أفرجت السلطات السودانية عن السيد الصادق المهدي بعد اعتقال دام 13 يوما. وفي الحلقة الثانية في سيرته الذاتية التي نشرتها "الوسط" في عددها السابق عرض لأهم الشخصيات السودانية التي يعتبر الصادق انه تأثر بها ولعبت دوراً اساسياً في توجهه الفكري والسياسي اثناء مراحل تعليمه الذي بدأ في جزيرة أبا وانتهى في جامعة اكسفورد. ملأت ثقافة الصادق المهدي وفكره مكاناً في الساحة الثقافية والفكرية في السودان والمنطقة العربية، بغض النظر عن الاتفاق او الاختلاف معه. وهي مرت بمراحل عدة ومدارس شتى لعبت دورها في تشكيل نظرته الى الحياة. فقد تلقى علوم الاصل على يد الشيخ الطيب السراج في اللغة والفقه والسيرة والادب، كما تلقى شيئاً من العلوم العصرية التي رغب فيها وشغف بها. يضاف الى هذا نهله الكثير من الثقافة الفولكلورية السودانية وفنون الادب الشعبي على أيدي الشيوخ والخالات والحبوبات. بدأت الثقافة الاسلامية عند المهدي من الخلوة لكنها لم تتطور بالقدر الكافي بسبب التعليم الاجنبي والتعليم غير المنتظم. وقد حاول تنمية ثقافته الاسلامية بالاتصال بأشهر المشايخ، امثال الشيخ يوسف ابراهيم النور والشيخ أبو القاسم هاشم والشيخ الفكي عبدالله عبدالمحمود الذي نهل منه علوم القرآن والتجويد وكان إماماً لمسجد القبة. الثقافة الاسلامية بمعناها الشامل نال منها الصادق المهدي كفايته من خلال القراءة والاطلاع التي كانت كل شيء في برنامجه في فترات السجن الطويلة التي قضاها. وربما قرأ معظم الكتب الاسلامية المرجعية تقريباً، ولهذا يعتبر ان السجن هو الجامعة الاسلامية في حياته. فكر الصادق مزيج من فكر المهدية الذي فتح عينيه عليه وهو يختلط في عقله مع علوم العصر وافكاره التي عاشها داخل السودان وخارجه وكان واقع المعايشة الاسلامية والعصرية هو التحدي الذي شغله كثيراً وأخيراً هداه كما يقول لبلورته في "نهج الصحوة الاسلامية" الذي اعلنه وتبناه في منتصف الثمانينات. ودوّن معظم آرائه الاسلامية العصرية في كتابه "العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاسلامي". ويرى انه أجاب عن سؤال التأمل الدائم والتحدي القائم بين الاصالة والمعاصرة. وعالج شأن العروبة والاسلام بعيداً عن أي مفاهيم عرقية. وكذلك يرى انه تفكر وتدبر في الاسلام والنزعة الافريقية والفكر الاشتراكي والرأسمالي وأخيراً اهتدى الى فكر التأصيل بلا جمود والتحديث بلا تبعية. العقل والغيب في حياة المهدي يعتبر الصادق نفسه من أكثر الشرقيين عقلانية، فلا يتناول موضوعاً الا ويحدد مقدمته ومتنه ومستنداته ونتائجه. هكذا كان تناوله لكل القضايا. لكنه على رغم ذلك يؤمن بأن في الكون وجوداً روحياً لا يطوله العقل وينبغي ان يتعامل معه الانسان بأحدى وسيلتين: التصديق بأخبار الوحي الصادقة، أو استلهام حقائقه عبر الشفافية الروحية، أو بالوسيلتين معاً. وهو كمؤمن برسالة محمد ص أقر بالتسليم بحقائق الوحي القطعية وروداً ودلالة في كتاب الله والسنة. يقول الصادق: "لقد عانيت معاناة كبرى لتحديد مصادر المعرفة الانسانية والاطمئنان الى العلاقة بينها، وبحثت في هذا الامر عبر دراسات كثيرة، وفي النهاية اطمأن عقلي وقلبي الى ان مصادر المعرفة الانسانية أربعة: الوحي والالهام والتجربة والعقل. بل اطمأن عقلي وقلبي الى ان هذه المصادر نزل القرآن بتحديدها والاعتراف بها، كما دل تاريخ الفكر الانساني عليها. فلا تناقض بين بيانات الوحي عنها وبين التاريخ الوضعي للانسانية. "اما الشواهد القرآنية فهي: الوحي: "ان هو الا وحي يوحى". الالهام: "اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به". التجربة: "وفي الأرض آيات للموقنين وفي انفسكم افلا تبصرون...". العقل: "ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون". ان تجربتي الشخصية جعلتني مهتماً جداً بمصادر المعرفة هذه فاقتحمت كتب التفسير والحديث لاعرف ما يمكن اعتباره قطعياً وروداً ودلالة. واهتممت اهتماماً بالغاً بالمعارف التجريبية ومن أهمها العلوم الطبيعية والتكنولوجية. كما اهتممت بالمعارف العقلية وزدت معرفتي الفلسفية والفت كثيراً في الفلسفة وان لم انشره بعد. واهتممت بالنهج العقلي والتجريبي في تناول القضايا المختلفة، لكن الذي قد لا يكون واضحاً لكثيرين انني تعرضت كثيراً لنفحات المعارف والاساليب الالهامية. ان دروب المعرفة الالهامية واسعة جداً تناول بيانها كثير من المفكرين، ولا سيما منهم الامام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال". انني مع عقلانيتي واهتمامي بالمعرفة العقلية والتجريبية واستخدامي لاساليبهما في منطقي واحتجاجي واستشهادي ادرك تماماً ان ثمة جانباً من المعرفة والبنية يأتي من مصادر الهامية، وقد حدث لي في تجاربي الشخصية ما حسم حيرتي في أمر اخفق العقل في حسمه وما أتاني بمعلومة لم اكن اعرفها واضرب بذلك الامثال الآتية: 1- قابلني السيد فتح الرحمن البشير رجل الاعمال المعروف وكان صديقاً لي وللرئيس السابق جعفر نميري وطرح علينا فكرة مصالحة وطنية مؤكداً لي ان نميري يرحب بذلك، فقدمت اليه بعض النقاط التي جعلناها شرطاً في المضي في مشوار المصالحة لو وافق عليها نميري. ثم عرضنا الامر على الاخوة المشاركين في قيادة الجبهة الوطنية التي تتولى معارضة نظام مايو. ولم تخرج الشروط عن تحقيق الحريات وبعض الاصلاحات السياسية. وكانت المفاجأة ان السيد فتح الرحمن البشير ابلغهم موافقة جعفر نميري على كل النقاط، وانه يود تحديد موعد للقاء ثنائي في مدينة بورتسودان. ولم أجد بداً من الموافقة، لكنني تلقيت رسالة من صديق في السودان تحذرني من ان "القى مصير المماليك" مختتماً الرسالة بعبارة "اللبيب بالاشارة يفهم". وبعد عرض الرسالة كان رأي الجميع عدم السفر الى بورتسودان لاحساسهم بالخطر، لكنني كنت في حرج اذ تمت الموافقة على شروطي فلماذا لا أسافر من أجل اللقاء؟ وأخيراً لجأت الى صلاة الاستخارة وفي الليلة رأيت في منامي انني ارتدي حذاء أخضر اللون واسعاً وقد اعتدت ان أرى الحذاء الاخضر الواسع في حالة النجاح والعكس في حالة الفشل... ولا انكر ايماني بنذر الخير والشر التي تأتي في الرؤيا من خلال الألوان... المهم قررت السفر للقاء نميري في بورتسودان ولم تكن النتيجة سيئة. 2- اعتقلني نميري مع بعض الاخوة في 18 أيلول سبتمبر 1983 لأننا عارضنا الشريعة الاسلامية، على حد زعمه، وأثار اعتقالنا أزمة، ورأيت في المنام وانا في المعتقل من يقول لي حالتكم هذه تجد تفسيرها في الاسم عباس محمد نصر، وقال هذا اسم مواقف، فعباس ترمز الى الموقف العابس وحمد يرمز الى الحمد والنصر هو النتيجة النهائية، وقد كان. 3- وصلت حال البلاد في ظل نظام نميري الى درجة كبيرة من السوء والتدهور وبعد اعلان حال الطوارئ عام 1984 كنا نسأل انفسنا متى نهاية هذا النظام الكابوس؟ ورأيت في المنام من يذكر لي التاريخ المحدد الذي انتهى فيه نظام نميري في 6 نيسان ابريل 1985 وابلغت المقربين مني بذلك، وقد كان". بعدما سرد الصادق المهدي هذه القصص الثلاث سألته عن مدى ايمانه ودرجة ذلك في المسائل الالهامية غير العقلانية فأجاب: "يحدث ايحاناً ان تعلق قرارك في أمر مهم الى حين يأتيك الهام أو رؤيا، لكن المؤسف ان بعض المسلمين يدخل الكثير من الدجل والشعوذة في المسائل الالهامية والغيبية". حزب الأمة نشأ الصادق في بيئة يعتقد بعض أهلها بأن حزب الأمة هو حزب السودان والحزب الاتحادي هو حزب مصر والشيوعي هو حزب الالحاد والكفر. وكان يتطلع الى دور أكبر من الحزبية بعدما اختتم دراسته الجامعية. بل قبل ذلك خلال الجامعة حيث حظي بقبول من اقرانه تمثل في انتخابات اتحاد الطلبة السودانيين في المملكة المتحدة بين 1955 و1957 اذ نال أكبر عدد من الاصوات وكان معظم المرشحين يمثل الاحزاب القائمة وكان هو يمثل حزب الامة، لكنه حرص على التصرف بروح غير حزبية، حسب تقديره، مع الاخذ في الاعتبار ان حزبه لا يتمتع بمناصرة كبيرة في أوساط المثقفين في فترة الخمسينات، لكن تجربة اتحاد الطلبة السودانيين جعلته يبدأ بالتفكير الجاد في البحث عن مناهج قومية تجمع كل أهل السودان ويعتبر هذا مسستحيلاً في بلد تأججت فيه الحزبية والطائفية والعصبية القبلية. ولهذا كان كل تفكيره بعد اكتمال الدراسة في أوكسفورد هو العودة الى السودان ثم التوجه الى كاليفورنيا لدراسة الزراعة. وصادفت عودته الى السودان مع الاستعداد للانتخابات النيابية مطلع 1958، وكان كل شباب الحزب في قلب المعركة وكلف الصادق أول مهمة سياسية في حياته، وهي الاشراف على الانتخابات في دوائر دنقلا وجبال النوبة. وقبل التكليف بجدية بالغة وسافر الى دنقلا ومنها الى جبال النوبة حتى نهاية المعركة الانتخابية التي خرجت بأول ائتلاف بين الانصار والختمية، وهو ما اتفق على تسميته "لقاء السيدين". وتم الائتلاف من دون اصلاح سياسي ولم يحقق للبلاد استقراراً بل جلب عليها أول انقضاض على الديموقراطية. ودفعت حال الاحباط السياسي في تلك الفترة الصادق الى اتخاذ قرار بالابتعاد عن السياسة والبحث عن وظيفة عادية في الدولة. وبالفعل التحق بوزارة المال - قسم التخطيط، بعدما كتب مذكرة لجده الامام عبدالرحمن ووالده السيد الصديق بقراره ورأيه في الاحباط السياسي القائم وتحوله الى علمه ومستقبله الجديد. ولكن... وقع انقلاب الفريق ابراهيم عبود في 17 تشرين الثاني نوفمبر 1958 كنتيجة طبيعية للواقع السياسي في الفترة التي سبقت الانقلاب، خصوصاً في حزب الأمة صاحب الغالبية الذي انقسم الى فريقين: فريق يقوده السيد عبدالله خليل الأمين العام للحزب ورئيس الوزراء ويرى ان المشاكل والأزمة السياسية قد تطيح الاستقلال نفسه ولهذا من الأفضل اللجوء الى الجيش. أما الفريق الآخر فكان يقوده الصديق المهدي رئيس الحزب ويرى عدم اللجوء الى العسكر لئلا يكون حل الأزمة في أيدي الآخرين. وكان الخلاف بين الفريقين برز قبل الانقلاب في موضوع ائتلاف حزب الامة، فمجموعة عبدالله خليل رأت ضرورة التحالف مع حزب الشعب الديموقراطي الذي يرعاه السيد علي الميرغني، بينما رأى فريق الصديق ضرورة التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي الذي يتزعمه السيد اسماعيل الازهري. وحسم انقلاب عبود كل الخلاف وتمت عملية التسليم والتسلم التي باركها الامام عبدالرحمن المهدي والسيد عبدالله خليل، ولكن سرعان ما تبين للأخير خطأه وغير موقفه من الانقلابيين الأمر الذي كلفه دخول المعتقل في الرجاف. واختار الصادق الوقوف في الجانب الذي يقوده والده الصديق فرفض الانقلاب والحل العسكري وقدم استقالته من وزارة المال وبقي الى جانب والده الصوت المعارض الرئيسي لحكومة 17 تشرين الثاني نوفمبر والمجاهر الوحيد بذلك، خصوصاً بعد وفاة عبدالرحمن