فيروز عائدة الى لندن بعد غياب سنوات. آخر اطلالة لها في العاصمة البريطانية ترجع الى العام 1986. بعدها وقفت المطربة اللبنانية الكبيرة على خشبة "برسي" الباريسية 1988، حيث صفق لها آلاف المستمعين العرب والاوروبيين. وها هي السيدة تستعد لاحياء حفلتين غنائيتين على مسرح "أولمبيا" اللندني ليلتي 11 و12 آذار مارس، ترافقها "فرقة لندن الفيلهارمونية" بمشاركة عازفين لبنانيين على الآلات الشرقية، وترية وايقاعية، ومنشدون ومنشدات... في جعبة فيروز هذه المرة مجموعة مفاجآت: باقة من الاغنيات التي تنتمي الى الذاكرة الرحبانية العريقة قام زياد الرحباني بإعادة توزيعها، وأغنيات جديدة من تأليف زكي ناصيف وتلحينه، ستصدر قريباً في أسطوانة مستقلة. "الوسط" قررت الاحتفال بهذا الحدث الاستثنائي، فالتقت السيدة فيروز في بيروت عشية سفرها، وهي في عزّ انهماكها في التحضير للحفلة، وفي وضع اللمسات الاخيرة على أغنيات الاسطوانة الجديدة. لا تؤثر الكلام كثيراً. لكنها حين تتكلم، تختصر كل ما يمكن أن يقال بجمل قصيرة فيها الكثير من بريق صوتها وسحر حنجرتها. ومن شدة صمتها واقتضابها أحياناً، تظن أن ما تنطق به اقرب ما يكون الى الجوهر الذي لا يحتاج الى اي شرح. فالجملة القصيرة قادرة على ان تقول اكثر مما تقوله الصفحات الطويلة. وفيروز حين تجيب عن سؤال ما تختصر قدر الامكان: طول الكلام غالباً ما يفقد الكلام لمعانه وسرّيته. هكذا ندرت احاديث فيروز وحواراتها الصحافية، وفي نظرها ان اي كلام لن يضيف جديداً الى اغنياتها. فحين تغني تقول كل ما تبغي ان تقوله وما يعجز الكلام تالياً عن ان يقوله. بل هي تعتبر انها وجدت لتغنّي لا لتتكلم عن الغناء، وحين تتكلم فإنما لتوضّح أمراً او لتعلن عن موقف. الا ان فيروز حين تتكلم على موضوعات خاصة وحميمة، كطفولتها وبداياتها الغنائية وآلامها ووحدتها... تتكلم بحنين وسحر يشعران من يحاورها او يستمع اليها بأنها تملك حدساً عظيماً ومعرفة عميقة وتجربة داخلية. ولا تُستغرب امور كهذه لدى المطربة الكبيرة صاحبة الصوت الجميل والغريب والغامض والاليف والحاوي الكثير من الاحاسيس والمشاعر، ذاك الصوت الذي وصفه حليم الرومي حين اكتشفه في مطلع الخمسينات بالحجر الكريم والجوهرة النادرة، فلم يتوان آنذاك عن اطلاق اسم فيروز على المطربة الفتية نهاد حداد. فصوتها هو من مادة الفيروز حقاً. وحين تتحدث فيروز يخيّل اليك ان شخصية من شخصياتها المسرحية تتحدث. وما اكثر تلك الشخصيات التي ادّتها في مسرحيات غنائية شهيرة، واطلّت عبرها وعُرفت بها حتى بات من الصعب فصلها عنها على الرغم من اختلاف تلك الشخصيات وتناقضها. انها كل شخصيات الاوبريت التي ادّتها بصوتها ونبرتها الخاصة: هالة، عطر الليل، منتورة، ريما، هيفا، ماريّا، عدلا، زاد الخير، غربة، وردة، زيّون ولولو ... وكل هذه باتت محفورة في ذاكرة اللبنانيين والعرب الذين شاهدوا الاعمال الرحبانية في حينها او استمعوا اليها لاحقاً. انها امرأة آسرة في صمتها وفي كلامها، في لمحات الطفولة التي ما برحت مخبّأة في قراراتها وفي نظراتها الخفرة والحادة، وفي ابتسامتها التي تنمّ عن محبة وإلفة. امرأة من طينة خاصة ومعدن غريب. مجبولة بالحزن، بالفرح، بالصمت، بالبراءة، بالعفوية، بالمعرفة، بالحدس ... وصوتها