ها أنت في اسطنبول... وها هي تداعيات الذاكرة تتساقط على ظلك المليء بالهواجس... تداعيات الطفولة التي "ذاكرت" التاريخ في مقاعد الدراسة الذي كان المادة الوحيدة التي تستثير خيالك الصغير وتلف الاحداث بغلالات من الغموض والسحر، وأحياناً دهشة الاقتراب من الماضي على ظهر السطور. كانت الخيول مقترنة في ذهنك بالفتوحات وبناء الأمم، وكانت العصور القديمة كلها تمتطي هذا الصهيل، والمتنبي يصدح في اذنيك: "اعز مكان في الدّنا سرج سابحٍ، وخير جليس في الزمان كتابُ". وكانت الجغرافيا تعاني من التحولات، فلم يبق من هذه الحدود القديمة التي كانت ترسم الممالك الا ذكريات احداثها الملأى بالدماء والسبايا والحرائق ثم بالابنية الشاهقة والعروش السلطانية المتكئة على هشيم العروش الاخرى... لا شيء في هذا التاريخ قابل للسكونية، وأنت تقترب بأعوامك المترددة من ثبات المواقع الاخيرة لذلك التاريخ الذي غاب ناسه، وبقيت آثارهم، التي اجتهدوا في تخليدها. انت الآن في مطار أتاتورك وبعد قليل ينتهي روتين الاجراءات لتدخل مدينة لم تطأها من قبل وان كان عقلك اليومي اسكنها المخيلة، وكانت المآذن الخمسمئة وآلاف القباب حاضرة، كما كانت الاسوار القديمة ايضاً مفتوحة على القراءة ورنين الافكار. كيف تقبّل اذاً تلك المدينة التي احببتها دون ان تراها، بمقياس الحب نفسه الذي منحته للاسكندرية، وهي تترك "اليود ينشع في الرئتين" كما قال دنقل او كما قال صاحب لنا غوى، وهو يتمتم "اسكندرية مرية وترابها زعفران"؟... فماذا عن هذه المدينة التي كانت للحظات - وأنت معلق في الفضاء - طيفاً من خيال ورؤى عابثة...؟! مدينة مميزة ها هي اسطنبول... الطريق طويل من المطار الى منطقة الفاتح في قلب المدينة القديمة، الذي ترتفع على جانبيه مداخن عوادم المصانع، التي يظهر من بينها بعض الابنية السكنية العريضة الملأى بحبال الغسيل وصياح الاطفال ونظرات الفتيات الحالمات بالافق البعيد، حيث كل شيء ناءٍ وشاسع، وحيث تجمع المدينة عشرة ملايين - وأكثر - من السكان والزوار، ينتشرون بشكل عشوائي في الشوارع الصاعدة الهابطة، وحيث تغفو المدينة وتصحو على التلال السبع التي تشكل جيولوجية المكان ويقسمها خليج البوسفور الى هويتين: اوروبية وآسيوية، وهو ما يشكل لها انفراداً على كثير من مدن العالم البحرية، مثلما تطل ايضاً على شواطئ المتوسط لتدخل مجموعة المدن المطلة عليه، كما ترتبط بالبحرين الاسود ومرمرة... هذا "الحصار" المائي، جعلها مدينة استراتيجية وعاصمة للعالم القديم، منذ تأسست قبل 2600 عام وجعلها الامبراطور قسطنطين عاصمة للرومان ثم اصبحت ولاية، فعاصمة للامبراطورية البيزنطية. وفي 1453 سقطت هذه المدينة العظيمة تحت مدافع الجيش العثماني بقيادة سلطانه الشاب محمد الثاني "الفاتح"... قوميات مختلفة تعج بها المدينة، وتختلط الملامح التركية الحالية بأصول شتّى، لتنتمي - تشريحياً - الى الرومان والبلغار والبوشناق واليونان والاناضوليين وربما "القبارصة" ولكن هذه الاصول تنصهر