في الحلقة الثانية من ندوة مستقبل النظام الحزبي في مصر يتحدث وحيد عبد المجيد ورفعت السعيد عن تأثير المرحلة الناصرية على التعددية الحزبية وعن الديموقراطية التي لا تتجزأ. * "الوسط": تقودنا المناقشة السابقة للتساؤل عن أداء الاحزاب المصرية، ولماذا عجزت طوال 18 عاماً عن الوصول الى الشارع؟ - وحيد عبد المجيد: سأبدأ بملاحظات سريعة على بعض ما قيل، مما هو وثيق الصلة بموضوع فاعلية الاحزاب وتأثيرها في الشارع. هناك اتجاه عام الى تراجع نسبي لدور الحزب السياسي في الولاياتالمتحدة اساساً، وبدرجة اقل في اوروبا، لكن ليس بالقدر الذي يتصوره الكثيرون وليس سبب هذا هو التحول من التعبئة الى التنمية، او اختفاء "الكاريزما" السياسية. ففي اعتقادي ان هاتين ظاهرتان تتعلقان بأنظمة شمولية او سلطوية، وليس بأنظمة ديموقراطية تعددية. فالمفترض ان الاحزاب في النظام الديموقراطي لا تقوم على التعبئة في الاساس او في كل الاوقات، بقدر ما تقوم بتجميع المصالح والتعبير عنها. وليس هناك بديل كامل للأحزاب حتى الآن في أداء هذه الوظيفة، جماعات الضغط تقوم بها جزئياً، لكن ليس على حساب الاحزاب في معظم الاحوال، باستثناء نمط من الديموقراطية في بعض دول شمال أوروبا. وإذا نظرنا الى الخريطة السياسية في معظم الدول الديموقراطية الغربية، نجد ان جماعات المصالح تعمل في الغالب من خلال الاحزاب او ترتبط ببعض الاحزاب، فعلى سبيل المثال ترتبط النقابات العمالية بأحزاب اشتراكية، واتحادات اصحاب الاعمال باحزاب ليبرالية او محافظة. والملاحظ ان التراجع في دور الاحزاب يظهر في الحالة الاميركية اكثر من غيرها، ويقوم بعض الدارسين بتعميم هذه الحالة من دون مبرر في كثير من الاحوال. واسهم التطور الكبير في نظم الاتصالات بدور في ذلك، خصوصاً تنامي دور التلفزيون من خلال إساءة استخدامه في الاساس، لأنه من المحتم ان انتشار الاعلام المرئي بالصورة التي وصل اليها يأتي على حساب العمل الحزبي او يعطي معنى جديداً للعمل السياسي، وهذا ايضاً مرتبط بالحالة الاميركية اكثر من غيرها. وفي الحالة المصرية لا نستطيع القياس على ما يحدث في الدول الديموقراطية الكاملة، ليس بسبب التباين الحضاري الذي تحدث عنه الاستاذ عادل حسين، لقد اخذنا مفهوم الاحزاب والعمل الحزبي عن التجربة الغربية، والواضح ان الكثيرين جداً من اصحاب نظرية الخصوصية الحضارية ما زالوا يتحفظون عن التعدد الحزبي، او ينظرون اليه كمرحلة حتى يصلوا الى السلطة. وما يحدث في السودان دليل الى هذا، حيث يقول الدكتور حسن الترابي بشكل متكرر بعد انقلاب 1989 ان المجتمع السوداني لا يحتاج الى احزاب، وأنه يشهد تجربة متميزة وفيها خصوصية حضارية. لكنه قبل ذلك كان مع التعدد الحزبي طالما انه لم يكن في الحكم. فهنا مطلوب الانسجام في الرؤية، ولا احد يختلف على ان هناك تبايناً حضارياً. لكنني اختلف مع اقحام موضوع التباين الحضاري او الخصوصية الحضارية في موضوع الاحزاب، اي التعامل مع