كلّهم كانوا هنا. رفاق التجربة القدامى، ووجوه جديدة تحمل ديناميّتها وتميّزها وإضافاتها لترسم تحوّلاً في مسيرة مارسيل خليفة الفنية التي ازدادت نضجاً من دون أن تتخلّى عن نبضها وحيويّتها. أمام صالة ممتلئة حتّى آخر مقعد أحيا مارسيل خليفة أوّل من أمس، في قصر الأونيسكو حفلة موسيقيّة وغنائيّة استثنائيّة لعلها من أبرز الأحداث الثقافيّة التي شهدتها العاصمة اللبنانيّة منذ وقت طويل. ذلك أن اطلالات هذا الموسيقي الذي يراهن على الاختلاف، مرتقبة دائماً في بيروت، كما أن جمهوره الواسع، ومعظمه من الشباب، يمثّل وجهاً "مختلفاً" من وجوه المدينة، اذ يتجاوز الحدود الجغرافيّة، والمعايير الفئويّة الضيّقة إلى حلم "المواطنة"، وإلى مشروع "أخلاقي" شامل، تضيق به الحياة السياسية الراهنة في لبنان. لكن اطلالة مارسيل خليفة هي قبل كلّ شيء حدث فنّي وموسيقي. وقد نفدت كلّ بطاقات حفلاته الثلاث التي يحيي آخرها هذا المساء على خشبة قصر الأونيسكو مع فرقته المميّزة، وتشتمل برنامجاً شاملاً ومنوعاً، يجمع بين الموسيقى والغناء، يستحضر أغنيات من مراحل يصعب مزجها، ويحمل أكثر من مفاجأة. أعاد الجمهور الاستماع الى القصائد الأليفة التي رددها طويلاً، بعضها يحمل عبق مرحلة الحرب البعيدة جدّاً... والقريبة بشكل مدهش! وقد تلوّنت تلك الأغنيات القديمة إذ أعيد توزيعها، وتجاورت مع مقطوعات وأغنيات من الزمن الحاضر... لكن جمهور قصر الأونيسكو لم يفلت بسهولة من فخّ الحنين. كلّهم كانو هنا: أميمة الخليل التي بدأت مع فرقة "الميادين" صغيرة، وهي اليوم فنّانة لها شخصيّتها وتجاربها المستقلّة. رامي خليفة ابن الفنّان خريج أكاديميّة "جوليارد" النيويوركية، عازفاً استثنائياً على البيانو. ابنه الآخر بشار على الايقاع وايضاً البيانو "ريتا" محمود درويش... واحدة من أولى أغنيات مارسيل خليفة في أواسط السبعينات أسطوانة "وعود من العاصفة". سيّد درويش، يرافقه في كلّ المناسبات، "ديمة" محمد العبدالله، "معروف القلعة" الطالع من أغنية "البحريّة" التي ختمت البرنامج. ولا ينبغي أن ننسى طلال حيدر أفصح شعراء العامية اللبنانيّة "بغيبتك نزل الشتي/ قومي طلعي عالبال". ومحمود درويش دائماً، هو الذي لم يغنّه أحد كما فعل مارسيل خليفة: "أمي" و"جواز السفر"... "أمرّ باسمك" الموشّح الذي تلاعب عليه خليفة فزاوجه بالسوناتة، وصولاً إلى أغنية حب نادرة من كلمات الشاعر لفلسطيني لم تصدر بعد في أسطوانة "أحبّك أكثر" التي أدّتها أميمة الخليل بقوّة ورهافة، من دون مرافقة موسيقيّة. وأدّت أميمة الخليل أيضاً أغنية من الشعر النبطي "يا ساري من جداها / يا مبلغني سلام" من تأليف الشاعر الأماراتي محمد السويدي، فإذا بها تكتسي ملامح "لبنانيّة" مدهشة لا تخلو من لمسة رحبانيّة. كما فاجأ مارسيل جمهوره بأغنية جديدة من شعر بطرس روحانا تحكي خراب الروح في بيروت الراهنة، بصوت أميمة الخليل أيضاً: "طرقات وضجيج وبيوت كلا سكوت/ في شي بالعيون متل السراب/ بشر مثل اللي ناطرهن سفر ومأخرين/ ولاد متل اللي خافوا من البلاد مطيشرين/ طرقات وضجيج وحبال سيارات/ في شي فوق الروس متل الغراب/ حكي عجقة حكي/ صار الحكي شحّاد / عم بيدور عا كلّ البواب/ حامل معو ذات الحكي لَ يتكي/ في شي ورا الكلمات متل الخراب"... ورافق خليفة عازف الكونترباص النمساوي بيتر هربرت، وعازف الكلارينيت السوري الشاب كنان العضمة إلى جانب بشار خليفة على الايقاع ورامي خليفة... وقدّم خليفة في مستهلّ البرنامج مقطوعة "مداعبة" من أسطوانة موسيقية جديدة له بالعنوان نفسه، تصدر خلال الايام القليلة المقبلة.