منذ بروزها في عالم الفن، أثارت الفنانة الاميركية مادونا ضجة ان على صعيد طريقة تقديمها لاغانيها وفنها، أو على صعيد حياتها الخاصة، الأمر الذي جعلها موضع اهتمام أهل النقد والاعلام في اميركا وأبرزها كنجمة متميزة وفريدة. لكن هذا المنحى الذي اتخذته الفنانة الشابة كانت له اسباب يروي قصتها التحقيق الآتي: بعدما احتكر الرجال أغنية الروك ردحاً طويلاً من الزمن، جاء العام 1984 بمنافسات موهوبات مثل تينا تيرنر وسيندي لوبير وكريسي هنيد اعتبرتهن الصحافة العلامة الفارقة التي تميز تلك السنة عما سبقها. ففي "عام انتصار مطربة الروك" استضافت خشبات المسارح نساء قويات لقيت مواهبهن الفنية استحساناً كبيراً حتى بين عمالقة الروك اند رول المعروفين: ميك جاغر وبرنس وديفيد لي روث. إلا أن عالم الروك لم يبق حصراً على هؤلاء المطربات بل شهد العام نفسه ولادة نجمة فنية اسمها مادونا كانت مختلفة كل الاختلاف عن سيدات أغنية الروك الأخريات. بخلاف زميلاتها، أثارت القادمة الجديدة جدلاً واسعاً في صفوف نقاد هذا الفن الرائج وعشاقه الى حد سواء. وبينما امتازت الأخريات بمواهبهن الفذة وأصواتهن الشجية تسلحت مادونا بأنثويتها الطاغية التي أوصلتها الى قلوب الملايين، كما يقول بعض منتقديها. ولم تفتقر مادونا الى المعجبين أكانوا من مطربي الروك أم من المهتمين به، لكن خصومها الذين لم يرق لهم أداؤها كانوا اكثر عدداً وبأساً. حتى ان السخط دفع ببعض هؤلاء الى القول ان مادونا ليست الا متطفلة على الغناء، فصوتها ميت لا حياة فيه وموسيقاها بائسة متخلفة. وفي العام التالي، أتى رد مادونا فعلاً لا قولاً، اذ اثبتت براعتها في ميدان التمثيل، ناهيك عن أغاني الروك. ففي سلسلة من الأعمال الجديدة هي عبارة عن أفلام استعراضية قصيرة مصاحبة لأغانيها الحديثة: "فتاة مادية" و"مثل عذراء"، وغيرها، استقطبت الفنانة الشابة الاضواء وشهد لها الجميع بقدرتها على اسعاد الجمهور بصوتها الانيق وأدائها التمثيلي الرائع. ولم يغب سحرها الانثوي عن النقاد الذين صفقوا لها بحرارة، بل قارنها بعضهم بمارلين مونرو. ورأى آخرون في مادونا خليفة للنجمة الراحلة لا تقل عنها جمالاً وجاذبية، فضلاً عن الخفة التي تميز الفنانتين. ولعل احدى مواهبها التي قدّرها النقاد خير تقدير هي نجاحها في الهزء من نفسها، ما جعل بعض أفلامها دعابة طويلة تؤديها ممثلة كوميدية متمكنة لقد حملت مادونا علائم النبوغ منذ بداية رحلتها مع الفن، اذ طرقت الشهرة بابها وهي بعد يافعة في السابعة عشرة من عمرها. مشاكل منذ الصغر وحملت مادونا علائم النبوغ منذ بداية رحلتها مع الفن، اذ طرقت الشهرة بابها وهي بعد يافعة في السابعة عشرة من عمرها. كانت مادونا لويز فيرونيكا سيكوني ولدت في ميتشيغان أميركا في آب اغسطس 1958 لعائلة مؤلفة من أبوين وستة أطفال 3 ذكور و3 اناث. عمل والدها الأميركي المتحدر من أصل ايطالي مهندس تصميم في احدى المؤسسات الصناعية واتسم بآرائه المحافظة وورعه البالغ. أما والدتها فكانت ذات أصل مختلف: سليلة عائلة كندية - فرنسية عُرفت بجمالها وحسن معشرها. لذا