موضوع الاحزاب من منظور الخصوصية الحضارية والتباين الحضاري. فكما انك تريد تعدداً الآن لأنك تعارض الحكم في مصر، سيكون آخرون في حاجة اليه ليعبروا عن معارضتهم لك عندما تصل الى الحكم. صناعة التنظيم الواحد اما مشكلة النظام الحزبي في مصر فهي مشكلة معقدة جداً، ويدخل فيها ما اثاره ايضاً الدكتور مصطفى في شأن ضعف الكوادر السياسية بعد تجربة عبد الناصر. وفي اعتقادي ان تجربة عبد الناصر هي العامل الأكثر اهمية في ضعف الكوادر الحزبية نتيجة الغاء الحياة السياسية، والكوادر التي ظهرت في ظل تلك التجربة كانت من صناعة التنظيم الواحد ووفقاً لمتطلباته. * "الوسط": ماذا تقول إذن في تلك المناقشات الطويلة التي كانت تشهدها جلسات المؤتمر القومي في الاتحاد الاشتراكي وجلسات اللجنة المركزية والتي ظهرت فيها خلافات وصلت الى حد الصدام المباشر، مثلما حدث في عام 1968، وكيف تحول رجل مثل الشيخ عاشور الى اسطورة بسبب قدرته على معارضة رئيس الجمهورية علانية في امور عدة، والمعارضة شكل من اشكال السياسة العامة في مصر؟ - وحيد عبد المجيد: كان هناك نوعان من المعارضة: الاول داخل اطار التنظيم الواحد وسياسات الدولة، اي خلافات حول التفاصيل، والثاني من خارج ذلك الاطار وتعرض اصحابه للقمع ودفعوا ثمن معارضتهم غالياً. وما حدث عام 1968 كان في نهاية التجربة التي سقطت فعلياً عام 1967، مما فرض قدراً من التغير في الوقت الذي كانت الاسطورة انهارت. لكن في يقيني ان هذه التجربة هي العامل الرئيسي وراء ركود الحياة السياسية في مصر حتى الآن والعجز عن تعميق التحول الديموقراطي على مدى 18 سنة. لكن ليس هذا هو السبب الوحيد طبعاً، لأنه في اداء الاحزاب السياسية المصرية ايضاً ما يؤدي وما أدى حتى الآن الى العجز عن تجاوز الهامش الديموقراطي الذي اتيح منذ منتصف السبعينات. وليس من السهل القول بأنه لا يوجد تعدد حزبي حقيقي، كما قال الاستاذ محمود اباظة لكن المهم هو ان ندرك طبيعة التجربة المصرية، فنحن ازاء نوع جديد من الانظمة السياسية هو نمط التعددية المقيدة، او النظام التعددي المقيد. والمفترض ان هذا النظام انتقالي، ويقود تدريجياً اذا توافرت الشروط الى ديموقراطية حقيقية كاملة، لكن هذه الشروط لم تتوافر، وما ساهم في هذا ان القيود القانونية والتنظيمية كانت اكثر صرامة من ان تسمح بأن تمضي عملية التحول بشكل سلسل ومتصاعد في اتجاه تجاوز التعددية المقيدة الى تعددية حقيقية. ولم يكن هذا هو السبب الوحيد لأنه في اداء الاحزاب المصرية ما ادى الى هذا. والسؤال هنا هو: ما دور الاحزاب في مرحلة التعددية المقيدة؟ اذا قلنا ان دور الاحزاب في الديموقراطية الكاملة هو تجميع المصالح والتعبير عنها، ثم تجسيدها من خلال سياسات معينة عند الوصول الى الحكم، ففي الانظمة التعددية المقيدة، تؤدي الاحزاب جزءاً فقط من هذه الوظائف، وهو تجميع المصالح، والتعبير عنها عند مستوى معين من المفترض ان يزداد تدريجياً مع تقدم التجربة. لكن اذا لم تتقدم لا يزداد هذا المستوى، ويمكن ان ينخفض، نتيجة ان الناس تنصرف عن الاحزاب. ولكن في دور الاحزاب في الانظمة التعددية المقيدة جانب إضافي بالغ الاهمية يختلف عن دور الاحزاب في الانظمة الديموقراطية الكاملة، وهو السعي الى بلورة قواعد وأسس للعملية السياسية من خلال نوع من التراضي العام على طبيعة الدولة والمجتمع. ودورها ايضاً في هذا الاطار تأسيس تقاليد للحوار واحترام الآخر والتفاعل معه، والمساومة السياسية. وهذه شروط جوهرية من اجل تجاوز التعددية المقيدة الى تعددية كاملة، اضافة الى مسألة التحول الى اقتصاد السوق، فلا يمكن ان يحدث تحول الى تعددية حقيقية كاملة من دون اقتصاد حر. اما الجانب الخاص باداء الاحزاب فيتركز في تهيئة الظروف لهذا التحول، من خلال بلورة قواعد للعملية السياسية وتأسيس تقاليد الحوار، ولكي يتحقق هذا ينبغي ان يتوافر الالتزام بالديموقراطية لدى معظم الاحزاب السياسية ان لم يكن جميعها. ما حدث في التجربة المصرية انه بقيت حتى الآن شكوك في التزام معظم الاحزاب السياسية التزاماً حقيقياً بالديموقراطية وبالتالي تصبح طريقة تصرف هذا الحزب او ذاك غير معروفة ناهيك عن التيار الاصولي، في حالة الوصول الى السلطة. فلم يستطع معظم الاحزاب تجاوز النسق المغلق المرتبط برؤى فكرية وايديولوجيات معينة لا تنسجم انسجاماً حقيقياً مع الديموقراطية. - عادل حسين: أريد امثلة محددة لا كلاماً مرسلاً. - وحيد عبد المجيد: اعطيك امثلة، وقد كتبت هذا مراراً، فمثلاً في المؤتمر العام الاخير لحزب العمل تم تحاشي الاشارة الى تعبير الديموقراطية، ولكن الاتجاه الغالب يميل الى ان هذا التعبير مستورد. - عادل حسين: لا اذكر، لكن هل المسألة مجرد تعبير؟ - وحيد عبدالمجيد: عندما يحدث هذا في حزب لديه نسق فكري معين، ومواقف سياسية مؤيدة لتجارب معادية للديموقراطية، تتكون صورة معينة تثير القلق. وعندما نجد الاستاذ عادل حسين يؤيد كل يوم ما يحدث في السودان ويعتبره نموذجاً ينبغي الاقتداء به، ينبغي التساؤل عن حقيقة التزام حزب العمل الديموقراطية، فهناك علاقة وثيقة بين مفردات الخطاب الحزبي والموقف السياسي، اذن لا بد من الاعتراف بأن لدينا مشكلة حقيقية في شأن التزام معظم الاحزاب المصرية الديموقراطية. ولدينا ايضاً اضطراب في مدلول مفهوم الغالبية. فمفهوم الغالبية في النظام الديموقراطي لا يعني حصول الحزب او الاحزاب التي حازت على الغالبية على تفويض مطلق كامل. بل يعني تفويضاً محدداً جزئياً ونسبياً، لا يتيح للحاصل على الغالبية ان يغير اسس الحياة السياسية بكاملها او يغير مقومات الدولة والمجتمع بمفرده حتى لو حصل على 90 في المئة. المدلول الشائع في الحياة السياسية المصرية لمفهوم الغالبية ان من يحصل على الاغلبية يصبح من حقه التصرف بشكل مطلق والغاء غيره. الديموقراطية الداخلية وما يصدر عن معظم الاحزاب السياسية او من يعبرون عنها يفيد بأن هناك مدلولاً مطلقاً لمفهوم الغالبية، بعكس مدلوله