قبل ثلاثة اشهر تقريبا، كانت المشكلة الرئيسية في اسرائىل تتمثل في الوسائل التي يمكن اعتمادها لضبط النمو الاقتصادي عند معدلات مقبولة، تحاشياً لما يسمّى "الاعراض الثانوية" للنمو المفرط وفي طليعتها التضخم وارتفاع الاسعار. وعندما لجأ البنك المركزي الى رفع اسعار الفوائد بمعدل نقطتين، اعتبرت الخطوة اقصى ما يمكن للحكومة ان تلجأ اليه للمحافظة على التضخم عند مستوى 8 في المئة، وهو المستوى نفسه الذي تحقق في العام 1993، في ظل شعور بأن الاقتصاد الاسرائيلي بدأ مرحلة جديدة من الانتعاش الواسع الذي لم يسجله منذ السبعينات. الا ان التفاؤل المفرط الذي اظهره المسؤولون الاسرائىليون اواخر العام الماضي، ومطلع العام الجاري، لم يصمد طويلا، اذ سرعان ما بدأت تظهر اشارات مقلقة. ففي شباط فبراير الماضي ارتفع معدل التضخم الى 2،11 في المئة، اي ما يزيد 2،3 نقطة عما كانت الحكومة خططت له في بداية العام، ما يعني ان زيادة اسعار الفائدة الى 5،11 في المئة لم تكن كافية لضبط التضخم، وما يمكن ان يعني ايضا احتمالاً متزايداً باللجوء الى رفع اسعار الفوائد مرة جديدة. وتزايد هذا الاحتمال مع تقديرات اطلقها صندوق النقد الدولي، وحذّر فيها من فرض معدلات فوائد اعلى لمكافحة ارتفاع مستويات التضخم، الامر الذي اعتبر احد اهم العناصر المؤدية لزيادة الاعباء على الاستثمارات والتوظيفات، وارتفاع اكلاف الانتاج في البلاد، وتقلص قدرتها على المنافسة في الاسواق الخارجية. الى ذلك، ظهرت اشارات مقلقة اخرى. ففي شباط، عاودت اسهم الشركات الاسرائىلية التراجع بصورة استفزازية، بعدما كانت حققت نمواً لافتاً ومثيراً بلغ ذروته في كانون الثاني يناير. وحقق اهم مؤشرين للشركات تراجعاً واضحاً، اذ خسر مؤشر "ميشتانيم" الذي يضم اكبر 100 شركة في اسرائيل ما مجموعه 5،12 في المئة، في حين ارتفعت خسارة مؤشر "كارام" الخاص بالشركات الأقل حجماً وأهمية ما يصل الى 27 في المئة. وفي حين يربط خبراء اقتصاديون اسرائيليون التراجع في اداء بورصة تل ابيب بالاسعار المبالغ بها التي تحققت في الاشهر الاخيرة من العام الماضي، فإن ثمة اجماعاً واضحاً على الربط بين الانهيار الحاصل في الاسعار حالياً وزيادة أسعار الفوائد الى 5،11 في المئة، ما يدفع جزءاً واسعاً من التوظيفات الى التخلي عن الاستثمار في سوق الاسهم باتجاه الايداع في المصارف. الا ان هناك اجماعاً ايضا على الربط بين التراجع الحاد حاليا والشكوك المتزايدة بامكانات عدم تحقيق تقدم حاسم في مفاوضات السلام، ونجاح حكومة اسحق رابين في المحافظة على تماسك، يقول الاسرائيليون انه اصبح اكثر هشاشة من اي وقت مضى. وبالفعل ارتبط الانتعاش الذي حققه الاقتصاد الاسرائيلي في السنتين الاخيرتين، والزيادة الواسعة التي سجلتها اسعار اسهم الشركات بالاجواء التي احاطت بعملية بدء المفاوضات العربية - الاسرائيلية للسلام، وما اشاعته من تفاؤل على الصعيدين المحلي والعالمي، مع ما يعني ذلك من فرص للتوسع الاقتصادي والتجاري مع الدول المحيطة. الا ان هذا التفاؤل الذي بدأ قوياً العام الماضي اخذ ينحسر بصورة تدريجية مع بروز