"عودة الجمهورية: من الدويلات الى الدولة" مذكرات الرئىس اللبناني السابق الياس الهراوي، أول رئىس جمهورية ممارس بعد اتفاق الطائف، كان له ان يقود خطوات السلام الأهلي ويلملم أشلاء دولة ومجتمع مزقهما النزاع الداخلي والتدخلات الخارجية والاحتلال الاسرائىلي، وكان شجاعاً في مرحلة تتطلب الشجاعة، خصوصاً انه اقسم اليمين بعد رئىسين اغتيلا قبل مرور شهر على انتخابهما: بشير الجميل عام 1982 ورينيه معوض عام 1989. في مذكرات الهراوي صراحة تميز بها وايماءات واشارات خفية عرفت عنه إذ يقول بالمزاح ما لا يريد قوله جدياً. ورأى غسان تويني في تقديمه كتاب المذكرات ان "لسان الرئىس الهراوي لم يوفر احداً ولا هو يعف عن احد من الذين خاصمهم او هم خالفوه، حتى في فترات التعايش في الحكم، من حسين الحسيني الى رفيق الحريري الى سليم الحص الى "الجنرال" عون والى "الحكيم" سمير جعجع، والسلسلة تطول الى حد ان ثمة من سيقول عن الكتاب انه سجل تصفية حسابات قبل فوات اوانها". في الحلقات الماضية تناول الهراوي وقائع اللقاء والاتفاق في الطائف وانتخاب الرئىس رينيه معوض ومقتله والأسس المتفق عليها لاعادة تكوين الدولة اللبنانية، وانطلاقة الجمهورية الثانية من البقاع الى بيروت، والاجهاز عسكرياً بالتعاون مع سورية على تمرد العماد ميشال عون، ونزع سلاح الميلشيات، والمقاطعة الواسعة للانتخابات النيابية، خصوصاً في المناطق المسيحية. ورسم بروفيل لرفيق الحريري وأشار الى قمع تظاهرة ل"حزب الله" بالسلاح. يصدر كتاب المذكرات قريباً عن دار النهار للنشر في بيروت، وهنا حلقة خامسة. يوم الأحد في السابع والعشرين من شباط فبراير 1994 كنت في مستشفى تل شيحا في زحلة أعود شقيقتي الصغرى وهي في غيبوبة تعيش ساعاتها الأخيرة حين أُبلغت أَنّ انفجاراً حصل داخل كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل والمصلّون يحضرون القداس، وسقط فيه أحد عشر قتيلاً وستون جريحاً. إنتقلت فوراً إلى بيروت حيث باشرت الإتصالات لتطويق ذيول الحادث منعاً لتطوره صراعات طائفية تعيد البلاد إلى أجواء الماضي الذي يسعى إليه مخططو الجريمة. وبالتشاور مع رئيسي المجلس والحكومة تقرر إعلان يوم الإثنين يوم حداد وطني ووجهت رسالة إلى الشعب دعوته فيها إلى رصّ الصفوف لإجهاض المحاولات الرامية إلى إعادة تمزيق الوطن، كما أحيلت القضية على المجلس العدلي في جلسة استثنائية عقدها مجلس الوزراء مساءً. صباح اليوم التالي توجّهت متجاهلاً نصائح المسؤولين عن أمني إلى الكنيسة حيث شاركت في مراسم جنازة ضحايا المجزرة. ولدى انتهاء القداس الذي ترأسه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وحضرته ستريدا زوجة سمير جعجع ألقيتُ كلمة مقتضبة، قلت فيها إني أتيت إلى الكنيسة لا لأقدم التعازي بل لأتقبَّلها باسم كل لبنان ولأقول باسمه إنه كتب علينا منذ آلاف السنين أن نصمد وإننا على العهد باقون وبلبنان صامدون وإنّ الأيادي التي امتدت لتعكّر أمنه ستقطع. ثم اعتذرت عن اضطراري إلى التوجه إلى زحلة لتشييع شقيقتي التي فارقت الحياة ليلاً. شغلت قضية تفجير الكنيسة الرأي العام فربطها البعض بمجزرة الحرم الإبراهيمي التي حصلت قبل ثمان وأربعين ساعة وذهب ضحيتها اثنان وخمسون فلسطينياً وهم يؤدون الصلاة على يد