في النظام الديموقراطي، وهذا ايضاً يثير المخاوف مما يمكن ان يترتب على تحقيق قفزة كبيرة في اتجاه ديموقراطية حقيقية من دون الاتفاق على قواعد محددة يتم التراضي عليها من خلال حوار عام ويلتزم الجميع احترامها، ولا يكون من حق اي طرف منفرداً ان يغير فيها. واعتقد انه من الصعب جداً ان نتقدم في اتجاه تجاوز التعددية المقيدة من دون حوار حقيقي. * "الوسط": دعا الحزب الوطني بالفعل الى حوار من هذا القبيل، ولكن فكرة المقاطعة بهدف تسجيل المواقف حالت دون ان تقوم الاحزاب بدورها في هذا الحوار بغية الوصول الى نقاط يتفق عليها؟ - وحيد عبدالمجيد: هذا صحيح جزئياً لكن في الجزء الآخر لم يكن هذا الحوار مصمماً من منظور التراضي على اسس ومقومات للعملية السياسية برمتها، وانما كان مصمماً لمناقشة نقاط محدودة ذات طابع تفصيلي. ولا تعني مناقشة اسس ومقومات العملية السياسية الانتقال غدا الى تعددية كاملة، وانما يمكن ان يتم الاتفاق في اطار هذا الحوار على مرحلة انتقالية يتم خلالها التطور تدريجياً ومن المشكلات المتعلقة باداء الاحزاب ايضاً في هذا المجال والتي كانت موضع مناقشة الآن، مسألة التحالفات السياسية. يقينا التحالفات ظاهرة صحية عندما تحدث في اطار نظام حزبي متبلور ومتماسك. لكن تحالف حزب الوفد ثم حزب العمل مع "الاخوان"، اضر بامكان تطوير النظام الحزبي، لأنه جعل "الاخوان" يشعرون بأنهم ليسوا في حاجة الى التجديد وتطوير افكارهم ومواقفهم فيما يتعلق بالمسألة الديموقراطية، حتى يصبحوا طرفاً في العملية السياسية. وفي ظني انه كان من الافضل ان يُترك "الاخوان" ليحاولوا تشكيل حزب سياسي والحصول على المشروعية بدل التحايل على القواعد المنظمة للعملية السياسية. فربما اصبح النظام الحزبي المصري في حال افضل، لو ان "الاخوان" طوروا موقفهم من المسألة الديموقراطية وبادروا الى تشكيل حزب سياسي وحاولوا الحصول على المشروعية بدل اللجوء الى الابواب الخلفية، وهو ما دعم التيارات الاكثر محافظة وتقليدية في جماعة "الاخوان"، وكرس الجمود في موقفهم من المسألتين الحزبية والديموقراطية بشكل عام، وكان من الافضل ان يتركوا ليواجهوا الواقع، لأن هذا هو السبيل لدفعهم الى تغيير وتطوير انفسهم ليصبحوا اكثر انسجاماً مع العملية الديموقراطية وبالتالي يمكن لهم الانضمام الى النظام الحزبي، ما يساعد الى تبلوره بشكل متماسك. النقطة الاخيرة في ما يتعلق ايضاً بأداء الاحزاب، والتي اثيرت في المناقشة، هي مسألة الديموقراطية الداخلية. واعتقد بصواب ما قاله محمود اباظة في شأن اختلاف طبيعة الديموقراطية داخل الاحزاب عنها في النظام السياسي، فمن الصعب نقل صورة النظام السياسي الديموقراطي الى داخل الحزب السياسي، لأننا بالفعل ازاء نوعين مختلفين من التنظيم، فهناك تنظيم اختياري، وهو التنظيم الحزبي الذي تستطيع ان تنسحب منه، وهناك تنظيم قسري وهو الدولة، لا يمكن الانسحاب منه الا لأفراد قليلين هم الذين يستطيعون الهجرة. وهذا