الكثير من الخلافات الجدية، والثمن الذي يتوجب على الحكومة الاسرائىلية ان تدفعه للحصول على سلام كامل وشامل مع جيرانها العرب. سوق السلام وبعدما كان هناك اجماع على ان الشرق الاوسط بدأ يخطو خطواته الاولى نحو السلام، بلغ التشاؤم ذروته مع ارتكاب مجزرة الحرم الابراهيمي، وعودة الامور الى ما يشبه نقطة الصفر، وعجز حكومة رابين عن اقناع الاسرائىليين بجدوى السياسة التي تطبقها من جهة، واقناع الدول العربية بقدرتها على تنفيذ التزاماتها من جهة اخرى. وساهمت هذه التطورات السياسية المتسارعة في تدني ثقة المستثمرين بمستقبل الوضع، ما شكل حافزاً جديدا للتحوّل الى توظيفات اخرى اقل مخاطرة. وتعترف المؤسسة الاستشارية الاسرائىلية "باسيفيك ميدتيرانيان انفستمنت" بالاهمية القصوى لعملية السلام في المنطقة على توجيه الاستثمارات الاسرائىلية. التقرير الذي أصدرته عقب مجزرة الخليل، اوضح احد ابرز محلليها ديفيد روزنبرغ، ان السوق الاسرائىلية هي "بكل بساطة سوق سلام. فكل ما فيها يرتبط بعملية السلام كما يرتبط النمو الاقتصادي الاسرائىلي الى حد كبير بمستقبل السلام في المنطقة. ومن غير الطبيعي الا تعكس سوق الاسهم هذه الحقيقة الاساسية". ويعترف المسؤولون الاسرائىليون بأن التدهور الحاد في اسعار السوق، اضافة الى ما تعانيه بورصة تل ابيب من الانعكاسات التي اثرتها التحقيقات في قضية التلاعب باسعار الاسهم، ساعدا بصورة مباشرة على ارجاء طرح اسهم احدى الشركات الحكومية للبيع، وهي شركة "شيكون اوبيتواخ" المتخصصة في قطاع البناء، التي تقدر قيمة اصولها بحوالي مليار شاقل. كما يمكن لهذا الوضع ان يساهم في تأجيل طرح اسهم شركات اخرى، ما يعني المزيد من التأخر في انجاز برنامج التخصيص الذي كانت الحكومة الاسرائىلية التزمته قبل عامين. المحللون الاقتصاديون الاسرائيليون يتوقعون ان يستمر التراجع طوال الاشهر المقبلة، بسبب احتمالات زيادة اسعار الفوائد مرة جديدة للتغلب على مشكلة تنامي التضخم، وحاجة الوضع العام الى انجازات سياسية كافية على مستوى مفاوضات السلام. الا انهم يعتبرون ايضا ان انهيار اسعار الاسهم قد يكون فرصة يحتاجها الاقتصاد الاسرائيلي لمراجعة توجهاته الأساسية والتخلص من التفاؤل المفرط، الذي ساد العام الماضي، وساعد على تحقيق نمو تجاوز 8،5 في المئة. ويقول روزنبرغ ان التفاؤل المفرط العام الماضي دفع الاسعار الى اعلى بكثير مما يجب ان تكون عليه، والى المساهمة في ايجاد حالة تورم اقتصادي ساعد في انتفاخها التلاعب باسعار الاسهم، الذي نفذه بعض المسؤولين المصرفيين، واعتبر اكبر فضيحة تحصل في اسرائيل منذ العام 1983، عندما اكتشفت الحكومة في حينه قضية مماثلة للتلاعب بأسعار اسهم المصارف. ويجمع المحللون على ان جلاء غموض ما حصل في البورصة ربما ساعد على اعطاء التعاملات قدراً أكبر من الشفافية التي من شأنها ان تقلص من مخاوف المستثمرين والمتعاملين. الا ان الاهم هو ان تتوافر للانتعاش الاقتصادي ظروف سياسية عامة اكثر ملاءمة، ما يعني الحاجة الى جرعة قوية لا يوفرها سوى تحقيق تقدم ثابت ومستقر على جبهة المفاوضات مع العرب.