إسرائيلي أطلق النار عليهم عشوائياً، واعتبروا أنها ترمي إلى تحويل أنظار العالم عن جريمة القدس ... خلال شهر آذار مارس 1994 كشفت التحقيقات في ملفّ كنيسة زوق مكايل خيوطاً قادت إلى جريمة اغتيال داني شمعون عام 1990 وإلى علاقة "القوات اللبنانية" بها. فقد لمّح عَدد من المستَجوبين إلى ضلوع جعجع في العملية، فيما قال أَحدهم أن لا معلومات لديه عن تفجير الكنيسة لكنه يعرف أنّ سمير جعجع هو الذي أمر بقتل داني شمعون. أُحيل الملف على القاضي منير حنين الذي كُلِّف التحقيق في قضية اغتيال شمعون يوم حصلت الجريمة. كما وجّهت إلى أربعة وعشرين عنصراً من "القوات" تهمة الضلوع فيها وأوقف اثنا عشر منهم إذ كان الآخرون فرّوا إلى خارج البلاد. زارني حنين في القصر فسألته هل هو على استعداد لاستئناف التحقيق المعلَّق منذ تموز 1991 لعدم اكتشافِ الأشخاص الذين اقترفوا الجريمة الجماعية، مشيراً إلى أنَّ الاعترافات التي أدلى بها الموقوفون في جريمة تفجير الكنيسة قد تكون المدخل لاكتشاف قاتلي شمعون وأفراد عائلته؟ فأجابني أنه لن يتهرّب من المسؤولية التي أوكلت إليه بشرط أن تجرى التحقيقات في قصر العدل لا في وزارة الدفاع. وأَصدر القاضي حنين في الحادي والعشرين من نيسان ابريل 1994 استنابة إحضار بحقّ جعجع وتوجّهت قوة من الجيش إلى مكان إقامته في غدراس لإحضاره. كانت الساعة تقارب السابعة مساءً عندما طوّقت مجموعة من الدبّابات منزل جعجع. وقرابة الثامنة والنصف دخل قائد القوة المنزل حيث أبلغ جعجع الذي لم يفاجأ بمذكرة الإحضار. ومن دون أي اعتراض رافق قائد القوات اللبنانية السابق الضابط في سيارة عسكرية إلى وزارة الدفاع بعيداً من أعين الصحافيين ووسط ذهول حرّاسه الذين لم تصدر عنهم أية محاولة مقاومة .... صباح اليوم التالي لتنفيذ مذكرة الإحضار بحق جعجع قصدت زوجته ستريدا القصر الجمهوري بلا موعد سابق والتقت زوجتي طالبة منها بإلحاح مقابلتي. إستقبلتها فترة خمس دقائق تمنّت عليّ خلالها المساعدة قائلة إنها على استعداد لتنفيذ ما كنت نصحت زوجها القيام به أي السفر إلى الخارج، فأجبتها أنّ المسألة لم تبق مسألة سياسية بل أصبحت في يد القضاء، مضيفاً أنه يوم كانت قضيته سياسية وفّرت له فرصاً كثيرة منها المشاركة في حكومة الرئيس عمر كرامي، ثم في حكومة الرئيس رشيد الصلح، فرفض في المرتين، كما نصحته بالمشاركة في الانتخابات فقاطعها، أمّا والقضية أصبحت الآن أمام القضاء فلم يبق بإمكاني التدخَّل. حاولَت بعدها الإتصال بي مرّات فلم أردّ على اتصالاتها. أُحضر جعجع في الساعة العاشرة صباحاً ودخل غرفة المحقق العدلي منير حنين يرتدي بنطلون "جينز" واسعاً على خصره أمسكه بيده كي لا يهوي إذ نُزع الحزام منه منذ لحظة تنفيذ مذكرة الجلب بحقّه بحسب ما يفرضه القانون. فور دخوله والتأثر على وجهه إلى درجة أنّ عينيه كادتا تدمعان سمح له المحقق بالجلوس وقال له إنّ صداقة متينة تربط عائلة حنين بآل شمعون بحيث أنّ الرئيس كميل شمعون عيّنه منفّذاً لوصيته، إلاّ أنّ ذلك لن يؤثر على التحقيق وأنّ العلاقات الشخصية لن تلعب دوراً في القضية. وعندما قال له إنه سيعامل بشكل لائقٍ خلافاً للطريقة التي عاملت بها "القوات" الأفرقاء على الساحة اللبنانية، أجاب جعجع: "أنتم الدولة ونحن