المهدي في آذار مارس 1959 وتولي الصديق امامة الانصار. واستمر في معارضته ومقاومة الحكم العسكري بارسال المذكرة تلو الاخرى، وقد جمعها في ما بعد ابنه الصادق في كتابه "جهاد في سبيل الديموقراطية" الذي ضم كل مراحل العمل السياسي لمواجهة حكومة ابراهيم عبود. ونجح الامام الصديق في جمع كل القوى السياسية الى جانبه في "الجبهة القومية" واستمر رمزاً للمعارضة حتى وفاته في تشرين الأول اكتوبر 1961 وخلفه في زعامة الانصار اخوه الامام الهادي المهدي. واستمر الصادق في عمله في هيئة قيادة الانصار وحزب الأمة والجبهة القومية التي تجمع الاحزاب في معارضة الحكومة العسكرية. وبدأ في تلك الفترة يفكر في تطوير تركيبة حزب الأمة استعداداً للمرحلة الجديدة في عهد الديموقراطية الثانية التي اعقبت الانتفاضة الشعبية التي اطاحت "حكومة نوفمبر". وبالفعل افاد الحزب من بعض دروس الماضي ونال سنداً شعبياً أفضل من السند الذي ناله قبل انقلاب عبود. وأدى التفكير في تجديد صيغة الحزب الى فترة تعتبر من اسوأ الفترات في تاريخ الحزب، وهي الفترة التي شهدت الانشقاق وقيام جناحي الصادق والامام واستمر حتى عام 1969 عندما توحد الحزب على برنامج اطلق عليه "الاصلاح والتجديد"، ولكن قبل ان يهنأ الحزب بوحدته الجديدة كان نميري واعوانه انقضوا على الديموقراطية الثانية في 25 أيار مايو 1969 واقاموا الاوتوقراطية الثانية. وعاد حزب الامة الى قيادة المعارضة عن طريق الجبهة الوطنية حتى العام 1985 عندما حدثت الانتفاضة التي اودت بنميري، وكان للأمة دور واضح أهله لسند شعبي أكبر في فترة الديموقراطية الثالثة. يقول الصادق: "دخل حزب الأمة في مراحل تطوير مستمرة منها علاقة الراعي بالحزب، وكان أول خلاف في هذا الشأن ظهر عام 1950 حيث رأى بعضهم الا يكون للامام الراعي حق نقض قرارات الحزب. واستمرت محاولاته الاصلاحية التي قدمها في برامج مكتوبة هي "نحو آفاق جديدة" عقب ثورة أكتوبر وبرنامج الاصلاح والتجديد قبل انقلاب نميري، واخيراً "نهج الصحوة" عقب اطاحته. وتطورت اجهزة الحزب في فترة الديموقراطية الثالثة واصبحت الدوائر هي المسؤولة عن اختيار مرشحيها والشورى هي المعيار لاختيار مرشحي الحزب في الدوائر والمناصب القيادية والوزارية والتوزيع العادل لذلك حسب الثقل الجماهيري والجهوي. وظهر حزب الأمة في الفترة التي سبقت انقلاب عمر البشير في 30 حزيران يونيو كأكبر الاحزاب وافضلها تنظيماً، كما ان الحزب سجل حضوراً في معظم المدن التي لم يكن يحلم بأي سند فيها، ومنها أم درمان وكوستي والفاشر والأبيض والرهد والقضارف على رغم اكتساحه دوائر الريف حول هذه المدن. وكذلك برز الخريجون من ابناء الحزب بعدما كان الحزب في السابق يعتمد على زعماء العشائر التقليديين وبدأنا نسمع للمرة الاولى عن طلاب حزب الأمة في الجامعات والمعاهد لكنه وجود صار لا يضارع بوجود الطلاب الاسلاميين واليساريين". الحزب الاتحادي الديموقراطي حديثنا عن الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي تأسس بعد اندماج حزبي الشعب الديموقراطي والوطني الاتحادي عام 1967 هو من خلال علاقة الصادق بهذا الحزب ونحن نعرض مذكراته وسيرته الذاتية، ولهذا فان الرأي هنا عرضة للاتفاق والاختلاف معه لكنه جزء من محاولة لتوثيق الحركة السياسية والفكرية في السودان. بدأت علاقة الصادق بالاتحاديين اثناء زعامته اتحاد الطلبة السودانيين في المملكة المتحدة في الخمسينات، وخلال عمله أميناً عاماً في الجبهة القومية التي ناضلت ضد حكومة عبود في الستينات أو في قيادة