طقس وداع في تونس. ليس فقط لأن الفلسطينيين يحزمون حقائبهم، ولطالما حزموها. وليس فقط لأن الرئيس و"الوزراء" يستعدون للرجوع الى ما رجع من أرض فلسطين. بل أيضاً لأن الثورة نفسها تودع الثورة، ولأن الواقعية القاسية والقارسة تحاول تزويج الحلم لخريطة أقل، ربما لتجنبه مرارات البقاء بلا خريطة. طقس وداع في تونس. وأسئلة متزايدة عن ذلك اليوم المقترب الذي سيلتقي فيه آخر الثورة بأول الأرض ليبدأ عهد السلطة وامتحان السلطة. الثورة مرت من هنا. هذه العبارة تصلح لجدار في عمان أو لجدار في بيروت. لتلك الأيام التي لم تكن الثورة فيها تغادر الا مثخنة مخلفة وراءها عاصمة مثخنة. كان ذلك في زمن حروب العواصم وحروب القرار والحروب عليه. لكن ذلك كان. ففي المحطة التونسية تغير كل شيء. وحتى الذين يعترضون على الخيار الصعب يعترفون بأنه كان الخيار الوحيد. انه خروج جديد ولكن من دون دوي مدافع، وليس بداية لتيه جديد فالثورة تذهب الى الأرض، تذهب الى بعض الأرض. حضر الشاعر محمود درويش الى تونس وأعطى لطقس الوداع هذا رنّة محملة بالأسئلة والأجراس. وقلما انشغلت مدينة بكلام غامض جارح عن زمن غير دقيق كما انشغلت بكلمته في أمسية جمعته مع الشاعر سميح القاسم. بعد اتفاق أوسلو غادر محمود درويش اللجنة التنفيذية للمنظمة من دون ان يختار القطيعة، واعتذر عن عدم تولي حقيبة الثقافة في السلطة الوطنية من دون ان يختار القطيعة، لكنه تمسك في الحالتين بأسئلته وهي كثيرة. "الوسط" التقت محمود درويش في تونس: انتهت المحطة التونسية. أين كانت في حياة الثورة؟ - المحطة التونسية ستودع المسافرين الفلسطينيين، المسافرين الى وطن، الى حكم ذاتي الى سلطة محدودة هذا موضوع قيد النقاش. الواضح ان الفلسطينيين أنهوا، أو أنهم على وشك انهاء زيارتهم الطويلة لتونس. وهناك مفارقة في هذه النهاية، فهي مختلفة عن سائر الرحلات الفلسطينية. من المعروف ان الفلسطينيين طردوا من وطنهم في العام 1948، وطردوا من كل الأماكن التي أداروا فيها حياتهم السياسية والادارية وانشأوا فيها مؤسساتهم، لكنهم يخرجون من تونس في وداع رسمي وشعبي وبتبادل مشاعر عميقة. وبالتالي فإن ذكرى الخروج الفلسطيني من تونس ستكون ذكرى مؤلمة للفلسطينيين. مؤلمة ومؤثرة. المحطة التونسية شهدت تحولاً نوعياً في العمل الوطني الفلسطيني، وفي العمل السياسي بشكل خاص، لأنها مرحلة التعامل السلمي مع ملف القضية الفلسطينية. لم تكن مرحلة الصراع العنيف كالسابق، ولم تكن مرحلة حربية، كانت مرحلة مفاوضات أسفرت عن اتفاق أوسلو وعن السلام التلفزيوني الذي يجب ان نميز بينه وبين السلام الحقيقي المرتبط بحل القضايا الحقيقية للفلسطينيين. لكن الصورة العامة أو المشهد العام لا يقف أمام هذه التفاصيل والمناقشات الآن لأنه مشهد احتفالي. الصورة العامة هي ان الفلسطينيين عائدون الى موطئ قدم سميته أنا موطئ قدم في الساحة الخلفية للبيت. ما انجز أو ماهم مقدمون عليه ليس وطناً مستقلاً أو محرراً من الاحتلال، هو مشروع حكم ذاتي قد ينجح الفلسطينيون إذا أحسنوا ادارة شؤونهم والمفاوضات في شأن القضايا الأساسية وقد يتوسع الحكم الذاتي ويتطور الى ما هو أكثر من تصور اسرائيل للحكم الذاتي باعتباره محمية اسرائيلية. الاسرائيليون يفهمون ما حصل على أنه محمية مكبلة ومقيدة بشروط تمنع تطورها نحو الاستقلال. هذا الصراع سيأخذ شقاً آخر. الكرة في الملعب الفلسطيني الآن، والذين قبلوا بالاتفاق عليهم أن ينشطوا كل ابداعهم السياسي والاداري لتطويره الى مكان محتمل للعيش وقابل للاستقلال. هل ما نشهده اليوم هو نهاية الثورة؟ - نحن نودّع مرحلة تاريخية كاملة. منذ التوقيع على الاتفاق في 13 سبتمبر أيلول 1993 دخل تاريخ العلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية مرحلة جديدة. انتقل من الصراع المسلح الى المفاوضات وبالتالي انتهت مرحلة ثورية ومرحلة أحلام كانت مصاغة في برامج. كل شيء يأخذ شكله الجديد وطريقة تعبيره الجديدة. وسؤالي المحير هو ما شكل التعبير الوطني الفلسطيني الآتي في ظل شروط هذا الحل. مرحلة جديدة طبعاً. تاريخ جديد انبثق، لكنني أرجو ألا يقدم الوعي الفلسطيني على انجاز قطيعة بين ماضيه وحاضره. الماضي المشتوم دائماً كأنه مكان للوقفة المثالية، ليس صحيحاً هذا الكلام. أي شعب بلا ماض لا مستقبل له. هناك محاولة فكرية لخلق قطيعة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا شيء يهدد الهوية الفلسطينية. وأحب هنا أن أقول كلمة أساسية: ان الذي حمى الفلسطينيين من الابادة السياسية والاندثار الوطني هو هويتهم العربية، أي كونهم عرباً ينتمون الى قارة عربية ومئتي مليون عربي، والى ثقافة وتاريخ عربيين، هو الذي حماهم من الغياب الكامل عن الساحة التاريخية المعاصرة. وتطوير البعد العربي في الهوية الفلسطينية هو الضمان لعدم السقوط الحضاري في المشروع الاسرائيلي. أكثر مهمة تعنيني الآن، كواحد يتعامل مع الثقافة، هي تطوير البعد العربي في الهوية الفلسطينية المتبلورة حديثاً. أرض الحلم تقلصت ماذا يرشح من كلمتك الأخيرة في تونس، الحزن أم الخيبة؟ - الاثنان، الحزن والخيبة، وهناك أيضاً الحب لتونس والشعور العميق بالامتنان للشعب التونسي الذي تحمل الوجود الثقيل. حزن على أحلام ضاقت الأرض التي كانت تحملها، أي ان أرض الحلم تقلصت. وخيبة من أن الوضع الدولي والاقليمي لم يعط الفلسطينيين واحداً في المئة مما يستحقون. التضحيات الفلسطينية كانت تستحق بالطبع حلاً أكبر. والحلم الفلسطيني كان حلماً مشروعاً، ولكن ان نتضاءل الى هذا الكفاف وان نعيش من فائض حل الأزمة الاسرائيلية! ما حصل في نهاية الأمر هو ان الاسرائيليين أرادوا التخلص من عبء ثقيل اسمه غزة. نحن الآن نتحرك في فائض حل المشكلة الاسرائيلية وهذا يشكل حزناً وخيبة. انها شروط مجحفة تدفع المرء الى مراجعة كل تاريخه الشخصي والعام ويضطر الى البكاء. كان في وسع الماضي أن يكون أقرب، وبالتالي كان في وسع الحاضر ان يكون أوسع. من يملك الماضي يملك المستقبل. والذي يملك الحاضر يملك الماضي. الى أي حد ّ تبدو هذه الواقعية الفلسطينية قاسية عليك والى أي حد تستطيع تفصيل أحلامك على حجم شيء من الدولة أو الحكم الذاتي؟ - المشكلة هي ان حلمنا لم يكن حالماً. حلمنا كان واقعياً جداً. نحن نريد الاعتراف بنا كشعب له تاريخ وله أرض. وقدمنا أكبر مشروع لقبول الآخر وهو تقاسم هذا الوطن وايجاد حل متوازن يأخذ في الاعتبار ابعاد المساواة، لكن ما حصل هو ان هذا الحلم الواقعي اصبح ركيكاً او اسفر عن حل ركيك. ولكي اتوازن اكثر اقول ان ليس من الضروري ان تقاس سعة الاحلام بسعة الارض. السكان المقيمون على ارض صغيرة قد تكون احلامهم كبيرة. السعادة البشرية لا تقاس بحجم