لم يسمع الجمهور اللبناني والعربي أخبار مارسيل خليفة منذ أشهر طويلة، مع أن الموسيقي لم يتوقف عن الابداع والتجديد وطرح التساؤلات. فهل وصلت تجربته الرائدة الى المأزق؟ وأين مغنّي "وعود من العاصفة" الذي لحن الشعر الحديث ورفع راية الأغنية البديلة، من عواصف التسعينات وزلازل نهايات القرن؟ "الوسط" التقته في باريس، وهو يستعد لاصدار كونشرتو للعود والاوركسترا، وكتاباً عن الآلة المذكورة، وشريطاً بصوت أميمة الخليل عنوانه "خليني غنيلك"، ويدرس مشروع مسرحة مجموعة أغنيات حب لسعيد عقل وأدونيس والسياب ودرويش... مع المخرج جواد الاسدي. عن انجازات الامس ومشاريع الحاضر، وآفاق المرحلة المقبلة كان هذا الحوار. أغنية مارسيل خليفة لها طبعاً منتقدوها ومحبّوها، لكن الموسيقي اللبناني المعروف يبقى بين أبرز الذين رفعوا راية الاغنية العربية الجديدة. منطلقاً من حرفة متينة، وجذور ضاربة عميقاً في التراث الموسيقي العربي، أعلن خليفة الحرب على الاغنية الاستهلاكية. وأولى الشعر الحديث - وقصيدة النثر تحديداً - اهتماماً خاصاً، فغنّى قصائد للشعراء المكرسين أو الشباب، ساعياً الى ابتكار المعادلات الموسيقية الملائمة. ولهذا يمكن اعتبار خليفة ظاهرة على حدة فوق الخريطة الثقافية. فالمرحلة التي شهدت ظهوره، وانتشار أغنيته المشاكسة، هي مرحلة خصبة بالاسئلة والتجارب، في دوامة الحرب الأهلية بأوهامها وتجاربها المميزة. والرهان الذي خاضه خليفة في طرح أسس أغنية بديلة، لقي على امتداد رقعة العالم العربي تجاوباً واسعاً، يشهد عليه النجاح الذي حققته فرقة "الميادين" من تونس الى الكويت، ومن الدار البيضاء الى بيروت. وفي لبنان كانت كل حفلة يحييها تستحيل مهرجاناً حقيقياً، حتى اذا ارتفعت حواجز الحرب لاقى المغني المجدد - لكي لا نقول "الملتزم" - من الحفاوة والاقبال في المناطق التي كانت ممنوعة عليه بالامس، أضعاف ما لاقاه في المناطق التي بات من أبرز رموزها. لكن أصواتاً عديدة ارتفعت في الفترة الاخيرة تسأل: أين مارسيل خليفة اليوم؟ وأي منعطف اتخذه فنّه في هذه المرحلة المتغيرة، بعد أن ذبلت شعارات وساد الشك، وعمت اعادات النظر على مستويات عديدة...؟ في منفاه الباريسي حيث التقته "الوسط"، بدا لنا الرجل متمسكاً بمبادئه، مثابراً على مغامرته الابداعية، منغمساً في مشاريعه الكثيرة. من اعادة اصدار بعض أعماله السابقة على اسطوانات رقميّة لايزر، ك "المسافر" مقتطفات من أعمال مختلفة وغنائية "أحمد العربي"... الى الاغنيات الجديدة التي كتبها لأميمة الخليل وتصدر قريباً في بيروت تحت عنوان "خلّيني غنيلك". لكن نشاط خليفة لا يتوقف عند هذا الحد. فعن "مركز والبحوث والانماء" في لبنان يصدر هذه الايام كتاباً خاصاً بآلة العود، وفيه يحاول ايجاد حلول للمشاكل التي يواجهها العازف كلما أوغل المؤلف في تخطي الاطر التقليدية وابتكار ألحان تختلف قلباً وقالباً عن لغة البشارف والسماعيات واللونغات الموروثة. وفي القسم الاخير من الكتاب المشار اليه، سعى كذلك الى تأليف رباعي للعود، ودرس مختلف احتمالات تطور هذه الآلة. فرغ خليفة أيضاً من تسجيل "كونشرتو لعود وأوركسترا" من تأليفه، يصدر قريباً عن دار أسطوانات أوروبية. ويتهيأ لجولة جديدة في المغرب هذا الربيع، قبل أن يلبّي دعوة مهرجانات قرطاج الدولية التي تطفئ هذا الصيف في تونس شمعتها الثلاثين. ويعمل الموسيقي أخيراً مع المسرحي العراقي جواد الاسدي، على اعداد استعراض درامي انطلاقاً من أغنيات مجموعته "الجسد" التي أنجزها منذ سنوات ولما يصدرها في أسطوانة. وكان لا بد أن يبدأ الحديث مع خليفة من سؤال حول نظرته الحالية الى الاغنية "الملتزمة" عرفك الجمهور من خلال "الأغنية السياسية" أو لنقل "الملتزمة"، ووصل انتشارك الى أوساط لم تكن تشاركك الرأي السياسي. هل انعكست التطورات الراهنة في العالم على فنك، وفي أي اتجاه؟ - أجدني مضطراً للقبول بتسمية "الاغنية الملتزمة". فلو رفضتها سيُفهم موقفي، في هذا الظرف بالذات، تراجعاً عن خياراتي أو تنكراً لتاريخي! ولكن لماذا نعامل دائماً كحالات خاصة؟ لماذا لا تطرح علينا الأسئلة التي تمس كونية كل ابداع فني؟ طبعاً كنت ولا أزال أشعر أنني معني بالأحداث السياسية عندنا وفي العالم. ولكنني لم أكتب أكتب أغنية عن حدث سياسي مباشرة، وكيف أفعل؟ الخطابية نقيض الفن، والأغنية - أغنيتي - تسعى جاهدة لتتخلّص من اللغة السياسية التي لا تكفّ عن ملاحقة الفرد. وبعبارة أخرى، وضع أغنية بمفهومي، هو جعل الكلمات ترقص دون توقف. كل تجربة تدفع مبدعها، ومن بعده المتلقي، الى تعلم أشياء جديدة عن التعامل مع الألفاظ. في حين أن الخطاب السياسي الذي نسمعه يستخدم الألفاظ كهراوات تنهال على الرؤوس. هروب الى الأمام الأغنية هي ممارسة الحرية. انها عمل سياسي بالمعنى النبيل للكلمة، أي فعل دفاع شرس ومتواصل عن استقلالية الفرد في مواجهة السلطة - كل سلطة. فعل مقاومة من أجل رد الاعتبار الى اللغة، بعد أن ابتذلت الكلمات وشوّهت وصودرت معانيها وسخرت تحت كل ضروب الرايات. ولذا فالفنان يهرب دائماً. يهرب الى الأمام ويرفض الانخراط في قطيع يحاول ابتلاعه. كيف يمكننا اليوم أن نميز بين "فنان غزل" وفنان مختص ب "الحماسة والفخر"...؟ الفنان "حقيقي" يحيى متمرداً، أو لا يكون. لكن كيف تتجلّى تلك "الثورة" في الفن؟ - الثورة في الفن أن نجمع الخبز والورد، العدالة والحرية، الحب والجمال في جسم واحد وإيمان كُلّي... أن نساهم في ارتقاء الانسانية. عليّ كموسيقي أن أضع ألحاناً جيدة ومبتكرة، تصل الى كل أذن. هذا هو الالتزام! منذ "ريتا" و"أمي" و"جواز السفر"، مروراً ب "أعراس" و"أحمد العربي"... وصولاً الى "تصبحون على وطن"، كان هاجسي هو التوجه الى المستمع الواعي، صاحب الذوق الصعب والمتشدد في اختياراته. واذا عدنا الى سؤالكِ الاول عن موقعي من التطورات والتغيرات في العالم ولمَ لا نقول في الوطن العربي أيضاً؟، فأنا ما زلت نفسي، وفياً لمبادئي، للدوافع الخفية التي جعلتني ذات يوم أحمل العود وأعزف. أحاول عن طريق الموسيقى والأغنية أن أجيء بمساهمتي المتواضعة في شق طريق المستقبل الأفضل، وتحسين نوعية الحياة. فأنا فهمت هذه الاولويات فهمت منذ زمن بعيد، وناضلت من هذا المنطلق. ما أطمح الى تقديمه من خلال الموسيقى، يتخطّى الاعتبارات السياسية والقومية. أتعتقد أن أغنياتك السابقة، تلك التي ظهرت وعرفت انتشارها الواسع - لبنانياً وعربياً - خلال الحرب الاهلية اللبنانية، سيلّفها النسيان، أم أنها ستستمر خارج الاطار الزماني والمكاني الذي وضعت فيه؟ - من يدري؟ لست خبيراً في قراءة المستقبل. ما أعرفه منذ غصت في الموسيقى أيام المراهقة، أنني أسعى الى نقل بعض رؤيتي ومشاعري من خلال آداة التعبير التي أتقنها. مع كل عمل جديد، أبدأ من الصفر على صفحة بيضاء، كما لو أنني لا أعرف شيئاً. هذا هو قدر المبدع: كل محاولة هي قفزة في الظلام، مغامرة أخرى قد لا يخرج منها سالماً... لا يمكنني أن أقول ماذا يبقى من أغنياتي. قد أكون مصيباً أو مخطئاً في ما فعلت وقدمت وفكرت. لكنني سأبقى أرتكب أخطائي الخاصة، هذا شرط العملية الابداعية. ثم أن الاغنية تعرف خيراً مني الشكل التي تريده، والابعاد التي ستتخذها، والمراحل التي لا بد أن تمر بها كي تؤدي معناها الحقيقي. أترك للأغنية أن تقودني حيث تريد أن تمضي. ارتياد القصيدة "الدرويشية" هل لديك فكرة عن أسباب نجاح أغنية مارسيل خليفة خلال الفترة الخصبة التي نتكلم عنها؟ - ربما لأنها مشاغبة. غريبة. فاجرة. صادقة. ربما لأنها لبّت لدى الناس حاجة الى تخطي الواقع الفني والسياسي، رغبتهم في الانتماء الى مشروع أكثر طموحاً ورقياً... لكن لنكن واضحين في ما يتصل بنوع "الثورة" التي نتحدث عنها. لم تقدم أغنياتي يوماً نماذج اخلاقية للمجتمع، بل أن قيمتها كانت تكمن في تمردها. وهنا أيضاً أتكلم عن الجانب الموسيقي: ما أن تخرج الأغنية من يدي حتى تغدو ملك المستمع الذي يتجاوب على هواه. الفنان لا يستطيع شيئاً حيال ذلك. فعمله يتمرد حتى عليه، اذ يصبح مشاعاً. أحياناً يحبّون أعمالي لأسباب لا علاقة لها بما كنت أرغب في ايصاله. هناك دائماً أغلبية تفهمك كما تريد هي، وعلى طريقتها. أنت من أبرز الملحنين الذين تصدوا للشعر العربي الحديث ولقصيدة النثر تحديداً. كيف تتعامل مع النصوص التي تلحنها؟ هل تطوّع الموسيقى في خدمة الشعر؟ أم أنك تعتبرها كياناً قائماً لذاته؟ - الموسيقى ليست بحاجة الى القصيدة، العكس هو الصحيح. عندما تغمض عينيك وتستمع الى الموسيقى، تسافر في الخيال الى عالم خصب بالصور والالوان والراوائح والاحاسيس. هذه هي القصيدة الحقة. أنا أتعامل مع الكلمة من موقع المؤلف الموسيقي. أرفض أن أكون صانع جمل موسيقية مفصلة على قياس النصوص الشعرية. عندما أعمل على قصيدة، أباشر بالتأليف انطلاقاً من حقل الايحاء المشرّع أمامي. هكذا يتشكل اللحن ككيان ذاتي مستقل، يأخذ في حسابه ملامح القصيدة، ايقاعها، لغتها ومراميها. بمعنى أوضح: اذا قمت بتجريد اللحن من العناصر الأخرى، فلم يقوَ على العيش كلغة قائمة بنفسها، فذلك يعني أنه ليس إلا مجموعة من الاصوات التي لا كيان لها. الموسيقى حبيبة تطلب منك كل الاهتمام، فاذا لم تعطِها حقها من الاحترام، يمكنها أن تخونك وتهجرنك في رَفّة جفن. وعندما أنتهي من وضع لحن، أشعر بتمزق، بخواء مفاجئ في أعماقي. أنت من أبرز الذين غنّوا شعر محمود درويش، كيف تقيّم اليوم هذه التجربة؟ - لا شك في أن ارتيادي القصيدة الدرويش، أمدني بشحنة ابداعية خاصة. فهي طالعة من ذلك العالم المسوّر بالدمار، ليبعث أمل القيامة الاخضر. شعر درويش دعوة منعشة الى الحياة، لهذا تراه أوحى إليّ بألحان بشوشة وفرحة كالفجر الذي ننتظر قدومه، مدهشة كأعياد لم نعشها بعد. أما النبرة الحزينة التي تنطوي عليها قصائد درويش، فتدفعك الى عقد صلة حميمة بالأشياء والكائنات. هكذا كانت الصدامات الايقاعية والمقامية تنفجر في أماكن غير متوقعة، فتعطي للاغنيات مذاقها الخاص وحضورها المختلف. كما أنني حافظت على النبض الدرويشي عبر خلق بُعد موسيقي مستقل عن الصوت، سواء من الناحية الميلودية أم الايقاعية. ماذا عن هاجس الجمع بين المسرح والموسيقى والغناء الذي يلازمك منذ فترة لا بأس بها؟ - عندما يبحث المرء في احتمالات تطوير الموسيقى العربية، يكتشف أن الشكل الغنائي هو الطاغي عليها. ويبدو لي أنه لا مفر من البدء بتطوير الأغنية ووصلها بالفنون المسرحية. فكرة الدراما الموسيقية تراودني من زمن طويل، هذا صحيح. عندما حققت، على سبيل المثال، غنائية "أحمد العربي" عام 1983 عن قصيدة محمود درويش الطويلة "أحمد الزعتر"، فكرت في نقل العمل الى الخشبة، واشتغلت على المشروع مع مخرج معروف، لكن التجربة لم تكتمل بسبب الظروف. أعتقد أنه لا بد أن تتكاتف جهود الشعراء والموسيقيين والمسرحيين والتشكيليين لتحقيق أعمال فنية كبيرة، فيزدهر من جديد فن المسرحية المغنّاة كما في أيام سيد درويش الذي طور تجربته على طريقتهما الأخوان رحباني. ونعود نحيي فن تزاوج الشعر والموسيقى. فن يقوم على تزاوج كامل بين مجموعة من العناصر الأدبية والموسيقية والمسرحية التشكيلية. أنجزت منذ سنوات مجموعة أغنيات لأسطوانة قد تكون على حدة في مسيرتك الفنية. أقصد مجموعة "الجسد" وتشتمل على قصائد حب للسياب وأنسي الحاج وسعيد عقل وأدونيس ودرويش وغيرهم. لكن الاسطوانة لم ترَ النور حتى اليوم... وها أنت تفكر في تقديمها فوق الخشبة على شكل دراما موسيقية يتولّىاخراجها جواد الأسدي. لماذا "الجسد"، وفي هذه الظروف بالذات؟ - الجسد هو الحب الذي يعانق العالم كله. حاولت أن اكتبه موسيقياً، أن أضع يدي على ما هو أساساً لحظات صفاء وهنيهات اتصال وإكتشاف وتبادل. هذا الحوار الشعري الذي لا حدود له بين الرجل والمرأة، رصدت بعض تجلياته في نتاج شعراء كبار، فقطفت الثمار الوحشية ودمجتها في سياق غنائي متكامل. واذا بي ألاحظ أن الحصيلة تنطوي على نفس تراجيدي، وأنها قابلة للتقديم بشكل احتفالي. وأنا على موعد قريباً مع المخرج العراقي جواد الاسدي، للبحث في الخطوات العملية لتنفيذ المشروع. أما عن التوقيت، فأعتقد أن الحواس هي الملاذ الاخير حين يسودّ الافق، وتتكاثر الهزائم الداخلية، وتصل الحضارة البشرية الى طريق مسدود. العمل واجهة الخليل ماذا عن تجربتك في العروض الاستعراضية؟ موسيقى "حلم ليلة صيف" التي كتبتها لفرقة كركلا حازت جوائز عالمية. ما الذي أخذك الى كركلا، وكيف عملت معه؟ - التقيت للمرة الأولى بعبدالحليم كركلا في ربيع سنة 1975، وكان يؤسس فرقته الراقصة، فطلب مني وضع موسيقى الاستعراض الذي كان يزمع تقديمه في بيروت. ومنذ ذلك الحين وأنا أكتب لكركلا: "عجايب الغرايب"، "الخيام السود"، "طلقة نور"، "أصداء"... وصولاً الى "حلم ليلة صيف". حاول كركلا في البداية وضع الحركات والتشكيلات الراقصة، على أن تأتي الموسيقى لتصاحب الرقص. وهذه الطريقة تيّسر للكوريغراف الحرية الكافية في التصميم، فيأتي بعد ذلك دور المؤلف الذي يدوّن ايقاع الرقصات ويعدّ مقاييسها ويحدّد توقيت كل رقصة أو كل مشهد، ثم يضع الالحان الملائمة. غير أنها تقيّد المؤلف الموسيقي بايقاعات وتشكيلات معينة، كما تحرم مصمم الرقص من حقل الالهام الذي قد توفره الموسيقى. كنت كل مرة أخرج عن الاطار المرسوم، وأفاجئ كركلا بأبعاد جديدة مع الموسيقى لم يضرب لها حساباً في الاساس. ثم اتفقنا بعد عدة تجارب على وضع سيناريو تفصيلي يرسم سلفاً العناصر الاساسية الدراما، الرقص، الموسيقى والملابس، على أن يتم وضع باقي مكونات العرض في وقت واحد. وأصبحنا ننطلق معاً من