كانت وفاتها في 1963 بسرطان الثدي حدثاً مأسوياً نزل على الطفلة الصغيرة نزول الصاعقة وترك في حياتها آثاراً لم تمحَ حتى الآن. وعندما قرر والدها الزواج ثانية بعد سنوات قليلة كانت مادونا أكثر اخوتها وأخواتها معارضة. ورفضت الانصياع لرغبته ومناداة زوجته ب "يا أمي" بسبب تعلقها الشديد بوالدتها الراحلة، بينما لبى اخوتها الآخرون رغبة أبيهم. ولعلها شعرت بشيء من المنافسة مع زوجة أبيها، إذ كانت سيدة البيت بعد رحيل أمها فهي كبرى شقيقاتها التي دأبت على رعايتهم والاهتمام بالأمور المنزلية عموماً، وها هي الآن مضطرة للتنحي عن سلطاتها لامرأة غريبة. ومنذ قدوم زوجة الأب احست مادونا وكأنها سندريلا جديدة أجبرها حظها العاثر على العيش مع "خالة" نكدة، فصارت تتوق للخلاص وتحلم بالهرب من هذا الجو القاتم. التعرف على عالم الاستعراض ولم يطل بها الزمن حتى حققت رغبتها هذه فلجأت الى عالم الحلم و"الفانتازيا" الذي شغلها في مرحلة المراهقة عن المحيط البائس. وبدأت بالتعرف على الرقص وفن الباليه في 1972 وكانت صداقتها مع هذا اللون الاستعراضي هي العتبة التي عبرت منها الى عالم الفن الأرحب في ما بعد. ولم تنثنِ عن هذه الهواية على رغم معارضة والدها وتذمره الدائم من زياراتها المتكررة للنوادي الليلية، حيث كانت المراهقة الصغيرة تمضي الساعات الطويلة في التمايل على أنغام الموسيقى الصاخبة بين حشد من الشباب والشابات. الا ان مثابرتها كانت مجدية نوعاً ما اذ انهت المرحلة الثانوية من دراستها في 1976 وتخرجت بتفوق كوفئت عليه بمنحة لدراسة الرقص في جامعة ميتشيغان. ومع ان الفرحة غمرتها بادئ الأمر لفوزها بالمنحة التي ضمنت لها الرحيل عن المنزل، حيث أمضت سنوات طويلة في "رعاية الأطفال"، لم يطب لها العيش في الجامعة وما لبثت ان اتجهت صوب نيويورك غير عابئة برفض أبيها للفكرة. وفعلاً وصلت الى مانهاتن في صيف 1978، وأقامت في شقة متواضعة في احد احيائها الذي عششت فيه الجريمة والمخدرات، وغصت شوارعه بالخارجين عن القانون. لكن مادونا لم تأبه لذلك، اذ تسمرت عيناها على الشهرة والمجد وشرعت تبحث عنهما بحثاً دائباً أنساها كل ما حولها. ووفقت أول الأمر في العثور على عمل بسيط موديل لرسامين مغمورين كسبت فيه قوتها. ولم تهجر هوايتها القديمة بل تابعت ممارسة الرقص فترة لا بأس بها قبل ان تفوز بجائزة متواضعة على أدائها الجيد. غير ان الجائزة الحقيقية كانت فرصة اللقاء مع فنانين وفنانات في بداية المشوار يداعبهم حلم الشهرة والطموح بالوصول الى القمة. وذكرت تلك الأيام بود ظاهر في مقابلة أخيرة قالت فيها: "كنت بين أناس جميعهم سود البشرة أو متحدرون من أصل اسباني. ملأ حياتهم الحلم بالشهرة، حتى ان كلاً منهم أراد ان يصبح نجماً تطرب الملايين لسماع صوته أو تسحرها حركاته الراقصة". بدايتها مع الروك ولم تلبث مادونا ان ادركت ان الرقص لن يفضي بها الى المجد الذي تنشده، فأخذت تبدي اهتماماً اكبر ب "الروك اند رول" ورغبة بتعلم العزف على آلات موسيقية مختلفة. وابتسم الحظ لها حينما التقت الموسيقى دان غيلوري الذي درّبها