"مشكلة الجزائر لا تعني الجزائر وحدها. انظر الى الخريطة والى الضفة الاخرى من البحر. اذا حصل انهيار واستولى المتشددون على السلطة يتعين على العالم ان يستعد لاستقبال مليوني جزائري على الاقل وسأكون أول المغادرين". وأضاف الاستاذ الجامعي: "لم نبتهج بنهاية نظام الحزب الواحد للوقوع في ديكتاتورية جديدة. الجزائريون مسلمون والاسلام حاضر في تركيبة الشخصية الجزائرية ولكن يستحيل في نهاية القرن العيش في ظل دولة تقتدي بالنموذج الايراني". الخوف من الأيام الآتية. هذا ما تلمسه في أي حديث مع ذلك الفريق من الجزائريين الذين فرحوا بانتهاء احتكار جبهة التحرير الوطني للحكم وتوهموا ان الطريق بات مفتوحاً امام الديموقراطية والتعددية وصناديق الاقتراع والتناوب على السلطة. وتذكرت ما قاله ذلك الشاب الذي كان واقفاً امام دكان لا يبعد سوى مئات الامتار عن مقر وزارة الخارجية. قال: "لقد نهبوا الجزائر. عائدات النفط ذهبت الى الحسابات الخاصة في الغرب. الدولة الاسلامية وحدها قادرة على وقف الفساد. الديموقراطية التي يتحدثون عنها مجرد ستار يختبئ وراءه العلمانيون والمتفرنسون والمتورطون". وأضاف: "نحن لن نخسر شيئاً. لا سكن ولا عمل ولا كرامة. يحاولون تأخير الانتصار كمن يحاول وقف البحر. هم بدأوا العنف حين الغوا نتائج الانتخابات. ولو عادوا الى المسار الديموقراطي لفازت الانقاذ مجدداً. واذا استمرت المواجهة سينهارون والمسألة مسألة شهور". هذا التناقض الصارخ بين كلام الرجلين يكشف حدة التمزق الحاصل في الجزائر وصعوبة بلورة تسوية تضمن عودة الاستقرار. وعلى رغم بعض الامل الذي أثاره وصول اللواء الأمين زروال الى الرئاسة وتشديده على الحوار وتأكيده القطيعة مع الماضي فان السؤال الذي يتردد هو عن فرص نجاح مثل هذاالحوار في حال انطلاقه جدياً. في الوسط السياسي الجزائري همسات وسيناريوهات وشائعات. وكل ذلك يترافق مع شكوك رسختها مواجهة دامية تدور بلا هوادة منذ عامين. اطلقت "جبهة الانقاذ" اشارات الى استعدادها للحوار اذا كان جدياً لكنها اشترطت جملة خطوات بينها الافراج عن القياديين المعتقلين وفي طليعتهم زعيمها عباسي مدني ونائبه علي بلحاج. واذا كان واضحاً ان القبول بمبدأ العودة الى المسار الديموقراطي شرط لأي حوار جدي فان السؤال هو عن مضمون الحوار وعن الضمانات التي يطلبها كل فريق. علماً بأن الحوار نفسه كما الضمانات ليست موضع اجماع داخل كل من الفريقين. الحوار مع "الانقاذ" لا يعني اخراج مدني وبلحاج من السجن الى الحكم، كما يقول احد السياسيين. ويضيف ان ترتيب "تعايش" بين الجيش و"الانقاذ" في السلطة لن يكون سهلاً، اضافة الى ان فكرة "التعايش" التي راودت الرئيس الشاذلي بن جديد غداة انتخابات 26 كانون الأول ديسمبر 1991 لم تستطع شق طريقها فكانت "استقالته". ويرى السياسي ان فرص التسوية ستظل ضئيلة ما لم تسترجع الساحة السياسية قدراً من التوازن كأن تبلور السلطة مشروعاً للحوار مع "الانقاذ" يحظى سلفاً بتأييد حزب جبهة التحرير الوطني وجبهة القوى الاشتراكية وأحزاب اخرى. ويعتبر ان تسويق الحل لن يكون سهلاً فداخل كل من الفريقين الرئيسيين، اي الجيش و"الانقاذ"، من لا يزال يراهن على "الحل الأمني" او "النصر العسكري". ويسود في الاوساط الحزبية والسياسية الجزائرية شعور بأن الاسابيع المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة الى مستقبل الحوار. وثمة من يقول ان المواجهة ستشهد تصعيداً كبيراً وخطيراً اذا اعتبرت "الانقاذ" ان لا فرصة للحوار الجدي وان عليها "منع دولة زروال من التقاط الانفاس". ويبدو انها تراهن ايضاً على توظيف التململ الشعبي المرشح للتصاعد اذا اختارت حكومة رضا مالك السير بشروط صندوق النقد الدولي، ما يعني دفع مئات الآلاف الى البطالة لينضموا الى جيش العاطلين عن العمل. لا يمر يوم جزائري بلا قتل. والهجمات تستهدف رجال الشرطة وعلمانيين ومثقفين وشيوعيين. وهناك حديث عن القتل المضاد. وأخطر