أرضية عمل تيبيّن بدقة التسلسل الدرامي عبر الفصول والمشاهد مع الاشارة الى الاحداث الخاصة بكل منها، والتعريف بالشخصيات، الخ. وبعد تحديد أماكن الرقصات، وأنواعها، وترتيبها، ومدّتها... يصبح بوسع الكوريغراف أن يوضح ما هو مطلوب من المؤلف الموسيقي. هكذا أصبح كركلا ينتظر أن أنتهي من الكتابة، أو من جزء أساسي على الأقل، لكي يبدأ هو عمله. هناك شريط أنجزته لأميمة الخليل تحت عنوان "خليني غنّيلك"، علمنا بصدوره الوشيك في بيروت. لماذا تلحن لأميمة الخليل دون سواها؟ - بدأت أميمة الخليل بالغناء معنا في فرقة "الميادين" وهي صغيرة. وحرصتُ انطلاقاً من خياراتنا الفكرية والجمالية على ألا أجعل منها "نجمة" بالمعنى الاستهلاكي. هذه الزاوية التي أطلت منها على الجمهور، أعطتها مكانة فنية خاصة ومميزة. كما أن الخامة الصوتية لدى أميمة تحمل طبقة هادئة ومتّزنة تمتاز بدفء شديد يعطيها حضوراً قوياً، وقدرة على ايصال النبرة والفكرة والكلمة. وهي تتحلّى بموهبة أخرى: سهولة اداء اللحن من دون جهد تلقيني. الأغنية جاهزة دائماً في الحنجرة، تخرج من العمق بلا تعثّر أو شرود عن الدرجة الصوتية المكتوبة، حتى لو غنّت من دون مصاحبة موسيقية. تجربة الميادين لا يؤتى على ذكر مارسيل خليفة، إلا وتحضر "فرقة الميادين". ما حكاية هذه المغامرة التي عمرها قرابة عقدين؟ - عندما انطلقت عام 1976، شعرت أن الاغنية الجادة التي أطمح اليها وأدافع عنها موجودة في موقع صدامي مع السائد، وعلى خط المواجهة. وسرعان ما أصبحت "الميادين" هي حصن هذه التجربة، وضمانة تطورها واستمرارها. لم تنجح فرقة موسيقية مستقلة لا في لبنان ولا خارجه، كما نجحنا، في الاستمرار على الرغم من المصاعب الكثيرة. وأنا أشعر بالاعتزتز، فتأسيس هذا المشروع كان في قائمة رهاناتي الثقافية. أغلب أعضاء الفرقة احتلوا اليوم مواقعهم كأفراد على الساحة الفنية. أذكر على سبيل المثال: توفيق فروخ مؤلف وعازف سكسوفون، شربل روحانا مؤلف وعازف عود، عبود السعدي مؤلف وعازف غيتار، هاني سبليني مؤلف وعازف بيانو، بسام سابا عازف فلوت مقيم في أميركا، الرباعي الوتري: أنطوان خليفة، ميشال خيرالله، أغوب أسمريان واليكسندرا جادريان... وعندما قمنا قبل سنتين بجولة غنائية واسعة في كل أنحاء لبنان، بعد أن غيبنا قسرياً عن جزء منه خلال الحرب، حيث كانت اغنيتنا تعبر وحدها الحواجز والحدود المصطنعة، أحسسنا أن لبنان الموحد أعاد اكتشاف نفسه في الميادين. لقد ربحنا رهاننا، وأنا مدين بالكثير الى هذه الفرقة الفريدة. ونحن اليوم أكثر من أي وقت مضى، في موقع مواجهة مع المنحى الاستهلاكي المستشري، والذي يزج بالاغنية، في لبنان والعالم العربي، في دائرة التفاهة والبذخ الترفيهي. هل لاحظتِ ذلك الانحطاط، والاموال والطاقات المهدورة، والمواهب المسفوحة على مذبح الابتذال؟ لكن الحياة الثقافية تعود تدريجياً الى لبنان، حيث أصبح هناك حتى وزارة خاصة بالثقافة، وأنت لا تزال تقيم في فرنسا... - لا شك أنك تقولين ذلك من باب الاستفزاز أو الممازحة! أعيش في الغربة لأن الابداع يحتاج الى الحرية. وأنا أشك أن بلداً يمنع فيلماً ومسرحيةً وكتاباً، ويقيّد فيه الاعلام، يوفر هذا المناخ. فهو وطن أمر من الغربة، لا يعيش فيه المواطن الا مستوحشاً ومقهوراً. قرأت مؤخراً أن جان ميشال جار سيحيي احتفالاً ضخماً بال "صوت وضوء" في بيروتنا القديمة.