فيما كانت المبادرات مستمرة لحل الازمة اليمنية كان الموقف السياسي يفقد السيطرة على الوضع ويتحول التوتر والحملات الاعلامية المتبادلة الى وقود للانفجار العسكري، بينما كانت الحكومة تفقد سلطتها على المؤسسة العسكرية بالتدريج لتصبح السلطات الفعلية مركزة في قيادتي طرفي الخلاف: مجلس الرئاسة في صنعاء ممثلاً برئيسه الفريق علي عبدالله صالح القائد الأعلى للقوات المسلحة. وفي عدن ممثلة في قيادة الحزب الاشتراكي بزعامة السيد علي سالم البيض. وظهرت الساحة مهيأة للعمل العسكري، الذي فرض نفسه عليها، ربما من دون خيار من السياسيين، بعد اخفاق العمل السياسي، بكل حواراته ومبادراته ولجانه. وكما يبدو فان القيادة السياسية في صنعاء وجدت نفسها امام خيارين لا ثالث لهما: إما مواكبة الموقف العسكري الذي فرض نفسه على الواقع مواكبة تتمثل في قيادة العمل العسكري لتكون المعركة في اتجاه غاية سياسية، وإما ان يفلت الزمام من يدها فتتحول المعارك الى اقتتال مزدوج بين الوحدات والألوية المتواجهة وغير المتواجهة، وتصبح غايتها المحتومة القتل والدمار، كما حدث في كارثة معسكر عمران. وكانت الأولوية بالطبع للأخذ بزمام المبادرة، ممثلة في الخيار الأخير، وهذا ما اكده لپ"الوسط" سياسيون وعسكريون في صنعاء. لكن كيف فرض هذا الخيار نفسه؟ وإلى أين يمكن أن يصل؟ في اطار حصيلة الاتصالات والحوارات، التي اجرتها "الوسط"، تتضح حقائق عن الخيار العسكري الذي فرض نفسه، فهو لم يظهر فجأة، مساء يوم 4 أيار مايو الجاري، بل ظهر، كما هو معروف، منذ التوقيع على "وثيقة العهد والاتفاق" في عمان 20 فبراير الماضي وما أسفر عنه لقاء الرئيس اليمني ونائبه هناك. وما شهده الحوار في هذا اللقاء، من تصادم حاد بين الأفكار، ثم ما خلفه من تباعد بين الاثنين. ولعل العمل العسكري، خياراً لحل الازمة، تبلور لدى قيادة الدولة في صنعاء وأصبح في صيغة القرار، منذ أوائل الشهر الجاري بصفة خصوصية، بعد ان توافرت له، من وجهة نظرها، المبررات والأهداف الكافية، ومنها، بحسب ما طرحته في مجمل التصريحات والبيانات الصادرة عنها: - عدم الجدوى من الحوار والجهود العربية، في اقناع قيادة الحزب الاشتراكي، في عدن، بحل سياسي. وهنا يصبح البديل ولو موقتاً، هو العمل العسكري لحل الازمة، بعد ان ضاق الناس بانعكاساتها السلبية على حياتهم العامة وصاروا يتطلعون الى حل سريع من أي نوع كان. - الاعتماد على شرعية الدولة القائمة على الدستور وعلى الانتخابات النيابية التي تشكلت مؤسسات الدولة بموجبها وعلى أساسها، واعتبار الطرف الآخر خارجاً على هذه الشرعية. - ومن ثم اعتبار أي إجراء تقوم به الدولة لمعالجة الأزمة وتصحيح اوضاعها حقاً مشروعاً للدولة، وشأناً داخلياً خاصاً بها. - وكذا اعتبار الانفجارات العسكرية السابقة وبالذات الاقتتال في معسكر عمران ثم في معسكر لواء باصهيب في ذمار مقدمة كافية للاقتناع بأن الانفجارات ستتوالى حتى تفقد الدولة سيطرتها على الوضع العسكري والأمني في البلاد، ان لم تواجه الموقف بحزم. الشرارة وهنا انطلقت شرارة الانفجار العسكري في لواء باصهيب في ذمار، مساء الرابع من الشهر الجاري، لتمثل البداية المباشرة للأعمال العسكرية التي انتشرت في كل الوحدات والألوية على طول خط ما كان يسمى الاطراف. وجاء في أول بيان لوسائل الاعلام في صنعاء ان قوات لواء باصهيب في مدينة ذمار 100 كلم جنوبصنعاء بدأت تقصف المدينة، وأصابت منشآت حكومية ومساكن مدنية، وأن أوامر وزارة الدفاع ورئاسة هيئة الاركان، بناء على توجيهات الرئيس