الارض، لكن حجم المشاكل التي سنواجهها وحجم القيود التي تكبل طريقتنا في حل هذه المشاكل لا يدفع المرء الى الاعتذار عن احلامه، لكنه يجعل حمل الحلم مسألة اكثر صعوبة. علينا ان نحمل هذا الحلم. لا يمكن، مهما جرى، التمييز بين الدولة والوطن، ان يتخلى الفلسطيني عن وعيه بأن فلسطين له، لكن ما حصل هو انه قبل دولة على ارض الوطن. وفي تصوري ان الحل المثالي لهذه القضية هو حل ديموقراطي تعددي. واذا نظرت الى المستقبل لا ارى دولتين. ارى دولة واحدة ديموقراطية وعلى طريقة الحل في جنوب افريقيا. ليست خريطة بماذا تشعر حين تنظر الى الخريطة الجديدة او تفكر فيها؟ - أتحاشى النظر الى الخريطة. انها تهجم عليّ كالمخرز ليست خريطة انها ظل صغير على الخريطة. يبدو ان الخريطة ليست الآن على الارض انها في الوعي. تقصد الخريطة الجديدة؟ - لا، الخريطة الحقيقية. الخريطة الجديدة ليست خريطة. هذه المساحة لا تشكل خريطة، لا طوبوغرافيا ولا جغرافيا. ماذا تصيب فيك الخريطة الجديدة، الشاعر ام الفلسطيني الذي انضوى في الثورة؟ - تصيب المواطن في الاساس. الشاعر يحل مشاكله. الشاعر ليست لديه مشكلة. اذا اردنا فصل الشاعر عن المواطن نقول ان الشاعر مجاله الحيوي اللغة والتاريخ والحلم البعيد. ولا يمكن ان تخضع الحرية وكذلك الحلم لاي تفاوض او معاهدة. الشاعر طليق. انا لا اشارك المؤبنين المبكرين للشعر. الشعر سينجو من ضيق هذه الخريطة وكذلك الشاعر. هل تقصد انك بلا وطن وتقيم في القاموس؟ - لا، انا لدي وطن لكنه محتل، وليس لدي حرية لكن حريتي منجزة في اللغة. انا لا اسكن القاموس لكن اللغة هي المجال الحيوي للعمل. هل يراودك الشعور بأنك كبرت كما الثورة؟ - انا اشعر بتجدد شباب غريب الشكل. كرد فعل على شيخوخة اخرى؟ - انا لا انشط شبابي كي انتقم من شيخوخة. انا شاب بطبعي. روحي شابة ولغتي طازجة وشعري فتي او لا يزال فتياً. بهذه المقاييس انظر الى الشيخوخة والشباب. روحي ليس مخدوشة. الى اي حدّ انعكست فيك هذه الانهيارات الكبيرة في العالم والمنطقة، وعلي اي ارض تقف؟ - ارض اللغة. وهل تكفي للعيش؟ - هذا ما لدي. وقد يكون موطئ القدم الذي سيذهب اليه الفلسطينيون مشروعاً قابلاً للتطور. لكن هذا بعيد عن سؤالك السابق. انا كشاعر اتوازن بنصي فقط ولا أجد توازني الا فيه. ولا اجد ارضي الآن الا في نصي. ارضي هي قصيدتي. هذا شيء مؤلم أليس كذلك؟ ليس لدي سلاح آخر او مجال حيوي آخر اشتغل فيه. "لكن قد أزور" متى يمكن ان تذهب الى غزة وأريحا؟ - عندما اشعر بأنني لست ذاهباً الى سلطة اسرائيلية مباشرة. هل يعني ذلك ان ذهابك محتمل في الشهور المقبلة؟ - لا أعرف متى سأمتلك الانطباع بأن الأرض التي سأذهب اليها ليست خاضعة خضوعاً عملياً ورسمياً للاحتلال. هذا متروك لزخم العمل الفلسطيني وطريقة تغلب الواقع الفلسطيني على النص المكبل. لكنني قد أزور. لا أستطيع ان أكون شاعراً الى حد عدم التعامل مع الواقع. ليس لأنني فلسطيني مجالي الحيوي هو اللغة. أظن ان هذا احدى ساحات عمل الشاعر في كل العصور وفي الامبراطوريات ايضاً. كما قلت لا علاقة لحجم الحلم بحجم الأرض. أنا حلمي انساني وكبير وجمالي. قد أزور قريباً أرض هذا المفترق التاريخي. أما الاقامة فيها والعمل فيها فأمر متروك لتوافر الشروط التي ذكرت. يجب ان اقتنع بأنني لست خاضعاً للاحتلال المباشر أو المبطن. هذا يعني انك باق خارج السلطة الفلسطينية؟ - أنا اعتذرت. عُرضت علي حقيبة الثقافة واعتذرت. ولكن على رغم كل نقدي الاتفاق فأنا مستعد للتعامل الايجابي مع شعبي لتطوير أو لردم الهفوات والزلات في الاتفاق من خلال نشاطي في مؤسسات خارج السلطة، كالعمل الثقافي، أو في ميدان حقوق الانسان. لا أعتقد بأنني استطيع التوفيق بين حريتي واستقلاليتي كشاعر وبين عملي في السلطة، خصوصاً اننا تحولنا منذ الآن الى سلطة عادية. لم نعد منزهين عن النظر الينا أو محاكمتنا كما كنا في السابق. نحن الآن سلطة عادية. منذ خروجك من فلسطين الى اليوم تغيرت الثورة وتغير العالم، فإلى أي حد تغيرت أنت؟ - كثيراً. تغيرت كثيراً. في أي اتجاه؟ - سياسياً. وتغير وعيي كثيراً. الجامد وحده لا يتغير. شرط التطور هو التغير. لكن هناك فرقاً بين قبول خروج العالم من معاني وقيم الحرية والانسانية والمساواة وبين ان أفهم ان العالم خرج من ذلك. بين فهم ان العالم خرج من تعامله السابق مع القيم وبين قبول ان لا القيم شيء مختلف. أنا أعي ان عدالة العالم ليست عدالة بتاتاً. لكن هذا لا يعني التخلي عن ارتباطي بهذه القيم وصراعي من أجلها. قد نكون هزمنا لكن هزيمتنا لا تعني اننا كنا على خطأ. هذا لا يعني ان نعتذر عن ارتباطنا بمبادئ الحرية والاستقلال والعدالة. هناك فرق بين ان تعترف بأنك هزمت وبين ان تعتذر عن تمسكك بقيم. انتصار الأفكار لا يعني دائماً صحة الافكار. انتصار فكرة الحركة الصهيونية لا يعني صواب الفكرة. فكرة العدالة الاجتماعية والمساواة والاستقلال هزمت لكن ذلك لا يعني انها مخطئة. تغيرت نظرتي الى العالم ولم يتغير ارتباطي بالقيم الانسانية. هل تقصد القول ان النظام الدولي الجديد ظالم؟ - ظالم جداً. أنا لا اعتقد انه نظام عالمي جديد. انه نظام عالمي قديم وكلاسيكي. عودة الى الامبريالية بمعناها الكلاسيكي. بالعكس كانت ثورات التحرر والحركات الاشتراكية مشروعاً لتأسيس نظام عالمي جديد لكنها فشلت وانتصر النظام القديم. كم أثر فيك حدث مثل سقوط الاتحاد السوفياتي؟ - انا لم أكن معجباً بالتجربة السوفياتية، لكننا نحن العرب كنا نستفيد من فائض الحرب الباردة. كنا نستفيد من دعم سياسي وديبلوماسي وحتى من الدعم العسكري. سقوط الاتحاد السوفياتي أضرنا بهذا المعنى، أي اننا لم نعد نستفيد من فروقات الوضع العالمي الذي أصبح اتجاهاً واحداً ويخضع لهيمنة قطب واحد. هذه خسارتنا وليست في انه كانت هناك عدالة اجتماعية ممتازة في الاتحاد السوفياتي او تجربة مثالية نحتذي بها. انا لم أكن معجباً بالتجربة السوفياتية بتاتاً. لكنني كنت معجباً ببدايات المشروع الاشتراكي للتغلب على الظلم الاجتماعي، خصوصاً في بداية القرن. الوعد السوفياتي كان وعداً انسانياً كبيراً، لكنه تقهقر، خصوصاً بفعل فشله الداخلي. هل يفهم من كلمتك في تونس انك تدعو الى الاعتذار من الشهداء بسبب القبول بأرض أقل وحلم أقل؟ - اذا كان علينا ان نعتذر فلنعتذر للاحياء، الى أنفسنا، لأن الشهداء لن يستمعوا الى اعتذاراتنا. لم أقصد هذا المعنى، أردت أن أقول اننا تركنا داخل الأرض التونسية شهداء. كان حزناً انسانياً عادياً ولم يكن فيه اعتذار. ما هي أوجع نقطة في المحطة التونسية؟ - أوجع نقطة في المحطة التونسية هي ان خيارات العمل الفلسطيني حددت في خيار واحد هو التسوية السياسية. وهذا طبعاً ليس بسبب تونس. الظرف التاريخي الذي أوصل الفلسطينيين الى تونس حتّم عليهم ألا يكون لديهم سوى خيار المفاوضات والتسوية، وهذه ناتجة من تغير الوضع الاقليمي. بالنسبة الى الشعب التونسي فانه انسانياً كان يعالج الجرح الفلسطيني. والدولة التونسية لم تتدخل أبداً في أي تحرك من تحركات العمل الفلسطيني. لقد عومل الفلسطينيون في تونس بدماثة وحصل الفلسطينيون على شروط جيدة للعمل السياسي والثقافي والاعلامي. اذا قلنا لك "تونس... الثورة مرت من هنا" ماذا يكون تعليقك؟ - أقول مرت مروراً سالماً. نسبياً وقياساً على الخسائر التي خسرها الفلسطينيون في أماكن اخرى والأخطاء التي ارتكبوها هناك. كانت تونس نسبياً محطة أهدأ من غيرها. هل يذكرك الخروج من تونس بالخروج من بيروت؟ - أتذكر المفارقة. خرجنا من بيروت مطرودين. سنخرج من تونس وأنا أرى الدموع التونسيةوالفلسطينية. دموع الحب وليس أصوات المدافع الاسرائيلية وهي تطاردنا في البحر المتوسط بعد خروجنا من بيروت. خرجنا من بيروت الى المجهول، الى البحر، ويخرج الفلسطينيون الآن من تونس الى موطئ قدم في ساحة البيت الخلفية. وهذا فرق نوعي. قد يكون الخروج من هناك أكثر ميثولوجية، لكن هذا الخروج من هنا واقعي أكثر ومحدد أكثر. هناك توجد جمالية اسطورة وهنا توجد قسوة واقع. والفلسطيني الآن يهبط من اسطورته الى أرض الواقع ويتعامل مع العناصر الخام المكونة للاسطورة. يخرج من مرآته وينظر الى نفسه ويكتشف انه انسان عادي وعليه ان يمارس حياة عادية. وهكذا المحطة الأخيرة لكل المشاريع الكبرى. النزول من الحلم الى السلطة؟ - الى تراب الواقع. طبعاً الفجوة كبيرة جداً لأن الحل صغير جداً. لو كان استقلالاً لاختلف الأمر. وحتى في الاستقلال هناك خيبة فكيف يكون الأمر، يتعلق بحل جزئي جداً مكبل بشروط متعبة. كيف ترى المرحلة المقبلة؟ - بديهي ان تكون صعبة ومعقدة لأن القضايا الكبيرة لم تحل ولم يتم التعاطي معها. تخلص الاسرائيليون من عبء غزة، لكن المسائل الأساسية التي تعني الفلسطينيين لم تبحث بعد. والسؤال هو عن القدرة على التفاوض لاحقاً. خوفي ان نخاف من الانتخابات هل يمكن ان توفر الانتخابات المقترحة ديناميكية جديدة لاستكمال الحل؟ - في رأيي ان الخطوة الأولى لخلق ديناميكية هي الشروع في الانتخابات. وأخطر شيء هو ان يتقاعس او يتلكأ الفلسطينيون في اجراء الانتخابات. عدم اجراء الانتخابات سيعطل بنود الأجندة. وبحسب الاتفاق فان القوات الاسرائيلية ستعيد انتشارها قبل شهرين من الانتخابات، فاذا لم تكن هناك انتخابات ستتعطل اعادة الانتشار. الخطوة الأولى لاعطاء بادرة ايجابية للشعب الفلسطيني وللعالم ولاظهار جديتنا هي اجراء الانتخابات. الانتخابات ضرورية جداً لأنها تنتج سلطة شرعية تحظى باعتراف دولي. خوفي ان نخاف من الانتخابات. اذن الفلسطيني ينزل الآن من المرآة؟ - الفلسطيني يخرج من المرآة، لكنه لا يزال يرى الصورة السابقة في المرآة. وبالتالي هناك توتر في شخصيته. هل انا الذي هنا هو الذي كان هناك؟ تحصل نقلة نوعية وتاريخية لم يسبقها استعداد نفسي كافٍ. هل أنا صاحب ذلك المشروع؟ هل أنا ذلك البطل. البطل فينا هو الذي يصاب بالنكسة الآن، من جراء تحوله الى عادي. هل تنجح الخريطة الجديدة في تفصيل المشاعر على قياسها؟ - الخريطة الجديدة تحاول ان تجر المشاعر الى حجمها لكنها لا تنجح. المشاعر أقوى.