هو تلك العطية، تلك الهبة التي وهبت اياها لنُوهب اياها بدورنا... صوتها الساحر المليء بالبهجة، المجروح بالحزن، المشبع بالصفاء، الناضح بالشفافية. صوتها الرقيق كالنسيم، العاصف كالريح، المختلج والهامس والمترقرق كالماء. سرّ ذاك الصوت من سرّ صاحبته، من سرّ ذاك اللقاء العجيب الذي جمع بينها وبين عاصي ومنصور، ذاك اللقاء الذي لا يتم الا مصادفة وقدراً. فيروز المنهمكة في الغناء والموسيقى والوحدة والصمت تتحدث هنا، كعادتها، باختصار واقتضاب، هما الكلام، كل الكلام. ينتظرك جمهورك في بيروت فتطلّين في لندن، ألم يحن الوقت برأيك لتطلّي على جمهورك الكبير في لبنان وعلى محبّيك الذين هم دوماً في شوق اليك؟ - شوقي الى جمهوري في لبنان هو مثل شوقه إليّ وأكثر. ظروف احتجابي عنه معروفة. واليوم زالت، لذلك أملي كبير بأن اطلالتي على ارض وطني لم تعد بعيدة. ألن تغنّي لهم السلام كما كنتِ معهم في الحرب وكان صوتك لهم ملاذاً وملجأ؟ - لم أغنّ الا السلام .. ولن اغنّي الا السلام. ماذا يعني لك السلام الذي حلّ اخيراً على لبنان؟ الا تعتقدين انه لن يكتمل اذا لم تلوّنيه بصوتك؟ - يكتمل السلام الخارجي عندما يحلّ السلام الداخلي في نفوس الجميع. وحفلتا لندن ماذا ستقدّمين فيهما: من جديدك وقديمك كالعادة؟ - اترك البرنامج مفاجأة للجمهور، فاما ان يحبّه واما ان ... كنت حين تغنين في الخارج تحملين لبنان في صوتك الى اولئك اللبنانيين المغتربين والمهاجرين و"المنفيين" وكانت حفلاتك في تلك الفترة من الحرب مواعيد حنين وشوق الى لبنان الجمال والحب والفرح. الآن ماذا يعني لك ان تغني في لندن او باريس بعدما عاد الذين عادوا وبعدما توقفت فصول الحرب؟ - يحملني صوتي ولا احمله. واينما غنّيت فانا اغنّي في وطني. بحبك يا لبنان! اغنية "بحبك يا لبنان" التي كانت تثير شغف اللبنانيين والعرب، هل تعتقدين انها انتهت مع الحرب؟ - انتهت مع الحرب بنسبة ما هي تذكّر بالحرب. ومهما كان مؤلماً للفنان ان يرى جزءاً منه ينتهي، فلا مانع عندي ان يطوي النسيان أي اغنية من اغنياتي اذا كانت تستحضر ذاكرة الحرب. اليوم من دون حرب ممكن ان تُسمع تلك الاغنية كأغنية احببناها كثيراً وممكن ان ترتاح "شوي" قليلاً وتترك مجالاً لباقي الاغاني. الجمال الفني لا ينتهي ومع الوقت تسقط منه الحالات المؤلمة ويبقى الجمال. لكنها لم تكن أغنية مباشرة ولا آنية او عابرة، وحملت في حينها صورة مأسوية عن لبنان؟ - مصير كل أغنية يتقرر في معزل عن المغني... يتقرر في وجدان الناس. هل تعتقدين ان الاغنيات السياسية التي غنّيتها ستدوم مثلما ستدوم اغانيك الاخرى؟ - لا أعتبر اني غنّيت اغنيات سياسية. ولا أسمّيها هكذا. انها اغنيات انسانية تنبعث دائماً من معاناة صادقة شاركت فيها الآخرين. كل واحدة من اغنياتي هي لحظة شعور. اعتقد مثلاً ان اغنية "لبيروت" ستكون جزءاً من ذاكرة لبنان الحرب، اذ كان صوتك بارقاً ومجروحاً وحاوياً آلام الارض والمواطنين! - هي علامة من علامات رفض اللبنانيين للحرب. تتأسّفين دوماً على صورة لبنان الحلم التي صنعتها انت والرحبانيان. هل تعتقدين أن تلك الصورة احترقت وتلاشت نهائياً؟ - ربما احترقت، لكنها من المستحيل ان تضيع في العدم. كلما تلاشى حلم أشرق مكانه حلم آخر. ماذا يعني لك لبنان إذاً؟ - ان يصبح ذلك الحلم حقيقة. أليس الحلم هو الوجه الآخر للحقيقة؟ - انه ما ننتقم به من الواقع. زكي ناصيف معلم كبير نرجع الى اغنياتك. ما زلت تغامرين من دون ان تهابي عواقب المغامرة. فها أنت تتهيأين لتقديم أغنيات جديدة من زكي ناصيف. لماذا زكي ناصيف؟ وماذا يعني ان تؤدي له الحاناً مختلفة عن مرحلتك الاخيرة مع ابنك زياد؟ - انه تنويع وعودة الى اجواء غنائية يحبها جمهوري. وقد مضى وقت طويل وانا منقطعة عنها. والاستاذ زكي هو معلم كبير في هذا الحقل. هل هي عودة الى الماضي، الى الموشّح الخفيف؟ - نعم. ولكنها، كما قلت، من باب التنويع. وليست انهاء لمرحلة المغامرة التي أشرت اليها. والمغامرة الفنّية، ماذا تعني لك؟ - المغامرة طبعت كل مسيرتي الفنية. انها تعني لي التجدد، والتجدد ضمن حدود نابعة مما اعتدت فرضه على نفسي من تشدد. الا تعتقدين ان لديك كنزاً سحرياً من الالحان والاغنيات يكفيك لسنوات وسنوات؟ - واذا عندي شو بيصير؟ الفنان لا يستطيع ان يكتفي برصيد الماضي، وإلا حكم على نفسه بالتوقف. أين اصبحت مع زياد اليوم؟ جمهوركما ينتظر الاغنيات الرحبانية التي اعاد زياد توزيعها فماذا عنها؟ - التعاون مع زياد لا يتوقف، لكنه يتقطع عندما ينشغل زياد باعماله الفنية الخاصة. والاغنيات المعاد توزيعها ستصدر في وقتها. زياد وطوق التقليد! مغامرتك مع زياد في "معرفتي فيك" و"كيفك انت" ترسّخت، والكثيرون من الذين لم يستوعبوها في البدء اعتادوا عليها على الرغم من عدم ارتياح البعض لها! كيف تستعيدين مغامرتك مع زياد؟ ألن تكملي معه؟ - مغامرتي مع زياد هي صفحة جديدة من مسيرتي الفنية، جعلتني اتعمّق في اكتشاف شخصية زياد الخلاّقة والغنية وامتلئ فرحاً بموهبته المتعددة الآفاق. بدأت حياتي الغنائية مع الاخوين رحباني بسلسلة تجارب، كانت في حينها تحديات كسرت طوق التقليد، ولقيت ما لقيته من ردود فعل مختلفة. ومرحلتي الجديدة مع زياد هي ايضاً كسر لطوق التقليد وبحث عن ايقاع جديد لزمن مختلف واذن مختلفة. قدر الفنان هو القلق الدائم والبحث الدائم. عادة حين تبدأين مغامرة ما هل تعتمدين على حدسك ام على ذائقتك ورأيك ام على مشورة الاقرباء والاصدقاء؟ - الايمان هو القاعدة، اذا لم اؤمن بالشيء لا استطيع ان اتحرك. هل من الممكن ان تلتقي فيروز ومنصور الرحباني في عمل ما، في الحان ما؟ - ارجو توجيه السؤال الى منصور. الجمهور اللبناني الشاب والفتيّ الذي لم يشاهدك هل لديك تصوّر ما عنه؟ واذا أطللت عليه فهل تفكرين باطلالة معينة خاصة به؟ - اعتقد ان اغنيات زياد لعبت بالنسبة الي هذا الدور: إنها اللقاء الذي تتحدث عنه بيني وبين الجيل الجديد. الوحدة هي أنا! علمنا ان عروضاً مسرحية وسينمائية تنهال عليك؟ هل تفكرين في مثل هذه الاطلالات؟ - احياناً اقرأ عن هذه العروض في الصحف مثلي مثل الآخرين، ويكاد علمي بها يقتصر على هذا الحد، علماً انني منفتحة على كل عرض يستوفي الشروط المطلوبة. ألم تشتاقي الى المسرح؟ - كثيراً. هل ما زلت تؤثرين الوحدة؟ وماذا باتت تعني لك اليوم؟ - الوحدة هي أنا. والطفولة .. هل غادرك طيفها؟ ام ما زال يراودك دوماً؟ - انا طفلة دائمة. طفولتي مصدر ألمي وحمايتي في وقت واحد. ولولا قساوة الواقع وموجباته، لظننت احياناً ان الزمن غير موجود.