على عزف الغيتار. وبعد اقامة قصيرة في باريس عملت خلالها مطربة ثانوية في احد النوادي الليلية الشعبية، انضمت الى غيلوري وفرقته "بريكفاست كلوب" كمطربة وعازفة تساهم في أداء اغاني الروك الرائحة. وبعد زمن لا بأس به حاولت ان تصبح المطربة الرئيسية في الفرقة دونما جدوى، نظراً لرفض الأعضاء الآخرين. فعادت الى مانهاتن في 1982، حيث أسست فرقتها الخاصة ذات الاسماء المتعددة: ميليونيرز ومودرن دانس وأخيراً إيمي، وواصلت كتابة كلمات الأغاني كما كانت تفعل من قبل، وصارت المطربة الأولى في فرقتها الصاعدة. وترددت مع فرقتها على بعض نوادي مانهاتن الليلية التي فتحت ابوابها، ما دفعها الى بذل مزيد من الجهود كيما تحقق حلمها المنشود الذي بدا لها ممكناً اكثر من أي وقت مضى. وخلال أشهر قليلة لفتت مادونا نظر احد المشتغلين في الفنون الاستعراضية فشجعها على حل فرقتها والعمل تحت اشرافه. واستطاع مديرها الجديد أن يأخذ بيدها على طريق النجاح، اذ أثمر تعاونها معه عن تقدم ملحوظ احرزته في زمن قياسي فنضج أداؤها الغنائي والتمثيلي وصارت موسيقاها نابضة بالحياة. ولما وصلت اثنتان من اغنياتها الى شركة ساير للاسطوانات سارع رئيسها الى توقيع عقداً مغرٍ معها. وفي مطلع العام التالي 1983 أصدرت الشركة المجموعة الغنائية الأولى والتي اتخذت من اسم النجمة الصاعدة عنوانها لها. ولشد ما قلقت المطربة الشابة والمتعاونون معها عندما لم تحظَ المجموعة بالرواج الواسع أول الأمر. لكن لم يخب أملها وواظبت على الغناء في نواد ليلية، حيث لاقت نجاحاً متزايداً وبدأت الاذاعات تبث اغانيها. وما هي الا فترة قصيرة حتى ظهرت ثلاث اغنيات في لائحة الأغاني الأكثر مبيعاً. وأخذت أسهم اغاني "العطلة" و"الكوكب المحظوظ" و"حدود" بالارتفاع شيئاً فشيئاً حتى تبوأت الأخيرة مركز الصدارة على لائحة الاغاني الرائجة في صيف 1984. ومع ان ظهور مادونا في فيلم "بحث الرؤية"، حيث أدت أغنيتها "أُجَنُ بك"، عاد عليها ببعض الشهرة فإن الفضل الأول في ذياع صيتها عالمياً يعود الى مجموعتها الثانية "مثل عذراء" 1984 التي تصدرت أغانيها قائمة المبيعات في أميركا خلال صيف وشتاء 1985، وبثت محطات التلفزيون والاذاعة أغاني مادونا الجديدة التي اصبح اسمها آنذاك على كل شفة ولسان، وأعادت الى الاذهان صورة الفاتنة مارلين مونرو. لكن هذا الرواج المنقطع النظير اقترن بسخط عارم عبّر عنه بعض الكاتبات والصحفيات اللائي اتهمنها بالاساءة الى الحركة النسائية وقضية المرأة، بسبب استغلالها انثويتها الطاغية في اغانيها وأعمالها الاستعراضية. ودافعت المطربة عن نفسها بحرارة متهمة هؤلاء المثقفات بالتحيز اذ انهن "لا ينبسن ببنت شفة عندما يستغل ميك جاغر أو برنس وغيرهما ذكوريتهم في أدائهم الغنائي". غير ان معظم هؤلاء الحانقات أدركن في ما بعد أن لدى مادونا مواهب فنية فذة، خصوصاً عندما ظهر فيلمها الشهير "البحث عن سوزان" 1984 الذي أدته ببراعة وثقة جعلتاها جديرة بالاعجاب. وبعد ظهور الفيلم بأسابيع بدأت جولتها الغنائية المسماة ب "عذراء" والتي قادتها الى كل مدن