الجبهة الوطنية التي عارضت جعفر نميري في السبعينات ثم في حكوماته الائتلافية مع الاتحاديين عقب انتفاضة 1985. اتفق حزب الأمة مع الاتحاديين منذ الديموقراطية الثانية على عدم التنافس على المناصب الرئاسية وأن تؤول رئاسة الوزارة الى حزب الأمة ورئاسة مجلس السيادة للحزب الاتحادي التي حفظت للسيد اسماعيل الازهري مكانته اللائقة وكانت العلاقة أفضل بين الازهري والصادق، لكنها لم تكن بالقدر المناسب الذي افاد البلاد. بعد انتفاضة 1985 رأى الصادق ضرورة توطيد التعاون مع الاتحادي الديموقراطي لخلق ما كان يسميه التجانس السياسي، نظراً الى وصول الخلافات بينه وبين حزب الجبهة الاسلامية القومية الى أبعد مداها، بعدما كان التجانس بينهما واضحاً قبيل انقلاب نميري. وفي منتصف عهد نميري رأى الصادق الا يتنافس حزبه والاتحادي في الدوائر المقفولة لأحد الحزبين، لكن هذا لم يجد قبولاً من الاتحاديين خصوصا بعد ظهور نتيجة الانتخابات التي نجح فيها حزب الأمة في أكثر من مئة دائرة في مقابل 64 دائرة للاتحاديين. كما ان الاتحاديين حاولوا التقارب مع الجبهة الاسلامية في اتفاق وقعه السيدان الشريف زين العابدين الهندي عن الاتحادي والدكتور حسن الترابي زعيم الجبهة ونص على التنسيق بعد تقارب وجهات النظر في بعض القضايا، منها "اتفاق كوكادام" الذي وقعته القوى السياسية والنقابية مع حركة قرنق عام 1986، باستثناء الاتحادي والجبهة، وكذلك موقفهما من الغاء قوانين ايلول سبتمبر المتعلقة بالشريعة الاسلامية التي اعلنها وطبقها نميري، واتفقا على الوقوف معاً في المعارضة أو الحكم، لكن الجزء الاخير لم يطبق. وكان الصادق يرى ان هذا الاتفاق من "عوامل تهديد الديموقراطية الثالثة"، وكان يأمل بوفاق قومي للوصول الى السلام والتنمية، ولكن لم يحدث شيء سوى ائتلاف بين الحزبين استمر حتى انقلاب عمر البشير مع تعديلات طفيفة. ويعتبر الصادق ان الحزب الاتحادي انزعج من نمو الجبهة الاسلامية وكان يحاول ابعادها عن الحكم وزايد في قضية السلام كما زايدت الجبهة في قضية الاسلام. وبعد تولي "ثورة الانقاذ الوطني" الحكم في 30 حزيران 1989 وجد الزعماء السياسيون انفسهم داخل سجن كوبر خصوصاً الصادق ومحمد عثمان المرغني اللذين وجدا الفرصة لمراجعة المواقف السابقة وقررا استئناف العمل المشترك حالياً ومستقبلاً. واعتبر الصادق ان الحزب الاتحادي ليس في الصورة التي كانت مرسومة في اذهان ابناء المهدي وشباب حزب الأمة وهو أنه حزب مصر بل هو حزب سوداني أيا كانت درجة الاتفاق والاختلاف مع قياداته. الجبهة الاسلامية القومية بدأت علاقة الصادق بنشاط الاسلاميين في السودان في جامعة الخرطوم التي دخلها بداية الخمسينات لفترة محدودة قبل سفره الى أوكسفورد. ويعترف بأنه لم يتعرض لاستقطابهم على رغم عدم وجود تنظيم لحزب الأمة في الجامعة في تلك الفترة وعلى رغم وجود الأرضية المشتركة الاسلامية بينهم، لكنه كان يرى ضرورة التعامل معهم وقد هيأ لقيادتهم اجتماعا مع الامام عبدالرحمن المهدي للاعداد لعمل اسلامي مشترك. ودار حوار مثمر لكنه لم يتحول الى تحالف. كما ان خلافاً وقع داخل الحركة الاسلامية نفسها على موضوع الاستقلال أدى الى انشقاق مجموعة كبيرة بقيادة بابكر كرار. كما حدث خلاف لا تزال آثاره حتى الآن بين تنظيمي "الاخوان المسلمين" في مصر والسودان، لكنه لم يظهر بسبب سياسة التشدد التي اتبعها الرئيس جمال عبدالناصر مع الاسلاميين في بلاده وموقف الاسلاميين في السودان في مواجهة اي تقارب مع مصر الناصرية. وحدث الانسجام والتنسيق الكاملان بين