علي عبدالله صالح صدرت الى قيادة الحرس الجمهوري الذي استهدفه القصف بالدرجة الأولى بعدم الرد. وقالت مصادر مطلعة في المؤتمر الشعبي العام لپ"الوسط" ان قوات لواء باصهيب كانت انتشرت حول مدينة ذمار، منذ الانفجار في معسكر عمران، حسب هذه المصادر، يمتلك لواء باصهيب حوالي خمسين دبابة اضافة الى عربات مدرعة وبطاريات صواريخ ومدفعية، ويتراوح عدد أفراده بين 1500 و2000 جندي. وأضافت ان الوضع العسكري للواء باصهيب، ومعسكر الحرس الجمهوري تقدر المصادر قوته بحوالي نصف قوة لواء باصهيب، دفع القياديين في صنعاء الى منع الرد، تحاشياً لما يمكن ان تتعرض له ذمار من خراب واسع، لوقوعها بين اللواءين. وأوضحت ان استمرار القصف من لواء باصهيب تطلّب الحد من خطر قذائفه بقصفه من قبل وحدات استُقدمت من لواء المجد في الحديدة، بعد ان اصابت قذائفه في ما أصابت، احد المحولين الرئيسيين لكهرباء صنعاءوالمحافظات الشمالية، فعطلته. فيما قالت مصادر الحزب الاشتراكي، عبر وسائلها الاعلامية، ان قوات لواء المجد هي التي بدأت القصف وأصابت المدينة والمنشآت بما فيها محول الكهرباء. محاور ساخنة وبصرف النظر عن مصدر القذيفة، فانها عطلت حوالي نصف الطاقة الكهربائية للعاصمة، بينما شل النصف الآخر الاجراء الوقائي في مواجهة الغارات الجوية ليلاً. وبالتالي بدأت صنعاء تعيش منذ حوالي التاسعة من مساء اليوم نفسه 4 مايو ليالي مظلمة، لم تعهدها منذ حصار السبعين يوماً عام 1969. وبدأت أولى الغارات الجوية على صنعاء منذ فجر اليوم التالي، الا انه تم اصلاح المحول الكهربائي وعاد النور الى صنعاء، منذ اليوم السادس للحرب 9 مايو الجاري. وبدأت القيادتان العسكريتان في صنعاءوعدن بتصفية المواقع والمعسكرات القريبة من العاصمتين. ففي صنعاء يوجد اللواء 14 جنوب في منطقة الصمع حوالي 30 كيلومتراً شمال العاصمة، ومعسكر لحرس نائب رئيس مجلس الرئاسة من بني حشيش، 20 كيلومتراً، شمال العاصمة، وكما نقلت مصادر في صنعاء فان هذين المعسكرين بادرا الى قصف المدينة والمطار، فتم الاستيلاء على قوتهما وإنهاء خطرهما. وفي عدن قالت مصادر الاشتراكي ان معسكر الأمن المركزي قرب مطار عدن بدأ القصف على المطار، وتضامن معه معسكر الحرس الجمهوري، فتم انهاؤهما والاستيلاء عليهما. وتركزت المعارك، التي وصفها كل من الجانبين بأنها شرسة، في ثلاثة محاور رئيسية: في منطقة العند حوالي 30 كيلومتراً شمال غربي عدن، وفي محافظة أبين، وفي منطقة البيضاء - مكيراس. الاشارات الأولى بدأت أولى اشارات الانفجار العسكري مع انقطاع التيار الكهربائي في حوالي الساعة التاسعة مساء الرابع من الشهر الجاري. ومع ان انقطاع التيار الموزع على كل حي من احياء العاصمة والمدن الرئيسية "لفترات تتراوح بين 30 و60 دقيقة،" كان مألوفاً منذ حوالي أربعة اشهر تقريباً، بسبب عطل لم يتم اصلاحه، فإن انقطاعه هذه المرة شمل العاصمة بكل احيائها. وكانت الاشارة الثانية انفجار الاقتتال في لواء باصهيب في ذمار، وتضمن الخبر الذي أذيع في الاذاعة بعد ثلاث ساعات من بدايته قصف المحول الكهربي. وكانت الاشارة الثالثة، الغارة الجوية على صنعاء فجر يوم الخامس من الشهر، وهي المرة الأولى التي تتعرض فيها صنعاء لغارات جوية. ومن ثم استمر قصف الدفاعات المضادة من مواقع عدة في العاصمة ومحيطها الجبلي لأكثر من ساعة ونصف الساعة. وسيطر رعب على سكان العاصمة البالغ عددهم حوالي مليون نسمة، نظراً الى عدم معرفتهم بما يحدث. وعندما تأكدوا مما حدث، زال معظم الرعب واصبح يحلو للكثيرين