اذا كان الاسرائيليون يتفقون على ضرورة الافادة من السلام المقبل في الشرق الأوسط، الا انهم في المقابل يختلفون على طرق الافادة من هذا السلام، وهل ان الاقتصاد الاسرائيلي في وضع يؤهله لمواجهة متطلبات المرحلة المقبلة. والخلاف ليس جديداً، لكنه لم يصل الى الحكومة، وهو تحول اخيراً الى حرب تصريحات وبيانات بين اهم مركزين للقرار المالي الاقتصادي في اسرائيل: وزارة المال والبنك المركزي الذي عمد الى رفع معدلات الفوائد للمصارف في مطلع العام الجاري الى 5،10 في المئة للحد من ارتفاع مستويات التضخم التي بلغت 5،11 في المئة، خلافاً لما سعت اليه الحكومة وهو الا تتجاوز هذه المعدلات 10 في المئة في نهاية العام 1993. الا ان الرد على خطوة البنك المركزي الذي يصر على ممارسة صلاحياته كسلطة مستقلة، لم يأتِ، كما هي العادة في مثل هذه الحالات، من القطاعات الخاصة التي تعتمد في تمويل مشاريعها الجديدة على معدلات معينة من القروض والتسليفات المصرفية، بل من وزارة المال التي اتهم مديرها العام هارون فوغيل حاكم البنك المركزي يعقوب فرنكل بعدم التنسيق مع الوزارة، وتعريض النمو الاقتصادي للبلاد الى الخطر ونسف اهداف السلطات السياسية. وفي الواقع يجمع معظم المحللين الاقتصاديين في تل ابيب على ان الخلاف بين وزارة المال والبنك المركزي ليس الا جزءاً من خلاف اكثر شمولاً بين فلسفتين اقتصاديتين في اسرائيل: الأولى الغاء الاولوية لاستمرار الاقتصاد الاسرائيلي في تحقيق معدلات النمو التي كان حققها في العامين 1991 و1992، وبلغت 6 في المئة، وهو مستوى قياسي لم يسبق لاسرائيل المثقلة بالمصاعب الاقتصادية السياسية ان سجلته منذ اكثر من 15 عاماً. اما الفلسفة الثانية فتقوم على اعطاء الاولوية للحد من ارتفاع معدلات التضخم في البلاد، وعدم حاجة اسرائيل الى مستويات قياسية من النمو اذا كان هذا الوضع سينتهي الى زيادة معدلات التضخم. ويقول حاكم البنك المركزي ان الحكومة كانت حددت معدلات التضخم الواجب تحقيقها في نهاية العام الماضي 10 في المئة حداً اقصى، الا انها عجزت عن تسجيل مثل هذا الانجاز بسبب تراجع معدلات الفوائد الى ما دون المستويات المطلوبة، فزاد المعدل الى 5،11 في المئة. كما انه من غير المعقول ان تنجح هذا العام في تخفيض المستوى الى 8 في المئة، اذا استمرت نسب الفوائد على ما هي عليه. ويذهب يعقوب فرنكل الذي يعتبر واحداً من بين ثلاثة يمسكون بالقرار الاقتصادي والمالي في اسرائيل، الى جانب وزير المال ابراهيم شوشات، ومدير عام الوزارة هارون فوغيل الى حد وصف النمو الذي حققه الاقتصاد الاسرائيلي في العام 1991 و1992 وتراجع في العام 93 الى 5،3 في المئة بسبب التراجع في قطاع السكن بأنه نمو قد لا تحتاجه اسرائيل، اقله لمنع مستويات التضخم من مواصلة الارتفاع. وكانت الصادرات الاسرائيلية زادت العام الماضي بنسبة 10 في المئة، في حين زادت معدلات الاستهلاك بواقع 7 في المئة. كما نجحت الحكومة في تخفيض العجز في الموازنة العامة الى 2،3 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، بعدما كان هذا العجز بلغ 9،4 في المئة في العام 1992، الى