الاختلاف يجعل هناك مستويين مختلفين من الممارسة الديموقراطية. وعندما اجد ان الممارسات داخل حزب الوفد لا تلائمني استطيع ان انضم الى حزب آخر، أو أنشئ حزباً جديداً، لكن عندما أجد الممارسات في اطار النظام السياسي لا تتيح لي التعبير عن نفسي لا استطيع ان افعل شيئاً آخر. والاحزاب في العالم كله، بما فيها الاحزاب في الدولة الديموقراطية الكاملة، لديها سقف منخفض للممارسات الديموقراطية، ونستطيع ان نلاحظ ان زعيم اي حزب في اي من هذه البلاد لا يتعرض داخل حزبه الا لقدر يسير جداً من الانتقادات والمساءلات التي يتعرض لها عندما يتولى الحكم كرئيس دولة او كرئيس حكومة، وعادة ما تكون في الاحزاب اولوية للحفاظ على التماسك الحزبي نتيجة ضراوة التنافس بين الاحزاب وبالتالي يصبح مستوى الممارسة الديموقراطية اقل، وطابعها ايضاً مختلف عنها في اطار النظام السياسي. ونستطيع ان نلاحظ ما يحدث في مؤتمرات الاحزاب البريطانية التي تعتبر الأعلى مستوى في ما يتعلق بالممارسة الديموقراطية بين احزاب العالم ومع ذلك نجد ان المؤتمر العام للحزب هو في الاساس ساحة لإظهار وحدة الحزب وراء قيادته. وسنجد ان التصفيق يتغلب على المناقشة النقدية. ومشكلة الاحزاب المصرية ليست في الديموقراطية داخلها بهذا المعنى. وانما مشكلتها هي في طبيعة النخبة التي تقودها، ففاعلية الاحزاب لا تتوقف في الاساس على الممارسة الديموقراطية داخلها بمعنى العلاقة بين المستويات التنظيمية المختلفة، بقدر ما تتوقف على المستوى القيادي في الحزب، ومدى قدرته على حل خلافاته، يعني نادراً ما تحدث ازمة داخل حزب من الاحزاب بسبب ان المستويات القاعدية فيه تثور على قيادتها، فالأزمات تحدث عادة بسبب العراك بين قادة الحزب عندما يعجزون عن حل خلافاتهم بشكل متحضر، وليس بالضرورة ديموقراطية. - رفعت السعيد: ابدأ ايضاً بتسجيل بعض ملاحظات اولية. الملاحظة الاولى ان الترويج لفكرة ان الاحزاب يذبل دورها هي فكرة غير صحيحة واقعياً ونظرياً ويمكن استخدامها ايضاً لدعوة الشعب الى الانسحاب من الحياة العامة. فهل المطلوب من المواطن ان يذهب للتصويت لشخص، ام ان يقاتل من اجل تجميع القوى لتغيير مسار الحياة السياسية، نحو التوجه الذي يراه؟ ان فكرة الانتماء الحزبي في مصر، مع استثناءات محددة سأذكرها الآن، لم تكن محترمة، بمعنى ان القفز من حزب الى نقيضه كان امراً طبيعياً في الحياة السياسية المصرية، الاعتذار عنه: لكن الحياة السياسية المصرية شهدت ثلاثة جيوب خلت من فكرة "البوليتيكا" اي القفز من نقيض الى نقيض، وهي الاخوان المسلمين ومصر الفتاة والشيوعيون. والملاحظة الثانية انه عندما جاءت ثورة يوليو 1952 ارهقت نفسها كثيراً في تدمير البنية الفكرية للحياة الحزبية، ابتداء من السياسيين الى الصحافيين الذين يتحدثون الآن بفصاحة شديدة عن اهمية الديموقراطية والحياة الحزبية، مثل الاستاذ مصطفى امين، رغم انهم اسهموا بكفاءة منقطعة النظير في تدمير سمعة الاحزاب