الميليشيا." وبوشر التحقيق بحضور محامي جعجع أسعد أبو رعد والكاتب الذي دوّن المحضر. كان جعجع يجيب عن الأسئلة ويدافع عن نفسه مسترسلاً في الكلام خلافاً للفترة اللاحقة التي قرّر فيها التزام الصمت .... التورط روى عددٌ من الموقوفين أحداثاً تشيرُ إلى تورّط جعجع شخصياً في العملية. أفاد أحدهم أنّ قائد حزب "القوات" وجّه بواسطة شخص يدعى شارل داود إلى داني شمعون تحذيراً من ممارسة العمل السياسي. وأمر قبل حادثة الاغتيال بعشرين يوماً بتفجير سيارة لدى مروره في الدكوانة حيث كان يعتاد الصيد. إكتُشفت المؤامرة وفُكّكت المتفجرة. كما روى روبير أبي صعب أنه سمع جعجع يقول لغسان توما خلال اجتماع في غدراس: "شو عملت بالشغلة التي طلبتها منك؟" فأجاب توما: "بعتنا الشباب يعملو جولة وبس يرجعو بخبّرك." فردّ عليه سمير جعجع: "بدي ياها على السريع لأن ما بدي سليمان فرنجية ثاني بالمنطقة". وبعدها بأيام اغتيل داني. إنتهت التحقيقات وأصدر منير حنين في السادس عشر من حزيران يونيو 1994 القرار الإتهامي طالباً إنزال عقوبة الإعدام بجعجع وباثني عشر من رفاقه بينهم فارّون من وجه العدالة منهم غسان توما الهارب إلى الولاياتالمتحدة، ومنع المحاكمة عن أحد عشر آخرين. بدأت محاكمة المتهمين في القضيتين في التاسع عشر من تشرين الثاني نوفمبر 1994 وصدر الحكم في قضية اغتيال داني شمعون بإجماع أعضاء المجلس العدلي في الرابع والعشرين من حزيران 1995. قضى الحكم الذي يقع في مئة وثلاث صفحات بإنزال عقوبة الإعدام بحق جعجع وخفض العقوبة إلى الأشغال الشاقة. أمّا الحكم في تفجير الكنيسة فصدر بعدها بثلاثة عشر شهراً، في الثالث عشر من تموز يوليو 1996، وقضى بتبرئة جعجع من تبعة تفجير كنيسة سيدة النجاة "للشك" وكذلك من العمل على قلب نظام الحكم، إلاّ أنه قضى بإنزال عقوبة الاعتقال الموقت بحقه عشر سنين بسبب "استمراره تحت غطاء الحزب الذي أنشأه في العمل ضمن الهيكلية العسكرية السابقة للميليشيا وتكوين الفصائل العسكرية وتدريبها وتخزين السلاح لاستعماله في الوقت المناسب." واستمر اعتقال جعجع في سجن اليرزة الذي كان شرّعه مجلس الوزراء مطلع عام 1995. كان هذا الحكم الثالث على جعجع بعد صدور حكمين عليه بالسجن المؤبد في قضيتي اغتيال داني شمعون وعائلته ومقتل الدكتور الياس الزايك. في السادس والعشرين من نيسان 1994 وبناء على رغبة سورية - لبنانية مشتركة وافق مجلس النواب على مشروع قانون أحالته عليه الحكومة يحدّد سن تقاعد قائد الجيش بستين عاماً بدلاً من ثمانية وخمسين كان سيبلغها العماد إميل لحود في أشهر. الهدف المعلن للعملية منحه سنة إضافية لمواصلة العمل على إعادة بناء الجيش، إلاّ أنّ الكثيرين رأوا فيها خطوة ذات مدلول لانتخابات رئاسة الجمهورية التي أصبحت على الأبواب .... مرسوم التجنيس يوم الإثنين في الحادي والعشرين من حزيران 1994 عقب انتهاء جلسة استثنائية لمجلس الوزراء إنتقلت والرئيس الحريري إلى مكتبي حيث كان مديرا الأمن العام والأحوال الشخصية في انتظاري ومعهما مرسوم التجنيس موقّعاً من وزير الداخلية بشارة مرهج. كررت سؤالي عن صحة الأسماء الواردة فيه فأكد الاثنان أنهما راجعاها وأنها مبدئياً تستوفي الشروط. وعندها قلت للرئيس الحريري لقد وعدتك بأن أوقّع وسأفعل. وقّع رئيس