ما في الوضع القائم هو بداية شعور الجزائري المرشح لأن يكون هدفاً بأن عليه ان يحمي نفسه. وهناك من يتخوف من اجواء تمهد لولادة ميليشيات في حال تراخي قبضة السلطة المركزية التي طالبت المواطنين بتسليم بنادق الصيد التي يقتنونها. معاقل المسلحين في غضون ذلك تستعد القوى المسلحة التابعة لپ"الانقاذ" وتلك التي انبثقت منها او "خرجت" على قيادتها لحرب طويلة. في جبل شريعه قرب البليدة وجبل بوزقزة قرب العاصمة وسلسلة جبال جيجل في الشرق وكذلك في جبال الونشريس يتحصن مسلحون يقدرون بعشرة آلاف. بعضهم ينزل ليلاً الى المدن والبلدات القريبة يتزودون الاغذية وينقلون الرسائل. وفي العاصمة الجزائرية حديث عن نجاح المسلحين في اقامة شبكة لتهريب الاسلحة عبر الحدود في موازاة شبكة مالية تتشكل من "التبرعات والمساعدات والمصادرات"، على حد قول احد مؤيدي السلطة. ويعتمد المسلحون اسلوب الهجمات المحدودة المفاجئة ويتفادون عادة المواجهات التي تسفر عن سقوط جرحى وأسرى. وتخاطب "الانقاذ" انصارها عبر نشرة سرية اسمها "منبر الجمعة" مهمتها نقل الاخبار، ونشرة اخرى اسمها "رسالة الاسبوع" وهي تحمل تحليلات وقراءات للوضع. وكذلك تزايد في الفترة الاخيرة استخدام "الفاكس". وتسمع احياناً في ضواحي العاصمة، في حوالي السادسة مساء نداءات من اذاعة "وفاء" تدعو الى تصعيد المواجهة مع السلطة. وتحتفظ "الانقاذ" بثقلها في الاحياء الشعبية المكتظة في العاصمة كالقصبة وباب الواد وبن جراح وواد شايح وغيرها لكنها فقدت تماماً مواقعها في المساجد وان كان الخطباء هناك يتابعون انتقاداتهم للفساد. وتتضارب المعلومات عن العلاقات بين المسلحين المنضوين في "الحركة الاسلامية المسلحة" بقيادة عبدالقادر شبوطي والمنضوين في "الجماعة الاسلامية المسلحة" بزعامة جعفر الافغاني. ويقدر عدد "الافغان" المشاركين في المواجهة بنحو ألف. الجزائر الى أين؟ في ظل هذه الصورة الى أين تتجه الجزائر؟ تختلف الاجابات باختلاف المواقع والقراءات والتمنيات ايضاً. ومن خلال الاجوبة يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات: الأول هو حصول المزيد من التدهور الاقتصادي والاجتماعي الى درجة الانفجار الشعبي ما يمكن ان يسهل لپ"الانقاذ" العودة الى الشارع بكثافة ووضع الجيش امام خيار صعب بين المواجهة الدامية مع حشود المتظاهرين او تسليم السلطة الى "الانقاذ" مع الاكتفاء بنوع من الضمانات للمؤسسة العسكرية وسيكون مثل هذا التغيير شبيهاً بما حصل في ايران طبعاً مع الالتفات الى الفروقات وهي ليست بسيطة. الثاني هو الاستمرار في عملية الاستنزاف مع تمكن مسلحي "الانقاذ" من انتزاع "مناطق محررة" يمكن ان تستقطب مسلحين متشددين من العالم العربي والاسلامي وبذلك تتحول الجزائر الى افغانستان عربية مع كل ما يمكن ان يعنيه ذلك من مخاطر على وحدة الجزائر واستقرار المنطقة وانعكاسات على الجاليات الجزائرية خصوصاً في فرنسا. ويمكن أي ضعف يصيب السلطة المركزية ان يوقظ في الوقت نفسه الحساسيات الجهوية. الثالث هو توازن قوى أو رعب بين "الانقاذ" والجيش الى درجة التسليم باستحالة الحل عن طريق القوة ما يفتح الباب الى تنازلات متبادلة مقدمة لنوع من التعايش بعد حصول المؤسسة العسكرية على ضمانات لها وكذلك في شأن السياسة الخارجية واحترام الدستور والتعددية. وهذا يعني تقاسم السلطة. استعادة التوازن والحل البديل الذي يراود بعضهم هو ان ترعى السلطة، استناداً الى مشروع، تحالفاً بين الاحزاب السياسية الفاعلة، وان تواجه "الانقاذ" في انتخابات جديدة. لكن شرط مثل هذا النجاح هو التمكن من لجم التدهور الاقتصادي المريع لخفض حال اليأس التي دفعت غالبية الناخبين في 1991 الى صفوف "الانقاذ" حتى ولو كان تأييد بعضهم لها "احتجاجاً على نهج جبهة التحرير اكثر مما هو تأييد لنهج جبهة الانقاذ". غير ان اجواء البلاد لا توحي بأن الاستقرار الضروري لوقف التدهور الاقتصادي يمكن توفيره من دون