جميعاً في بوتقة اللغة التركية التي هي خليط من الألمانية والفرنسية والعربية، وتشترك جميعاً في ندرة الاعتناء باللغات الاخرى، لذا يكون صعباً عليك التحدث مع اي احد الا باللغة العالمية الوحيدة في هذا الموقف: الاشارة المقترنة بابتسامة عريضة، ولكن الناس هنا لا يبتسمون كثيراً ربما لأنهم مشغولون او لعل الغلاء لم يمنحهم مثل هذا "الترف". ما يهمك هنا هو "حضور" الزفاف الابدي بين الفنين البيزنطي والاسلامي، والذي تراه جلياً في كنيسة آيا صوفيا - التي صلّى فيها محمد الفاتح أول صلاة جمعة بعد سقوط المدينة فأصبحت مسجداً، او ان تتجول بين المساجد الشهيرة مثل المسجد الازرق، او جامع ايوب الذي بناه الفاتح وهدم بمرور الوقت الا مئذنته، والذي اعاد بناءه السلطان سليم الثالث عام 1800، او جامع السلطان احمد ذو المآذن الست، او برج بايزيد ومدخل باب جامعة اسطنبول "الذي كان في العهد العثماني باب حربية نظاراتي - وزارة الدفاع -"، او جامع السليمانية الذي فتح للعبادة عام 1556، ثم جامع صوكللو الذي انشأه المعماري سنان في عهد سليم القانوني الثاني عام 1577، او جامع دولمه بهجه الذي شيدته زوجة محمود الثاني ووالدة السلطان عبدالمجيد السلطانة بزم عالم عام 1853، او جامع نصرتيه الذي شيده محمود الثاني في منطقة طوبخانه عام 1823 بجوار سراي بورنو، او جامع او سكودار "اناضول" والذي انشئ بالقرب من دولمه بهجة ومن اسمه يتضح بأن ساحته اخذت من البحر وردمت بالتراب ومن ثم شيد فوقها الجامع... سيف الوقت ولأن سيف الوقت مسلّط على "رقبة" رحلتك القصيرة، فلا بد من "انتقاء" بعض المزارات... ولتبدأ بمسجد السليمانية الذي يحتفل هذا العام ببلوغه الپ415 عاماً منذ بناه المهندس المعماري سنان، "بناءً" على أمر السلطان سليمان القانوني السلطان العاشر في سلسلة سلاطين الدولة العثمانية وولد عام 1454 وتوفي عام 1566 في خيمة القيادة اثناء محاصرته لمدينة زاجاتور في المجر وكان عهده احد العصور الزاهية في التاريخ العثماني، اما مهندسه سنان فولد عام 1489 وتوفي عام 1588 عن عمر يناهز المائة، بعدما شيد مئات الابنية التي اصبحت فيما بعد آثاراً تدل على العبقرية، وكان اسلوبه مزيجاً من الموروثات الفنية الاسلامية والعربية والمعمارية الأوروبية التي تمثلت فرادتها في عصر النهضة الايطالية. بدأ انشاء مسجد السليمانية عام 1490، وقد اختير موقعه على احدى التلال السبع التي "تسكن" عليها مدينة اسطنبول واستمرت عمليات البناء لأكثر من ثمانين عاماً اكتمل بالضبط في 1577. وفي حفلة افتتاحه اعطى السلطان الكبير للمعماري سنان مفتاح الجامع الذهبي، ويعكس التخطيط الداخلي للمسجد مظهره الخارجي، وقطر القبة الرئيسية 50،26 متراً وارتفاعها 53 متراً وترتكز على اربع دعامات ضخمة يبلغ طول كل منها 57 متراً وعرضها 27 متراً ومنشأة من الصوان، وثبتت الاقواس التي بنيت عليها القباب وغطيت المساحتان الموجودتان الى اليمين واليسار بخمس قباب، ويبلغ طول المسجد 69 متراً