الحكومة المرسوم ثم وقّعته بدوري. لم يتضمن مرسوم التجنيس أكثر من تسعين ألف إسم خلافاً لما تردّد. إلاّ أنّ القصَّر الذين حصلوا تلقائياً على جنسية آبائهم رفعوا العدد في ما بعد. أمّا قول المغرضين بأنّ التجنيس شمل نحو أربعين ألفاً من الفلسطينيين فهو مخالف للواقع هدفه كسب شعبية والنيل من صدقية الحكم وردّ عليهم رئيس الحكومة بلفت انتباههم إلى أنّ أبناء القرى السبع هم لبنانيون لا فلسطينيون. أعتبر أنني قمت بواجبي بمنح عشرات الآلاف من المستحقين نعمة المواطنية وضميري منعني حرمانهم إياها بسبب عدم وجود العدد الموازي من الطوائف الأخرى. إذا كان المرسوم يحوي أخطاء، وأنا لا أجزم أنه خال منها، فإن لمجلس شورى الدولة الذي رُفعت أمامه دعوى طعن فيه أن يقول كلمته فإمّا أن يلغيه وإما أن يثبِّته. وانقضت أكثر من سنتين على انتهاء ولايتي ولم ينظر المجلس في الملف حتى الساعة. ورفضت في ما بعد توقيع مرسوم ثانٍ للتجنيس حيث الغلبة للمسيحيين وُضع لتصحيح التوازن الذي غاب عن الأول. إمتنعت عن توقيعه مذ شعرت أنّ العملية باتت فرصة للمزايدات ولاحظت أنّ معظم المجنّسين في الدفعة الأولى لم يمارسوا مواطنيتهم الجديدة إلاّ في الانتخابات النيابية عام 1996 لقبض رشوة قبل الإدلاء بأصواتهم. ويوم جاءني الرئيس الحريري يقول إنه على استعداد لتوقيع المرسوم قلت له إنني لا أريد زيادة عدد "القبيضة" في البلد. وأذكر أنّ بطريرك السريان الكاثوليك إغناطيوس موسى الأول داود الذي أصبح في ما بعد رئيساً لمجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان كان في عداد طالبي الحصول على الجنسية. سمعته يوماً يدلي بتصريح على باب الصرح البطريركي في بكركي يهاجم فيه مرسوم التجنيس ويعرب عن تأييده الحملة القائمة لمنع صدوره. وجاءني بعد أيام يسأل أين أصبح مرسوم تجنيسه فأجبته أنني أخذت برأيه وسأمتنع عن توقيعه. وهكذا كان ولم يحصل على الجنسية إلاّ بعد انتهاء ولايتي. تمديد ولايتي في العشرين من تموز يوليو 1994 وخلال غداء أقمته في منزلي في زحلة في عيد مار الياس حضره الرئيسان بري والحريري ونائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام والعماد حكمت الشهابي واللواء إبراهيم صافي والعميد غازي كنعان وزوجاتهم أثير موضوع التمديد لأول مرة. قبل موعد الغداء إنتقلت والرئيسين بري والحريري إلى صالون جانبي حيث عقدنا اجتماعاً مع الوفد السوري وعرضنا فيه الأوضاع السياسية بشكل عام. وخلال الحديث توجه الرئيس الحريري إليَّ فجأة قائلاً: "يا فخامة الرئيس لدينا طلب منك وهو أن تمدِّد ولايتك، لن ندعك تترك الرئاسة العام المقبل و نحن ما زلنا بحاجة إليك". جلت بنظري في من حولي فرأيت عبد الحليم خدّام يبتسم موافقاً ونبيه بري ينظر إلى الأرض دون أي ردّ فعل. عارضت إقتراح رئيس الحكومة معتذراً عن عدم قبول الفكرة وعرضت التاريخ الأسود لمحاولات التمديد في لبنان منذ الرئيس بشارة الخوري الذي جدّد فأطاحته إضرابات مروراً بالرئيس كميل شمعون الذي حاول التجديد فقامت ثورة وصولاً إلى أهل "النهج" الذين ضغطوا عبثاً على الرئيس الشهاب لحمله على التجديد فعاش البلد جوّ أزمة. هنا تدخّل العماد حكمت الشهابي قائلاً إنّ الحديث سابق لأوانه لأن أكثر من سنة يفصلنا عن نهاية