الصادق والحركة الاسلامية في منتصف الستينات لمواجهة الخطر الشيوعي واستمر هذا الانسجام لاحتواء المد الشيوعي وايجاد صيغة للتكامل بين القوى الاسلامية. وظهر التعاون حتى الثمانينات في شكل "المجلس الاسلامي" في لندن و"جماعة الفكر والثقافة" في الخرطوم وأثمر في وثائق وبيانات ونشاط مشترك في مجال الاقتصاد الاسلامي تمثل في "دار المال الاسلامي" بمشاركة اسلاميين آخرين من غير السودانيين وقيام "منظمة الدعوة الاسلامية". واستمر التعاون والتنسيق حتى وقع الخلاف الكبير والفراق بعد اعلان نميري تطبيق الشريعة الاسلامية. ويعتبر الصادق نفسه مهندساً للعلاقة بين حزبه والجماعات الاسلامية التي اتخذت اسماء مختلفة آخرها الجبهة الاسلامية القومية. وكان يرى ان الهدف الاساسي لهذا التحالف هو تجميع القوى الجديدة التي افرزتها الاحزاب الكبيرة والحركة السياسية في خارج الاحزاب، في اتجاه يحاصر "الاطماع الشيوعية" ويسعى الى إقامة نظام اسلامي تسانده جماهير عريضة من القوى الشعبية والقوى الحديثة. وحقق هذا التحالف، في نظر الصادق، بعض اهدافه، خصوصا احتواء المد الشيوعي، لكنه تعثر امام الطرح الاسلامي الذي شرع فيه نميري في 1983، اذ رأى الصادق وحزب الأمة ان هذا الطرح مخالف لكل الضوابط المتفق عليها للتطبيق الاسلامي عبر المجلس الاسلامي العالمي، وعبر جماعة الفكر والثقافة الاسلامية السودانية، وعبر الحوارات الطويلة المتراكمة، وانه طرح انتهازي ينبغي استنكاره. بينما رأت جماعة الجبهة انه توجه اسلامي ينبغي دعمه ومحاولة ترشيده من الداخل ان لزم. وزادت مسافة هذا الاختراق عندما شاركت "الجبهة الاسلامية القومية" بصورة أو أخرى في دعم انقلاب 30 حزيران يونيو 1989 وما سار فيه الانقلاب من برنامج حزبي لحل مشكلات البلاد، بينما رأى الصادق ان مشاكل السودان الكبرى يمكن ان تحل قومياً وديموقراطياً وان الشورى والحرية والعدالة فرائض سياسية اسلامية لا يمكن تطبيق الاسلام بمعزل عنها. الحزب الشيوعي ينظر الصادق الى الشيوعية كأنها فكر غريب وافد لا يمكن التعايش معه، لكنه وجد خلال دراسته في المملكة المتحدة فرصة للحوار مع اليساريين امثال طه بعشر ومكاوي خوجلي ووجد اتفاقاً معهم على العدل الاجتماعي والسياسة الخارجية والتحديث، وخلافاً على فلسفة الالحاد والعلاقة مع المعسكر الشرقي والصراع الطبقي. وحاول امتصاص الكثير من العداء التقليدي بين حزب الأمة والشيوعيين، فتعاون الطرفان خلال فترة حكم ابراهيم عبود، وتحاور الصادق كثيراً مع زعيم الحزب الشيوعي عبدالخالق محجوب، لكن الحوار لم يتطور الى نتيجة خصوصا ان الفريقين اختلفا على ثورة تشرين الأول الشعبية. كان ميثاق "ثورة اكتوبر" الذي وقعت عليه القوى السياسية وهي الاحزاب وجبهة الهيئات يتلخص في تصفية آثار الديكتاتورية، واعادة الدستور الديموقراطي الموقت لعام 1956 مع تعديلات، وحل سلمي لمشكلة الجنوب، واحالة سلطات رئيس القضاء على مجلس قضاء، واجراء انتخابات عامة حرة في فترة حددها الميثاق، واتفق اثناء التفاوض في شأن تكوين "حكومة اكتوبر" الانتقالية على ان تمثل الاحزاب السياسية في الحكومة بوزير واحد لكل حزب أيا كان حجمه على ان يكون بقية الوزراء من جبهة الهيئات. لكن "حكومة أكتوبر" اضطربت لأن الحزب الشيوعي اصبح ممثلاً بأكثر من ثمانية وزراء في الحكومة لأن بعض من دخلوا باسم جبهة الهيئات كانوا في حقيقة الأمر اعضاء في الحزب الشيوعي. وشجع هذا الخلل الحزب الشيوعي لمحاولة فرض برنامجه على الحكومة، وتحويل برنامجها مما نص عليه الميثاق القومي الى