تسوية سياسية. لم يعد فشل النموذج الاقتصادي الذي قام بعد الاستقلال موضع جدل. ويرى الوزير والنائب السابق البروفسور عبدالعزيز زياري ان الحاجة ملحة الى خطوات اقتصادية حاسمة. ويضيف: "كان الاقتصاد ممركزاً وشبه اشتراكي. وهذا الاقتصاد فشل. القطاع العام لا يزال مسيطراً والحل متعذر على هذه الصورة. لا يمكن انعاش الاقتصاد من دون اعادة جدولة الديون وعلينا الرجوع الى قواعد السوق". ويلفت الى انه رغم الاعباء التي قد تفرضها اعادة الجدولة فان الجزائر تملك من الثروات البترول والغاز ما يؤهلها لاحتواء الموقف الصعب. حتى الآن يبدو واضحاً ان السلطة الجزائرية تملك القدرة على منع مسلحي "الانقاذ" من تحقيق انتصار واسع او السيطرة الكاملة على منطقة معينة لكن السلطة غير قادرة بالتأكيد على وقف مسلسل الهجمات. واذا كان وصول زروال يضمن تماسك الجيش الجزائري فان الضمان الفعلي على المدى الابعد هو في ان يقود الرئيس عملية البحث عن حل سياسي للأزمة. وتفيد السلطة، في معركتها مع المتشددين، من تعاطف عربي ودولي يتخوف من قيام "ايران عربية" أو "افغانستان عربية". وتفيد خصوصاً من تخوف اوروبا وفرنسا بالتحديد من طوفان المهاجرين الذي يمكن ان يحصل في حال استيلاء المتشددين على السلطة او توزع الأراضي الجزائرية على سلطتين واندلاع حرب اهلية واسعة. ويتردد في العاصمة ان عدداً من العرب "الافغان" بدأ بالتسلل الى معاقل الانقاذ في الجبال لكن هذه الروايات لا تزال تفتقر الى الادلة الملموسة. بن بيتور: المنشآت سليمة منع سيناريوهات الكارثة مرهون في جانب منه بمنع انهيار اقتصادي كامل قد يحصل لو تعذر الاستمرار في ضخ النفط والغاز وهما يشكلان 95 في المئة من الموارد من العملة الصعبة. وزير الطاقة الجزائري احمد بن بيتور رد على اسئلة "الوسط" في شأن تهديدات محتملة لمنشآت النفط وأوضاع الشركات العاملة، وقال: "كل التدابير اتخذت لتأمين المنشآت، والحمد لله حتى الآن لا شيء يذكر ولم تتعرض لتخريب. المتعاملون يتعاملون في صورة عادية وكل البرامج التي كانت قيد التنفيذ مستمرة. في ما يخص اسعار النفط سعت اوبك وكان هناك في أيلول الماضي اتفاق مرضٍ للجميع وقلنا انه يدوم ستة اشهر. ظروف السوق انعكست سلباً على اسعار البترول وترى اوبك ان تدعيم الاسعار مسؤولية مشتركة للمنتجين داخلها وخارجها. هناك تحركات لاشعار المنتجين خارج اوبك بضرورة التعاون مع الدول المنتجة من داخل المنظمة. وأعلنت دول الخليج انها مستعدة لخفض الانتاج الاجمالي في الوقت المناسب بالتعاون مع كل المنتجين". وأكد الوزير ان العمل مستمر في مشروع الغاز لاسبانيا عبر المغرب وكذلك مشروع زيادة طاقة الانبوب مع ايطاليا وان هناك مشاريع لاعادة هيكلة مصنع تمييع الغاز. وعن الانعكاسات المحتملة لعودة العراق الى السوق قال بن بيتور: "بالنسبة الى عودة العراق كانت اوبك اتفقت على ان تلتقي الدول الاعضاء بعد اعلان هذه العودة، لتنظر في الحصص الجديدة والظروف الجديدة". العدد الضروري مصادر غربية تعمل في ميدان الطاقة قالت ان الشركات خفضت عدد الاجانب العاملين لديها في الجزائر لكنها احتفظت بالعدد الضروري لضمان سير العمل. وأضافت انه لم يسجل حتى الآن انسحاب اي شركة من المشاريع الجاري تنفيذها وان شركات اميركية وفرنسية ويابانية وكندية تتابع العمل. وبالنسبة الى أي اتفاقات جديدة، اعترفت المصادر بأن بعض الشركات يتخذ موقفاً يقوم على الانتظار وعلى امل اتضاح الرؤية. وأشارت الى أن بعض المحادثات في شأن مشاريع جديدة يتأخر لأن وفود الشركات تؤخر قدومها الى الجزائر للأسباب المعروفة. وكشفت ان انخفاض اسعار النفط ألحق ضرراً فادحاً بالجزائر وخفض مداخيلها الى حوالي 10 بلايين دولار في 1993، في حين كانت كلفة خدمة الديون في حدود 9 بلايين دولار. يبقى ان مشكلة الجزائر لا تعني الجزائر وحدها. فللتغيير ثمن وللحرب الطويلة انعكاسات وكذلك بالنسبة الى أي تسوية تقوم على التعايش والمشاركة.