العهد. وانتهت الجلسة عند هذا الحد فانتقلنا إلى المائدة ولم يُثر الموضوع مجدداً إلاّ في نيسان من العام التالي عندما فاتحني به الرئيس حافظ الأسد في دمشق .... خلال أسبوع الآلام من عام 1995 إتّصل بي الرئيس حافظ الأسد عارضاً أن نلتقي يوم الأحد التالي في دمشق. إعتذرت لأنه يصادف يوم عيد الفصح الذي أخصصه لحضور قداس العيد واستقبال المهنئين في زحلة، فاتفقنا على أن يتم اللقاء يوم السبت في الخامس عشر من نيسان. طوال أكثر من خمس ساعات ونصف ساعة تخلّلها غداء بحثنا فيه الشؤون اللبنانية والوضع الإقليمي. قال الرئيس الأسد: إنّ الظرف الذي تمرّ به المنطقة يتطلب عدم المجازفة بتغييرات على صعيد القيادات لأننا بحاجة إلى استمرارية على الصعيد السياسي بعدما فتحت مفاوضات مدريد الباب أمام سلام محتمل. وأضاف إنّ التعاون والثقة المتبادلة القائمة بيننا يسهّلان علينا مواجهة المرحلة المقبلة بصلابة وتفاؤل، لذلك أقترح عليك أن تمدِّد ولايتك. قلت: فليكن لثلاث سنوات فأجاب: لا مانع، وتكون فترة التمديد تعويضاً للثلاث سنوات وثمانية أشهر التي أمضيتها مشرداً في بداية العهد. حدّثته عن مصير أصحاب التجديد ومحاولات التجديد في لبنان فقال إنّ الوضع يختلف هذه المرة عن سابقاته، وطلب أن يبقى الحديث سراً بيننا. وبالفعل لم يعرف أحد حتى أفراد عائلتي ما دار في اللقاء إلاَّ بعد سبعة أشهر على الحديث أي قبل تعديل الدستور بفترة قصيرة. وطلبت من الرئيس الأسد مقابل موافقتي على التمديد موافقته على زيارة لبنان حيث قصر الضيافة بات جاهزاً في بعبدا لاستقباله مذكراً أنه لم يزر لبنان رسمياً سوى مرة واحدة في السابع من كانون الثاني يناير 1975حين التقى الرئيس سليمان فرنجية في شتورة. إستدعى الرئيس السوري الناطق باسم القصر الجمهوري جبران كوريّه وطلب منه أن يذكر في البيان الذي سيصدر في ختام المحادثات أنني وجهّت إليه دعوة رسمية لزيارة لبنان فقبلها على أن يحدّد موعدها في وقت لاحق. في نهاية اللقاء قال لي الأسد إنه يتمنى تمديد مهمة العماد إميل لحود في قيادة الجيش فأجبت أنني سأمدد له سنة واحدة كما في المرة السابقة. إبتسم ولم يعترض. في هذه الأثناء كان الرئيس نبيه بري يواصل المهمة التي كلَّفته القيام بها دمشق والقاضية باستشارة النواب وتهيئة الأجواء لتعديل الفقرة الثانية من المادة 49 من الدستور فسحاً في المجال لتمديد ولايتي. إلاّ أنّ رئيس مجلس النواب وسّع نطاق استشاراته التي شملت إضافة إلى النواب الشخصيات الدينية والهيئات والجمعيات والرابطات الأمر الذي حملني على سؤاله في إحدى زياراته لي لماذا لم يستدع بعد جمعية دفن الموتى للإستئناس برأيها. كما وسَّع نطاق الأسئلة إذ أنّ غالبية الذين أدلوا بتصريحات بعد الاجتماع به طالبوا بتعديل فقرتين من المادة 49 بدلاً من فقرة واحدة، الفقرة الثانية التي تقول: "إنّ رئيس الجمهورية ينتخب لست سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلاّ بعد ست سنوات لانتهاء ولايته". والفقرة الثالثة المتعلقة بترشيح موظفي الفئة الأولى وقد ورد فيها: "لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد." كنت أنا من أضاف إلى المادة 49 الفقرة التي تمنع موظفي الدولة من ترشيح أنفسهم إلاّ بعد تمضية سنتين خارج الوظيفة