الولاياتالمتحدة المهمة حيث أدت مجوعة من أعمالها الجديدة منها "الفتاة المادية". وفي هذه الاثناء تحققت من نجاحها الباهر الذي تجلى في تأثيرها على معجبيها ومعجباتها من الشباب الذين أتى معظمهم الى حفلاتها وهم يرتدون ثياباً تشبه تلك التي تبخترت بها على المسارح، حتى ان اكثر المراهقات حرصن على تقليد تسريحة شعر المطربة أيضاً. وكما برزت فنياً وتابعت نجاحاتها المثيرة على صعيد أغنية الروك، لم تخلُ حياتها الخاصة من الاحداث المصيرية. اذ تعرفت على الممثل الشهير شين بين في أواسط 1985 وأعلنت عن نيتها الاقتران به. آنئذٍ كثرت الشائعات حول العريسين وما يواجهانه من خلافات حادة، وتوقع لهما كثيرون الانفصال قريباً. الا ان مادونا حاولت الحفاظ على زواجهما رغم الصعوبات الجمة، وتابعت احراز النجاح المدهش حتى صارت في 1986 مثالاً للفتاة المعاصرة بتسريحة شعرها القصيرة ومجوهراتها وأزيائها التي لاقت رواجاً منقطع النظير بين مراهقات تلك الفترة. وفي العام نفسه، خرجت على العالم بمجموعة جديدة حققت رواجاً عالمياً واسعاً يكاد يكون فريداً. وتصدرت بعض الأغاني مثل: عِشْ كي تخبر" و"لا تعظ يا بابا" لوائح المبيعات في دول مختلفة فترة طويلة. وفضلاً عن بيع مليونين ونصف المليون نسخة فقد استقطبت المجموعة اهتمام النقاد في كل انحاء العالم وكتبت عنها المقالات والتقارير بلغات شتى. ولم يشغلها هذا الرواج عن السينما، بل قدمت بالاشتراك مع زوجها فيلماً جديداً: "مفاجأة شانغهاي" اثبتت فيه من جديد براعتها التمثيلية. ملايين الاسطوانات لم تمض ثلاث سنوات أو أربع في مانهاتن على المراهقة الطموحة حتى بدأت ترتقي سلم المجد بثقة كبيرة... وربما فوجئت مادونا نفسها بنجاحها العالمي المدهش، فمن غير المعقول ان تكون توقعت بيع ما يزيد على 55 مليون اسطوانة لمجموعاتها الغنائية في كل أنحاء العالم. ولا ندري ما اذا كانت تخيلت، حتى في اكثر احلامها جموحاً، ان تصل مبيعات اسطوانات أغانيها الفردية الى 35 مليون اسطوانة خلال بضع سنوات. لكن النجاح وباء لا شفاء منه، ومن ذاق طعمه لا ينفك يطلب المزيد منه... وربما كانت الشهرة التي دخلتها مادونا من أوسع أبوابها في أواخر الثمانينات دفعتها الى الخروج للقاء عشاقها وعاشقاتها في العالم الرحب بعدما ضاق عليها وطنها الاميركي. وقد تكون رحلاتها الغنائية الى المملكة المتحدة 1983 و1987 و1992 وفرنسا وألمانيا 1987 ولعبها لدور لاعبة "بيسبول" الى جانب جينا ديفيس في فيلم فريق لهن من أهم نشاطاتها في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات. وعادت الى وطنها الاصلي ايطاليا غير مرة، وكانت آخر زياراتا في السنة الماضية حين عرجت على روما في طريق عودتها من مهرجان كان حيث عُرض احد أفلامها السينمائية. ويبدو ان مادونا لم تحمل الشهرة والنجاح، فها هي تطرق باباً فنياً آخر والأمل يحدوها ان تُبرز فيه أيضاً، اذ اصدرت كتاباً مصوراً عن حياتها وهي تعد العدة حالياً لطباعة كتابها الثاني الذي ينتظر كثيرون صدوره في لندن قريباً. فهل تنتظر ان تحتل مكاناً هاماً في الكتابة أيضاً؟