وعرضه 63 متراً ويحتوي 138 نافذة ذات زجاج ملون، ويحتوي على مقصورة للسلطان تقع عن يسار المحراب وترتكز على ثمانية اعمدة من الغرانيت، ولها مدخل خاص من الخارج ويوجد الى جوار المنبر شمعدانان ملفحان بالذهب وينتشر الصوت داخل الجامع وفق قواعد علم الصوت السمعي "الصدى". وقد اشتمل مجمع السليمانية على أول جامعة منذ فتح المدينة وأسست فيها سبع مدارس سميت بالمدارس السليمانية، كما بنيت مدرسة لتعليم الطب، وأُلحق بهذه جميعاً "عمارة خانة" لتقديم الوجبات المجانية للمدرسين والطلاب والموظفين والضيوف والفقراء، ويحتوي المجمع على ضريح السلطان سليمان القانوني الذي يحتوي على قطعة من الحجر الأسود للتبرك بها، وأيضاً ضريح زوجته شيخ زاده سليم الثاني وخديجة سلطان ابنة احمد الثاني، كما دفن المهندس المعماري سنان في قبر صغير يقع خارج حديقة الجامعة على اليسار الى جانب مقر افتاء اسطنبول. الجامع الأزرق اما الجامع الازرق أو "يني جامع" فكانت السلطانة صفية زوجة مراد الثالث اول من باشر في بنائه، وللجامع مئذنتان ولكل مئذنة ثلاث شرفات مئذنية، وعلى مر الزمان تم توسيع اطراف طرق الجامع الخارجية حتى لم تعد هناك حديقة خارجية للجامع، وهو يتشكل من 66 قبة، وجدرانه مغلفة - من الارض - وحتى السقف بالخزف الصيني "نصفه أخضر والنصف الآخر ازرق"، ولهذا يسود الاعتقاد بأن تسميته بالجامع "الازرق" ترجع الى هذا الخزف وكان هذا الجامع في القديم اموال وقف سوق مصر "مصر غاريشي". اما جامع السلطان احمد، فيواجه آيا صوفيا، وقد شيده السلطان احمد لينافس آيا صوفيا، وبعدما راقت له الفكرة استدعى كبير معمارييه وقال له "سوف تشيد جامع على ان تكون مآذنه من الذهب "الطَن - بالتركية" وفكر المعماري كثيراً وقال انه من المستحيل ان تكون مآذن الجامع من معدن الذهب، ولم يكن يستطيع ان يعرض رأيه هذا على السلطان لكونه يعرف بأن الجامع يجب ان يشيد، عندها فكّر في التلاعب بأحرف كلمة الذهب على ان يدّعي بأن ما فهمه ليس الطن "الذهب" وانما الطَيّ "ستة" واستناداً لذلك شيد جامع السلطان احمد بمآذنه الست عام 1616 وعلى الرغم من ان مآذنه ليست من الذهب، الا انه يعد من الآثار العثمانية الرائعة، ويبلغ الطول الداخلي للجامع 64 متراً وعرضه 72 متراً ويضاء بواسطة النوافذ التي يصل عددها الى 260 نافذة ويشتمل على لوحات جدارية من الزخرفة الاسلامية والعثمانية واستعمل في تجهيزها 21043 قطعة من الخزف الصيني. ولأن سيف الوقت ما زال مسلطاً، وكل مزار تحتفل به، ينسيك هذا الوقت ان لم نقل "يسرقه" حيث تجد نفسك خارج الزمان، محاولاً "قراءة" هذا الجمال المزدوج: البهاء البنائي، والاكتمال التشكيلي، والذي ما زال معايشاً لتقلب الازمنة واختلافاتها... وتبقى لاسطنبول فرادتها، وإضاءاتها التاريخية الكثيرة، ولترابها انه عايش عصوراً كثيرة لأكثر من 2600 عام بدءاً من الرومان فالبيزنطيين فالاتراك العثمانيين وحتى هذا العصر الذي اصبحت فيه المدينة غربية التوجه ولكنها شرقية الاصول.