تلافياً لاستغلالها في خدمة طموحاتهم. سألت عدداً من المقربين مني عن سبب مطالبتهم بتعديل الفقرتين فأجابوا أنّ الرئيس بري طلب منهم ذلك والبعض الآخر قال إنّ الطلب ورد أيضاً من مصادر أخرى. وكان لي موقف من الموضوع إذ أعلنت في حديث مع أسرة جريدة "السفير" أنني لن أوقّع تعديل الفقرة المتعلقة بترشيح الموظفين. وبالفعل لم أوقّعها إلاّ في 1998 في آخر سنة من عهدي الممدّد بناء على تمنّ من الرئيس الأسد. ربما أثار موقفي بعض الحساسيات لدى الذين كانوا يريدون استباق الأمور وجاء ردّ فعلهم بعد انتهاء ولايتي .... الرئيس عمر كرامي أحد الأبرز والأعنف بين معارضي التمديد قبل أن يتحوّل في اللحظة الأخيرة إلى مؤيّد له قال إنه "جنَّز التمديد وسيدفنه في مياه مرفأ طرابلس قريباً". لكنه في جلسة تعديل الدستور إقترع إلى جانبه رافعاً يديه الاثنتين. كذلك نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي الذي دعا من بكركي إلى مواجهة مشروع تمديد ولايتي مطالباً بتقصيرها وسرعان ما تحوّل إلى أشدّ المتحمسين لاستمراري في سدة الرئاسة. ومعظم المعارضين أعادوا النظر في مواقفهم يوم نشرت جريدة "الأهرام" حديثاً مع الرئيس الأسد تحدّث فيه إيجاباً عن موضوع التمديد. صباح الحادي عشر من تشرين الأول 1995 صدرت جريدة "الأهرام" المصرية وفي صفحتها الأولى مقابلة مع الرئيس حافظ الأسد يقول فيها إنّ هناك اتفاقاً بين أصدقائنا وأشقائنا اللبنانيين على مختلف فئاتهم على التمديد لرئيس الجمهورية. وتسارعت الأحداث خصوصاً أنّ المهلة لتعديل الدستور أوشكت أن تنتهي من دون أن يأخذ الرئيس بري مبادرة طرح الموضوع على مجلس النواب. وفي السادس عشر من تشرين الأول فوجئت بحشد من وسائل الإعلام اللبنانية والأجنبية في القصر تنتظر عقد جلسة مجلس الوزراء بدعوة من الرئيس الحريري الذي أبلغها أنه سيدلي ببيان مهم. كان المجلس عقد في العاشرة والنصف صباحاً جلسة استثنائية في القصر الحكومي في الصنائع عرض خلالها معطيات الإستحقاق الرئاسي وخلُص إلى اتخاذ قرار جماعي بالتمني عليَّ اقتراح مشروع قانون دستوري لتمديد ولايتي ثلاث سنوات جديدة. وفي وقت متزامن وإعلان نتائج الجلسة في السرايا أصدر الرئيس بري بدوره بياناً يتمنى فيه عليَّ طلب تمديد ولايتي وجاء فيه: "باسم رؤساء كتل نيابية وتثميناً لمواقف فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية الأستاذ الياس الهراوي على مشارف نهاية هذا العهد، أتوجه بالشكر إلى فخامته الذي كان مثال الجرأة والإقدام في خروج لبنان من حالة الحرب إلى أفق السلام الأهلي، مسجلين لفخامته أنه إضافة إلى أنه سياسي تميّز بالفطنة والحنكة، حفظ لبنان وفي قلبه الجنوب. كما عمل على حفظ أعلى درجات التنسيق بين لبنان وسورية في هذه المرحلة المصيرية التي تضغط فيها التسوية على البلدين. وتميّز بالثبات والصبر على الصعيد الداخلي، والأمر كان له أكبر الأثر على إعادة الإعمار والنبض إلى الحياة اللبنانية، ويجب أن لا يفوتنا أنّ تحرير الأراضي اللبنانية منذ عام 1978 وتحرير الإنسان اللبناني من كوابيس النظام القديم لا يزالان في بدايتهما. لذا وحسماً للإستحقاق الدستوري إرتأى المجتمعون التمني على فخامة الرئيس إستعمال حقه الدستوري المنصوص عليه في المادة 76 من