السابقة وتدمير فكرة الحياة الحزبية تمهيداً لفكرة الحزب الواحد، ثم أتت فكرة الحزب الواحد لتحشد جماهير غير منصتة. ومن هنا أنا أرد على القول بأن عبد الناصر فتح حوارات. لقد كانت الجماهير تحتشد وتسمع من دون انصات، والويل لمن ينصت فيفكر فيعترض... حيث لا مستقبل سياسياً له. بعد ذلك جاءت التعددية المقيدة، ومن هنا يصعب القول بأن الشعب المصري استمتع بحياة سياسية حزبية ذات تراث يمكن له ان يفرز ببساطة حالة من الاستقرار الحزبي. ومن ناحية اخرى، نحن نعاني الآن من حالة اسمها المهرب الفردي، كنقيض للحل الاجتماعي، وكل مواطن في مصر يحل مشكلته بطريقة او بأخرى... المدرس ذو الاجر القليل يعطي دروساً خصوصية. والعامل الفقير يشتغل مرتين، وخريج الجامعة يبحث عن عمل في بلد آخر. فاذا كان الانسان يستطيع حل مشكلته بمجهود مضاعف او بسفر للخارج او حتى بأساليب غير مشروعة، فلماذا ينتظر حتى ينضم الى حزب، ويدخل حزبه الانتخابات فتزورها الحكومة. وهذا يؤدي الى تباعد الكثيرين عن العمل السياسي والحزبي. وأنا عندي احصاء يبدو طريفاً. كان عدد اعضاء المؤتمر العام الثاني لحزب التجمع حوالي 700 شخص، وعندما كنا نستعد للمؤتمر الثالث، اكتشفنا ان 10 في المئة من هؤلاء سافروا للعمل في الخارج، وان 22 في المئة من المتبقين يعملون مرتين - مواطن يخرج من بيته الى المصنع في السادسة صباحاً، وينصرف منه في الثالثة ظهراً ليذهب للعمل في ورشة حتى منتصف الليل، فكيف اتوقع منه ان يعمل في السياسة. فليس صحيحاً إذن ما يتوقعه البعض من ان الضغط الاجتماعي قد يؤدي الى افراز حياة حزبية نشطة بالعكس انه يستهلك المواطن ويجعل الحياة الحزبية ضعيفة. والنقطة الثالثة هي ان الديموقراطية لا تُقتسم. فالقسم الذي ينحاز الى السلطة مؤهل لأن يزداد، وليس العكس. الحوار والمصلحة الوطنية * "الوسط": على اي اساس تبني هذا الافتراض؟ - رفعت السعيد: بناء على كون السلطة ستزيد باستمرار من تحكمها في القسم الآخر، لأنه كلما دخلت السلطة في مأزق، ستضطر ان تأخذ مما يحوزه القسم الآخر. فما لم تكن هناك ديموقراطية كاملة، ستكون لدى السلطة امكانات لافتراس القسم الآخر. انها قضية غير قابلة للتجزئة وصعب جداً ان نتخيل الفكرة التي يطرحها الدكتور وحيد، وهي الديموقراطية التدريجية، مثلما يطرحه من افكار تبدو مثيرة للدهشة، كمطالبته بأن نسعى الى التراضي العام، مع من؟ ولماذا؟ ولأي مصلحة؟ ثم نسعى الى الحوار: مع من ولماذا؟ لقد تحورنا، فأين نتائج الحوار. والدولة تقول انها ستنفذ من نتائج الحوار ما يتفق مع المصلحة الوطنية. طالما لم تستقر فكرة تداول السلطة فلا ديموقراطية حقيقية، واذا كان الوصول الى السلطة محرماً علينا، فما جدوى الانتخابات. كما ان هذا يقود الى حالة من افتقاد الديموقراطية، فهناك فرق بين حاكم يعرف ومتيقن انه بعد فترة من الزمن سيصبح مواطناً عادياً، ويستطيع اي مواطن ان يذهب اليه ويسأله، لماذا فعلت كذا ولماذا لم تفعل كذا، ويمكن ان يساءل قانونياً، وبين حاكم يدرك ان احداً لن يستطيع محاسبته. اذن افتقاد تداول السلطة يؤدي الى ان الذين يشتركون في الحياة السياسية وفي الحياة الحزبية يراهنون على المستقبل البعيد، ويلعبون دوراً تاريخياً من اجل ابنائهم وأحفادهم وربما ابناء احفادهم، طالما ان تداول السلطة غير مُقر وغير ممكن. * "الوسط": غير مقر بأي معنى؟ - رفعت السعيد: بمعنى انه مستحيل طبقاً لارادة السلطة نفسها، وطبقاً لتحكمها في الحياة السياسية. * "الوسط": أم طبقاً لارادة الناخب؟ - رفعت السعيد: الناخب تصادر ارادته والجميع يعرفون ذلك، ولا يمكن ان يجادل فيه احد. * "الوسط": اننا بصدد الحديث عن ما يمكن اثباته؟ - رفعت السعيد: ما اقوله ثابت. لقد تقدمت الى لجنة الحوار الوطني في مصر بوثيقة هي دراسة حالة لجدول الناخبين في دائرة الدرب الاحمر بالقاهرة، واكتشفنا ان هناك 500 شخص من العينة التي اخذناها مقيدون اربع مرات او ثلاث مرات في لجان مختلفة في الدائرة نفسها وهذا الشخص بالذات يأخذ ثلاث بطاقات انتخابية لينتخب مرشحاً محدداً هو ممثل الحزب الوطني، وهذه الاوضاع طبعاً تفسد العملية الانتخابية من جذورها. كما اكتشفنا ان هناك 300 رجل شرطة عاملين حالياً مقيدون في جداول الانتخابات وشاركوا في الانتخابات الاخيرة. واكتشفنا ان هناك 50 شخصاً مقيدون في منزل عنوانه "50 ش القلعة" وذهبنا الى هذا المنزل فلم نجد احداً من هذه الاسماء على الاطلاق. اذن هي اسماء وهمية مقيدة ويذهب اشخاص للتصويت بها. كما اكتشفنا ان آلافاً من الموتى مقيدون وانتخبوا. * "الوسط": هل تؤدي مثل هذه المخالفات الى ان حزباً كالتجمع لا يحصل الا على اربعة مقاعد او ثلاثة مقاعد في النهاية؟ - رفعت السعيد: بالقطع تؤدي، لأن النائب الذي نجح في دائرة الدرب الاحمر ضد مرشح حزب التجمع لم يحصل على اكثر من 1700 صوت. واذا كان لديه 500 صوت تتكرر ثلاث مرات قُضي الامر. فاذا اضفت الى هذا كله تدخل رجال الشرطة وتدخل المحافظين، فماذا يبقى؟ والدكتور وحيد يقول ان الاحزاب مهمتها ان تكون مجمعة للمصالح. اية مصالح، المصالح كلها محتكرة، وهناك ايضاً حرمان الاحزاب من الحركة الجماهيرية. كيف اصل الى الجماهير، هل عبر التلفزيون؟ ممنوع. الدكتور مصطفى يقول ان التلفزيون هو الاداة التي تؤثر في الجماهير. انا ممنوع من التلفزيون وممنوع من الاذاعة. كما ان الحزب ممنوع بحكم القانون من الوجود في الجامعة، وفي المصانع، وفي المصالح الحكومية، اذن أين ينشط؟ يقال في الاحياء. وهذا كان صالحاً في زمن مضى عندما كان كل مواطن يعرف جيرانه في الحي. اما الآن فلا يعرف الانسان جيرانه في البناية التي يسكنها. اذن حركة الاحزاب مقيدة، وهي محرومة من حق التظاهر ومن عقد الاجتماعات الجماهيرية. لقد اعتقل احد اعضاء حزب التجمع لأن وزع على عمال الحديد والصلب - وهو عضو اللجنة النقابية - بياناً يهنئهم فيه بزيادة الانتاج. اذن هناك تقييد لحركة الحياة الحزبية بما يدفعها الى القزمية