منهم الخروج الى الاسطح وساحات المنازل، لمشاهدة الدفاعات الارضية ضد الغارات، وهي تطارد الطائرات المغيرة وتضيء بانفجاراتها سماء العاصمة المظلمة. والاشارة الرابعة، تعليق الخطوط الهاتفية التي أصيبت عقب أولى الغارات الجوية بفيروس ألغى قدرتها على الارسال فقط، باستثناء بعض احياء العاصمة التي كانت كما يبدو محصنة، وكذا بقية المدن والمحافظات. ولذلك امكن للمواطنين فيها ان يهاتفوا الاقارب والاصدقاء، ليطمئنوا على سلامتهم، لكن الاتصالات ظلت من جانب واحد، فصنعاء تستقبل ولا ترسل. ولعل من الطريف في هذه الحال ان الاسرة في المنطقة الغربية من صنعاء، مثلاً، تستفسر عن أقاربها في المنطقة الجنوبية أو غيرها، عبر وسيط ثالث في الحديدة أو تعز، ينقل الاستفسارات المتبادلة بين الاسرتين، ورافق هذا تعليق الاتصالات الخارجية مع اليمن من الداخل، ثم اغلاق المطارات، بما فيها المطاران الدوليان في صنعاءوعدن. وعقب هذه الاشارات جاء رد الفعل، على مستوى الحياة العامة للناس، سريعاً، فارتفع سعر الدولار بنسبة 20 في المئة تقريباً، وارتفعت معه الاسعار، خصوصاً في المواد الغذائية. وظهر نقص كبير في المشتقات النفطية، من بنزين وديزل وغاز الوقود المنزلي. وان لم ترتفع اسعارها. واشتد القلق لدى سكان العاصمة، عندما بدأت الأفران والمطاعم تقفل أبوابها، ما دفع نسبة كبيرة من السكان غير الاصليين، الى مغادرة صنعاء الى مدنهم ومحافظاتهم، ورافق هذا توقف ونقص في وسائل النقل العام العاملة على خطوط صنعاء ومدن المحافظات. وتجمعت كل العوامل الكافية لاحداث أزمة في النقل البري الداخلي، وكانت النتيجة ان ارتفع ايجار نقل الراكب الواحد في سيارات التاكسي، من صنعاء الى تعز مثلا، من 200 ريال الى 2000 ريال، اي بنسبة ألف في المئة، خلال 72 ساعة الأولى من بداية الحرب. وحيال هذا الواقع، تفرغت الاجهزة الرسمية المختصة لمواجهة معركة ردود الفعل، في العاصمة صنعاء والمدن الرئيسية الاخرى. فوفرت منذ اليوم الرابع للحرب المواد الغذائية، وأعادت الاسعار الى مستواها قبل الحرب. وأعادت فتح الافران والمطاعم وتسيير وسائل النقل الجماعي، ووزعت عدداً كافياً من عناصر الامن العام والامن المركزي، فأصبحت الحالة الأمنية مستتبة أكثر مما كانت عليه قبل الحرب. اما أبرز الانعكاسات السلبية على واقع الحياة العامة في صنعاء فهي: - انحسار الصحافة الى مستوى يقترب من الصفر. فباستثناء الصحف الرسمية الحكومية توقفت الصحف الوافدة والمحلية نتيجة اغلاق المطارات واغلاق المطابع الاهلية أبوابها ومغادرة كثير من العاملين في حقل الصحافة والمطابع العاصمة الى مناطقهم. - انقطاع الاتصالات الهاتفية مع عدن. - الاثر السلبي لانقطاع الاتصال الخارجي على بث المعلومات الصحيحة والمباشرة وعلى صحة ما تناقلته وكالات الانباء من اخبار عن الوضع، خصوصاً في صنعاء، بعيدة عن الواقعية ومنها مثلاً، ان المعارك تدور في شوارع العاصمة وهو خبر لا أساس له من الصحة وأثار قلقاً كثيراً ليس فقط بين أوساط المغتربين اليمنيين في الخارج، بل وفي كل المحافظات في الداخل. - صادف انفجار الحرب اقتراب موسم الاجازة التقليدية السنوية، في مناسبة عيد الاضحى وهي أطول اجازة سنوية، وربما الوحيدة للعاملين في مؤسسات القطاع الخاص والمهن والاعمال الخاصة الاخرى بالذات. ويبدأ موسمها من اواخر شهر ذي القعدة يصادف في هذا العام بداية شهر مايو تقريباً ويستمر اكثر من شهر، ومن هنا كان الدافع الى مغادرة هذه الفئات صنعاء مزدوجاً وليس فقط بدافع الحالة الطارئة.