الدستور بإرسال إقتراح إلى الحكومة تمهيداً لتقديم مشروع قانون إلى مجلس النواب لإعادة النظر في المادة 49 من الدستور. والله الموفق". من القصر الحكومي إنتقل الرئيس الحريري إلى قصر بعبدا حيث عقدتُ معه خلوة، فيما بدأ الوزراء يتوافدون تباعاً للمشاركة في جلسة مجلس الوزراء الثانية التي بدأت في الثانية عشرة والنصف. في مستهل الجلسة تلا رئيس الحكومة نص رسالة مجلس الوزراء الموجّهة إليَّ تعدِّد ما أنجز في عهدي على مختلف الصعد قبل أن تخلص إلى القول: "رسالتنا إليك اليوم هي رسالة وفاء لرجل كان في مستوى العطاء، ورسالة تقدير لرئيس اتخذ القرارات الصعبة في أصعب المراحل، ونحضّه الآن على الإستمرار في موقع المسؤولية." وجاء ردِّي مقتضباً أشرت فيه إلى أنني ما تأخرت مرة عن الإقدام من أجل لبنان وأنّ ما يطلب مني لا أستطيع وحدي النهوض به. وقرر مجلس الوزراء بالإجماع إحالة مشروع قانون دستوري على البرلمان بتعديل المادة 49 من الدستور بإضافة الفقرة: "لمرة واحدة وبصورة إستثنائية، تستمر ولاية رئيس الجمهورية الحالي ثلاث سنوات تنتهي في الثالث والعشرين من تشرين الثاني 1998". بعدها بثلاثة أيام انعقد مجلس النواب لمناقشة مشروع قانون التعديل الدستوري وإقراره، وشدّد المعارضون الذين تقلَّص عددهم في الأسبوع الأخير على أنّ موقفهم مبدئي ينبع من حرصهم على موقع الرئاسة الأولى لأن التمديد يفقده الحصانة التي يتمتع بها، فلا تبقى هناك موانع من المطالبة بتقليص مدة الرئاسة على غرار المطالبة بتمديدها، كما لا يجوز أن يكون الدستور عرضة للتعديل في أي لحظة. وعند انتهاء المناقشات طرح الرئيس بري المشروع طالباً من النوّاب استخدام البطاقة الممغنطة للتصويت ألكترونياً للمرة الأولى. وتبين أنّ الآلة لم تكن جاهزة بعد بدليل أنها أخطأت في الجمع فنال معارضو التمديد 63 صوتاً في مقابل 53 صوتاً لمؤيديه فضلاً عن خمسة ممتنعين. أعيد التصويت مرتين وجاءت النتيجة في كل منهما مختلفة عن الأخرى، فاستدرك الرئيس بري الأمر بأن طلب من النواب التصويت بالمناداة بالأسماء وبرفع الأيدي. هنا أيضاً حصل خطأ لأن عدد المقترعين بلغ 122 فيما عدد النواب الحاضرين هو 121 نائباً وتبَّين أنّ الخطأ نتج من كون الرئيس عمر كرامي رفع يديه الاثنتين فعدّ صوتُه مرتين. صحح الخطأ وعدّل الدستور بموافقة مئة وعشرة نواب مقابل أحد عشر عارضوا: الرئيس سليم الحص، نسيب لحود، مخايل الضاهر، نجاح واكيم، بيار حلو، زاهر الخطيب، حبيب صادق، عصام نعمان، مصطفى سعد، رياض أبو فاضل وكميل زيادة. وتغيّب سبعة نواب عن الجلسة: الرئيس حسين الحسيني والياس سكاف وميشال سماحة وطلال أرسلان وهم ضد التمديد وفتحي يكن الذي تغيب بعذر وصوتت كتلته "الجماعة الإسلامية" مع التمديد وحبيب كيروز لإصابته بوعكة صحية. في نهاية الجلسة طلب الوزير شوقي فاخوري من رئيس المجلس نسخة عن القرار لحملها إليَّ فقال له الرئيس برّي أنه حريص على تسليمي القرار بنفسه يداً بيد إعراباً عن دعمه تمديد ولايتي. ومن ساحة النجمة انتقل رئيس المجلس وعدد كبير من النواب في الساعة الأولى والنصف إلى بعبدا للتهنئة كذلك فعل رئيس الحكومة. فور وصوله سلّمني الرئيس بري نسخة عن نتيجة التصويت والمادة 49 معدّلة واستبقيت الجميع للغداء. على ضوء قرار