جانب تقليص معدلات البطالة من 2،11 الى 2،10 في المئة في خلال سنة واحدة. وطبقاً للتقديرات التي وضعتها حكومة اسحق رابين، فان العجز في الموازنة يجب ان يتراجع الى 3 في المئة حداً اقصى في نهاية العام الجاري، الى جانب تقليص مستوى التضخم الى 8 في المئة، والبطالة الى 4،9 في المئة. ويعطي الاسرائيليون اهمية لنجاح برنامج التخصيص الذي بدأ تنفيذه قبل سنتين، الا انه بات يصطدم بمعارضة اكثر تنظيماً من قبل النقابات العمالية التي تصر على ضرورة حمايتها من الانعكاسات الاجتماعية واحتمال تعرض المزيد من العمالة المعتبرة فائضة للصرف. وقررت الحكومة الاسرائيلية بيع حصصها في ثلاث شركات كبرى، من بينها الخطوط الجوية الاسرائيلية "العال" وشركة "اسرائيل كميكالز" للصناعات الكيماوية، وشركة "بيزيق" التي تتولى ادارة قطاع الاتصالات الهاتفية في البلاد. وستضاف هذه المرحلة الجديدة من التخصيص الى مرحلة اخرى كان بدأ تنفيذها قبل اكثر من عام لبيع الحصص الحكومية في المصارف الاربعة الرئيسية في البلاد الى القطاع الخاص، الا ان ثمة شعوراً بأن الاجراءات التي قد يلجأ اسحق رابين الى اتخاذها لاصلاح الوضع الاقتصادي واخراج الدولة من ادارة الاقتصاد العام، قد لا تقف عند حدود بيع الشركات، بل قد تتجاوزها الى اعادة النظر في التقديمات الاجتماعية والصحية التي يحصل عليها الاسرائيليون، اضافة الى تقليص الحماية الممنوحة لبعض القطاعات الصناعية لدفعها الى تحسين شروطها التنافسية. حكومة عمالية ضد العمال ويقول مدير عام وزارة المال ان تطبيق مثل الاصلاحات الاقتصادية قد لا يكون من دون ثمن سياسي، في اشارة مباشرة الى احتمال دخول حزب "الليكود" على الخط لاستغلال المعارضة النقابية لبرنامج التخصيص، وتوفير الغطاء السياسي لأي تحرك نقابي يمكن ان تقوم به الاتحادات العمالية لزيادة الاعباء التي يتوجب على حكومة "حزب العمل" ان تواجهها. واللافت في هذا السياق هو تبدل المواقع بين الحزبين الرئيسيين في اسرائيل، اذا كان يفترض بحكومة عمالية ان تكون اكثر تساهلاً حيال مطالب النقابات العمالية، الا ان ما يتوقع حصوله هو ان يتحول هذا الدور الى اليمين بزعامة الليكود لدعم مطالب النقابات واستغلال نقمة الذين سيشملهم الصرف وتقليص التقديمات الاجتماعية لتحسين مواقعها الانتخابية. ويقول حاكم البنك المركزي ان تطبيق برنامج الاصلاحات الاقتصادية على رغم آثاره المباشرة على الصعيد المعيشي والاجتماعي، سيكون من عناصر جذب الاستثمارات الاجنبية الى البلاد، وهو موضوع تحدث عنه وزير الخارجية شمعون بيريز عندما توقع ان تصبح اسرائيل المركز المالي والاقتصادي الاهم في الشرق الأوسط. ويقول فرانكل ان اصلاح الوضع الاقتصادي الى جانب احتمال رفع المقاطعة العربية قد يشكلان الحوافز التي تحتاجها الشركات الاجنبية للعمل في اسرائيل كنقطة انطلاق الى الاسواق المجاورة. الا ان فرانكل الذي يعتبر من أشد انصار خروج الدولة من ادارة الاقتصاد يشدد على ضرورة عدم الاسراف في التفاؤل "اذ كيف يمكن لاقتصاد يعاني من اختلالات هيكلية ان ينافس في اسواق نامية، لكنها تتميز بالكثير من عناصر القوة".