثقافي. ولا شك أن بُعدي عن بلادي، هو الذي قادني الى تعميق نظرتي وتحليلي لهذا المتخيل الثقافي الاسلامي الذي أنتمي اليه. هكذا صرت أكثر اسلاماً بعد ان غادرت بلاد الاسلام! وربما يجد هذا تفسيره في ان انغماسنا في واقع المجتمعات الاسلامية الحالية، بكل مشاكلها وتفاصيلها الشائكة، يصبح مع مرور الوقت أشبه بالشجرة التي تحجب الغابة، فيحول دون ادراك البعد الروحي والحضاري لتراثنا. وانشغالاتي الفكرية تتمحور حالياً بالتحديد حول هذا الجانب الحضاري، اذ تراودني اسئلة كثيرة حول علاقتنا بالماضي وبهويتنا الأصلية... هل هو "البعد الروحي" لأدب محمد ديب، كما لاحظه وأشار اليه المستشرق المعروف جاك بيرك؟ - هناك بالفعل نزعة روحية وتأملية في أدبي. كل ما هو روحي وخاص بتراثنا يهمّني. وأنا أعتقد ان هذا التراث ليس ميّتاً أو ماضوياً بالضرورة، على الرغم من ان انشغالنا الطويل عنه، جعله يخرج من دائرة اهتماماتنا، فلا يعود جزءاً من ممارساتنا الفكرية الراهنة. وأصبح من الصعب اعادة انتاجه دون السقوط في السلفية الساذجة والمستلبة. فاعادة اكتشاف هذا المتخيل الاسلامي، ببعده الروحي العالمي، لا يجب ان يكون مسعى لاعادة تشكيل نموذج ماضوي جاهز ومقدّس... مسؤولية المثقفين الحديث يزجنا في الراهن الجزائري، ولا بد من التطرق الى الأحداث الدامية التي تدور هناك. - علينا ككُتّاب واجب الادلاء بالحقيقة قبل كل شيء. هناك اليوم في العالم العربي طرفان متواجهان. الاول في السلطة، فقد مصداقيته أغلب الاحيان، لأن معظم أنظمة الحكم استبدادية، مع فروق واضحة طبعاً بين بلد وآخر. والطرف الآخر هو فريق يدّعي لنفسه "النقاء"، ويعد بتطهير نظام الحكم. وفي حالة الجزائر، فان الاسلاميين اكتسبوا شعبية واسعة بفضل تأليبهم للناس ضد فساد نظام الحكم، ودخلوا اللعبة السياسية الديموقراطية ولكن ببرنامج غير ديموقراطي. وهنا يكمن الخطر. تماماً مثلما تدخل أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا الانتخابات الديموقراطية ببرامج معادية للديموقراطية. بالنسبة الى الجزائر نسأل: هل كان يجب التنبه الى الخطر قبل الانتخابات أم بعدها؟ وهل كان من الأسلم توقيف الانتخابات، كما حدث؟ أم التسليم بنتائجها ما دامت قد جرت، كما شهد على ذلك النظام بنفسه، في اطار احترام المبادئ الديموقراطية؟ أعتقد ان الاجابات عن هذه الاسئلة متضاربة، حسب ميول كل واحد منا، لكن دورنا ككُتّاب ومثقفين هو محاولة فهم مسار التاريخ، وليس السعي الى رؤية أو تقديم هذا التاريخ بالشكل الذي نريده أو نتمناه. وبعد الحاجز الذي وضع أمامهم، تحوّل اسلاميو الجزائر الى العمل الارهابي المسلح، وأصبح المثقفون مستهدفين في حياتهم وحريتهم. وهنا توجب علينا ان نتخذ موقفاً واضحاً يدين هذا العنف. لكن المأزق في الواضع الحالي انك حين تتخذ موقفاً ضد أحد طرفي النزاع، فانك تقوي شوكة الطرف الخصم، الذي قد لا يكون أفضل في الحقيقة، ولا الأقل بشاعة بالضرورة. وأمام وضع كهذا، فان مسؤوليتنا نحن المثقفين كبيرة، وهي تكمن في العمل على ضمان استمرارية الدولة الجزائرية، بغضّ النظر عن ميولنا الشخصية. وهذا أجدى برأيي من ان ندخل في صراعات ومناوشات مع الاصوليين، لأن ذلك يجرنا الى ميدانهم والى منطقهم. فحين نتحول الى خصوم سياسيين مباشرين لهؤلاء، أو لغيرهم، فاننا نتخلى عن مهمتنا ككُتّاب ومثقفين، وذلك يجرنا الى استعمال أساليبهم وأسلحتهم نفسها، وهي الاسلحة التي نعترض عليها وندين استعمالها. ونجد انفسنا، من حيث لا ندري، أمام سؤال لا مفر من الاجابة عنه: هناك اليوم قتلة يغتالون الجزائريين، مثقفين كانوا أم مواطنين بسطاء، فهل يجب ان نرفع السلاح في وجه هؤلاء القتلة؟ واذا تم استدراجنا الى هذا المنطق، فاننا لن نجد امامنا خياراً آخر سوى رفع السلاح للرد على العنف بالعنف. ولكن هل هذا هو دور المثقف والكاتب؟ لا أعتقد. وحين أقول هذا، لا أعني ان على الكاتب ان يلتزم الموقف الوسط، بل عليه ان يضع ابداعه وحياته كلها في خدمة بلاده. ولكن كيف وبأية سبل؟ فغداً، بعد مرور السنين، لن يذكر التاريخ لا رجال السياسة، ولا الاحزاب السياسية المتنازعة حالياً في الجزائر، بمن فيهم الاصوليين. لن يبقى في ذاكرة التاريخ سوى ما ابدعه المثقفون. وعلينا ان نسأل انفسنا عمّا يمكن ان نتركه لتاريخ هذا البلد من انجازات، بدل ان نستغرق في معارك هامشية وعابرة... ألم تفكر في كتابة رواية جديدة من وحي الواقع الحالي في الجزائر؟ - أنا أشتغل بالفعل على رواية جديدة حول هذا الموضوع. وهذا الأمر يراودني منذ سنوات، منذ البوادر الاولى لتأزم الوضع في الجزائر. فأنا لا يمكن ان اقف موقف اللامبالاة حيال ما يحدث في بلادي. لكنني لست رجل سياسة لأعبر عن موقفي بالادلاء بتصريحات صحفية ملتهبة أو باصدار مناشير دعائية. وسيلة تعبيري الوحيدة هي الأدب، لكن الامر يحتاج الى فترة تخزين لا غنى عنها، قبل ان تتشكل الرواية. فخلافاً للعمل الصحفي الآني، يتأخر النص الادبي دوماً عن الاحداث. وبين شروعي في الكتابة وخروج الرواية للناس، تمرّ فترة طويلة نسبياً، ولا بد أن يتجاوز النص الاعتبارات الآنية والعناصر المغيرة. ولهذا فانني أهتم بالدرجة الاولى بالقضايا الجوهرية الفكرية والاقتصادية والتاريخية التي هي أصل النزعات والتمزقات التي يشهدها المجتمع الجزائري اليوم.