مجلس النواب نشر القانون الدستوري الرقم 462 .... أبو محجن في الثالث من كانون الثاني 1996 اتخذ مجلس الوزراء قراراً يقضي بتكليف القوى العسكرية تنفيذ كلّ المهمات الأمنية بما فيها اعتقال الملاحقين قضائياً "إينما كانوا وحيثما وجدوا". اتّخِذت الخطوة إثر عدم مثول الفلسطيني أحمد عبد الكريم السعدي الملقب "أبو محجن" أمام قاضي التحقيق بصفته زعيم مجموعة "عصبة الأنصار" التي اغتال ثلاثة من أعضائها وبأمرٍ مباشر منه رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية الشيخ نزار الحلبي في الحادي والثلاثين من آب اغسطس 1995 بست رصاصات في رأسه وصدره أمام منزله في الطريق الجديدة. حصل خلال الجلسة نقاش حول صيغة القرار حتى كان الإتفاق بالإجماع على عدم ذكر المخيمات الفلسطينية - علماً أنّ أبو محجن يقيم في مخيم عين الحلوة - لئلا يفسّر بأن السلطة راغبة في إقتحامها وذلك لم يمنع من أن يشكّل القرار رسالة موجّهة إلى الفلسطينيين والدول العربية بأننا لن نرضى بأن تبقى المخيمات ملجأ للمطلوبين والمتورطين في جرائم. وفي موازاة قرار مجلس الوزراء إنتشر الجيش في محيط مخيّم عين الحلوة وأقام حاجزاً عند المدخل الوحيد الذي تركه سالكاً يفتش الداخل إليه والخارج منه، وكانت تفاعلات داخل المخيم فدعت "قيادة تحالف القوى الفلسطينية" إلى مؤتمر شعبي طالبت فيه "أبو محجن" بتسليم نفسه وإلا رُفع عنه الغطاء السياسي والشعبي وعندها "يتحمل مسؤولية ما يمكن أن يحصل". إنقضى أسبوع ولم يسلِّم "أبو محجن" نفسه ولم يدخل الجيش المخيّم. وجاءني نائب رئيس الأركان العميد إبراهيم عباس يقول إنّ الجيش جاهز لتنفيذ الأوامر، لكنه ارتأى أن يطلعني شخصياً على الأجواء التي زودّه إياها فريق من عملاء المخابرات داخل المخيم قبل إعطاء الضوء الأخضر. وإقترح أن نتجنّب عمليّة الإقتحام لأنها تؤدي إلى سقوط عدد كبير من الفلسطينيين إذ ستعمد جماعة "أبو محجن" إلى وضع النساء والأطفال في مواجهة الجيش كما أن الإقتحام سيكون مجازفة على الصعيد السياسي بالنسبة إلى لبنان لكون العالَمين الإسلامي والعربي سيقفان إلى جانب الفلسطينيين ويخرج "أبو عمّار" المنتصر سياسياً من المواجهة. قررت التريث من دون العودة عن القرار فاسحاً للخلافات داخل المخيم كي تتفاعل علّها تؤدي إلى تصفية "أبو محجن" على يد الفصائل المناهضة له في انتظار الوقت المناسب لتنفيذ قرار مجلس الوزراء. ولم نتمكن طوال عهدي من دخول المخيّم لحاجته إلى موافقة عربية لم نحصل عليها بحجة أنّ لبنان لا يزال محتّلا ويجب ألاّ نتلهَّى بمعارك جانبية تحوِّله عن القضية الرئيسية. وأصدر المجلس العدلي في السابع عشر من كانون الأول 1997حكمه في اغتيال الشيخ نزار الحلبي فقضى بإنزال عقوبة الإعدام غيابياً برئيس "عصبة الأنصار" وبثلاثة من الموقوفين، معتبراً أنّ الجريمة "نُفِّذت عن سابق تصور وتصميم نظراً إلى ما يكنّه الفاعلون للمغدور ولجماعته من مشاعر العداء لعدم انسجامهم مع مفاهيمه الشرعية وتفسيره للآيات القرآنية وللحؤول دون وصوله إلى منصب مفتي الجمهورية." نُفِّد الإعدام بالموقوفين في الرابع والعشرين من آذار 1997 فيما لا يزال "أبو محجن" حتى اليوم داخل مخيم عين الحلوة قرب صيدا يمارس نشاطه السياسي من دون أن يشعر بقلق على مصيره.