برنامج آخر، وصارت أهم نقطة نشأ عليها نزاع في هذا الصدد هي مسألة تأجيل اجراء الانتخابات، فدار عليها صراع دستوري وسياسي كانت نتيجته إقالة "حكومة اكتوبر" واعادة تشكيل الحكومة تشكيلا اكثر توازناً واجراء الانتخابات في موعدها. وسمم هذا الخلاف العلاقات بين الاحزاب واجريت انتخابات عامة حرة نال الأمة فيها اكثرية يليه الاتحادي الديموقراطي وبعده الحزب الشيوعي ثم جبهة الميثاق الاسلامي، وتكونت حكومة ائتلافية بين الأمة والاتحادي. وفي المناخ العدائي بين القوى الوطنية والاسلامية والحزب الشيوعي عقدت ندوة تحدث فيها طالب منتسب الى الشيوعيين مما اعتبر تجريحاً بآل البيت فانطلقت تظاهرات توجه بعضها الى منزل الرئيس اسماعيل الازهري رئيس مجلس السيادة آنذاك مطالبة بموقف حازم من الشيوعيين واعلن الازهري ضرورة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية، وهو ما حصل. ولم يكن الصادق يرى ذلك حلاً مناسباً، لكن التيار الشعبي والبرلماني كان طاغياً. وكان الصادق رئيساً لحزب الأمة لكنه لم يكن في البرلمان ولا في الحكومة. وعمل اثناء هذه الازمة على احتوائها باجراء حوار مع اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي على اساس عدم تصعيد الموقف ومواجهة ما يحدث باللجوء الى القضاء... وهذا ما كان. وتطورت الاوضاع في الحكم وتعرض الائتلاف الحاكم لاهتزازات وانشق الامة الى جناحين لفترة تزيد على عامين ثم توحّد مرة اخرى. وفي هذه الاثناء خططت مجموعة من الحزب الشيوعي ومجموعة اخرى من الناصريين لتغيير النظام ما ادى الى انقلاب مايو 1969 رافعاً شعارات شيوعية ومستعيناً بكوادر شيوعية وناصرية. كان هدف الصادق منذ قيام عمل مشترك بين حزبه والحزب الشيوعي اجراء حوار تكون نتيجته اتفاق اساسي على الديموقراطية والوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية والتنمية وبناء المجتمع الحديث والحياد الايجابي في السياسة الخارجية، لكن "انقلاب مايو" وضع حداً لكل ذلك، واختار الشيوعيون التعامل مع خصومهم بعنف السلطة، وهو اختيار ذاقوا هم انفسهم منه الامرين وعادوا الى معارضة الاستبداد العسكري مما اتاح استئناف الحوار القديم بصورة جاءت بنتائج ايجابية في ظل القيادة الجديدة للحزب الشيوعي التي استطاعت ان تحدث بقيادة محمد ابراهيم نقد اصلاحاً وانفتاحاً فلعبوا دوراً أكثر ايجابية في ظل الديموقراطية الثالثة. ويرى الصادق ان التشويش اليساري الذي ظهر اثناء الديموقراطية الثالثة كان في الغالب بفعل اليسار العشوائي لا بقيادة الحزب الشيوعي السوداني كما كان الحال في الستينات. واثناء فترة الديموقراطية الثالثة ظهر الشيوعي من جديد أكثر افتاحا وتسامحا بقيادة نقد، وظهر دوره في البناء القومي ووصل الى درجة تمثيلهم في آخر حكومات الصادق الذي واصل حواره معهم داخل السجن، بعد انقلاب البشير، على التطورات التي حدثت في المعسكر الشرقي، وكان يشجعهم على القيام بدور جديد كان يرى وجود مقوماته لديهم، لكنهم لم يكونوا مستعدين للقيام بهذا الدور، الا انه قدم اليهم مذكرة لمراجعة موقف الشيوعية من الدين والعلاقة الخارجية والصراع الطبقي فرفضوها واعتبروها تدخلاً في شؤونهم. ويعلق الصادق: "لا شك في انهم ندموا الآن على عدم الاسراع في مخاطبة المتغيرات في العالم". الاحزاب الجنوبية في بداية دخول الصادق المعترك السياسي كانت له آراء محددة في التعامل مع الجنوبيين، ظهرت في كتابه "مسألة جنوب السودان" الذي اصدره في نيسان ابريل 1964 وأوضح فيه ضرورة المشاركة السياسية والحل السلمي. وقال ان مسألة الجنوب لا يمكن حلها الا بالسياسة والابتعاد عن الحلول العسكرية. وحدث تحالف بينه وبين الزعيم الجنوبي الأكبر في ذلك الوقت السيد وليم دينغ الذي أسس حزب سانو. ويرى الصادق ضرورة تحديد الموقف من الجنوب: الوحدة الكاملة ام الانفصال ام الحل الوسط الذي يرضي الاطراف كلها ويحقق التجانس؟ ويميل الى الحل الوسط لان الحلول الاخرى لا تخرج عن الحرب حتى يفني أحد الطرفين الآخر أو الانفصال. واستمر الحوار والتحالف مع وليم دينغ لكنه توقف بعد اغتيال الأخير. الا ان التعاون عاد في الديموقراطية الثالثة بين الصادق والاحزاب الجنوبية حتى بلغ مداه في آخر حكوماته التي ضمت في عضويتها ممثلين لكل الاحزاب الجنوبية. النقابات كان العمل النقابي في السودان محل اهتمام أكبر للشيوعيين الذين دفعهم فكرهم نحو القاعدة العمالية لتحويلها نحو اهدافهم السياسية. وعندما بدأ النشاط النقابي في البلاد وجد ترحيباً من الاحزاب السودانية التي ساندت عمال السكة الحديد حتى قامت نقابتهم واعترفت بها الحكومة الاستعمارية عام 1948. ومع تطور الحركة النقابية تأسس الاتحاد العام لنقابات عمال السودان و كان اشبه بواجهة عمالية للحزب الشيوعي فشككت فيه القوى السياسية الاخرى. لذلك لم تعترف الحكومات الوطنية بهذا الاتحاد. لقد كان استعجال الشيوعي في الانتقال بالحركة النقابية في كل مجالاتها المهنية والزراعية والعمالية، مخلاً وضاراً بها لانه عرضها في مراحلها التكوينية لتمزق وانقسام من داخلها كما عرضها لخصومة من القوى السياسية غير الشيوعية في بلد لم يكن للشيوعية وزن شعبي يذكر. لكن الصادق في عهد رئاسته الاولى للوزارة في 1966 التي امتدت حتى حزيران يونيو 1967 حاور الاتحاد عام للنقابات وحاول اقناعه بأن التخلي عن الاغراض السياسية الحزبية سيؤدي الى مزيد من الوزن النقابي. وبالفعل تحققت درجة من التعاون بين الحكومة والحركة العمالية في السودان عام 1948 بقيام نقابة عمال السكة الحديد في عطبرة التي لاقت قبولاً وترحيباً من كل الاحزاب. واستفاد الشيوعيون من النقابات لكنهم في المقابل خسروا حيث نال الاتحاد العام للنقابات الكثير من عدم الاعتراف من الحكومات المختلفة بسبب ارتمائه في احضان الشيوعيين. وعندما دخل الصادق العمل العام وتولى رئاسة الوزارة في فترة الديموقراطية الثانية في أيار 1966 حاول التعاون مع اتحاد العمال والاعتراف به وطالب الاتحاد بألا يكون مظلة سياسية. في فترة الديموقراطية الثالثة كان الصادق متعاوناً مع النقابات الى اقصى درجة بسبب التحالفات الجديدة بعد طاحة نميري كذلك بسبب الموقف الموحد بين الطرفين المهدي والنقابات من الجبهة الاسلامية القومية ذات النفوذ المتنامي في هذه الفترة. وظهر التعاون بين المهدي والنقابات في الحوار المستمر والمشاركة في مشاريع الاجور والميثاق الاجتماعي، لكن يبدو ان النقابات لم تتعامل مع المهدي بالحس نفسه حيث كانت من عوامل تهديد فترة حكمه واضعاف نفوذه بكثرة المذكرات والاضرابات والاعتصامات التي لم تشهد لها البلاد مثيلا، وادركت بعد 30 حزيران 1989 الخطأ الفادح الذي وقعت فيه. ويرى الصادق ان العلاقة بين الحكم والنقابات علاقة مهمة جداً للنظام السياسي وللنظام الاقتصادي وتوصلت البلدان الديموقراطية العريقة الى صيغة تعامل مستقرة. اما النظم الاوتوقراطية فتخضع النقابات لاوامرها وتقمع الحرية النقابية ضمن قمعها للحريات العامة. اما في العالم الفقير النامي وفي ظل الديموقراطية فلا مناص من كفالة حرية التنظيمات النقابية وديموقراطية تكوينها.