التي تؤدي في النهاية الى نتائج رديئة جداً، والى ما نشكو منه الآن. انها تؤدي الى سعي البعض الى الاستقواء ايديولوجيا بأفكاره، والبعض يقيم تحالفات مع قوى اخرى، والبعض يستقوي بقوى خارجية، وتصبح الحياة السياسية في وضع صعب جداً ولا يمكن ان تحسد عليه. وقد اشار الدكتور وحيد الى اهمية اقتصاد السوق، لكنه ينسى اننا في نسق خاص من الانظمة، نسعى الى ليبرالية الاقتصاد وشمولية او شبه شمولية السياسة، وهنا العقدة الحقيقية. كما أشار الدكتور مصطفى الى عدم الحاجة الى وسيط: لكن الحزب ليس وسيطاً، الحزب اداة حكم او قوة تسعى الى الحكم وليس وسيطاً، ولو نظرنا الى الحزب على انه وسيط، فهذه هي النظرة التي تقود الى ان الاحزاب فقدت مبرر وجودها. لكننا ننظر الى الاحزاب على انها ادوات لتعبئة الجماهير لتحقيق ارادتها، والسعي للوصول الى السلطة، على رغم انف القوى المسيطرة اقتصادياً. والاستاذ محمود اباظة قال انه لا توجد تعددية. لا بالطبع لدينا تعددية، ولا يصح ان ننكر وجودنا. نحن موجودون ونفرض انفسنا وسنظل كذلك. الحزب الوحيد المتسق في موقفه من الديموقراطية هو الحزب الوطني. فهو يحكم بلا ديموقراطية. وينظم نفسه بلا ديموقراطية. الديموقراطية ضرورية * "الوسط": هل نفهم من هذا ان حزب التجمع غير متسق تجاه نفسه في ما يتعلق بمسار الديموقراطية؟ - رفعت السعيد: لا. لقد تكلم الاستاذ محمود أباظة عن الفرق بين الحزب والحكم. لكننا لدينا تجربة في حزب التجمع. فعندما توجد "كاريزما" داخل الحزب، تحدث حالة من الانسياق العام. وعلى القيادة الحزبية ان ترفض هذا الانسياق العام، وتواجهه، وإلا سيظل الحزب في هذه الدوامة، وهذا الخطر وارد في حزب الوفد، لأن لائحته الداخلية وضعت على مقاس الاستاذ فؤاد سراج الدين، لكن سيأتي بعده شخص لا يملك الكاريزما ذاتها، وبالتالي لا يملك النفوذ نفسه على قواعد الحزب، وبالتالي يمكن ان يتفجر الحزب. اذن ماذا فعل حزب التجمع ليواجه هذه الحالة؟ اتخذ قراراً ملزماً لقيادته وقواعده، وتم تعديل لائحته في مؤتمره العام الثالث، بحيث لا يجوز لأي مسؤول في اي مستوى ان يبقى في موقعه اكثر من دورتين متتاليتين... فاذا عاش رفعت السعيد خمس سنوات اخرى يتعين عليه ان يترك موقع الامين العام، وإن عاش خالد محيي الدين خمس سنوات يتعين عليه ان يترك موقع رئيس الحزب بحكم اللائحة، لكي يستعد الحزب باستمرار لتغيير قيادته كل دورتين انتخابيتين. كذلك عدلنا قواعد الديموقراطية الحزبية عندنا، بحيث ان الغالبية لا تحصل على كل شيء كما قال الدكتور وحيد. فالنص اللائحي عندنا يحتم ان تمثل الاقلية في المستوى القيادي. ومع ذلك هناك بعض الاخطاء التي يجب ان نعترف بها. التحالفات يجب ان تكون مبدئية ومن هنا انا اعتقد ان حزب الوفد اخطأ في تحالفه مع الاخوان تحالفاً انتخابياً، وان حزب العمل أخطأ في تحالفه مع الاخوان تحالفاً انتخابياً، وان حزب العمل أخطأ في تحالفه مع الاخوان تحالفاً دائماً أبدياً. لقد حدث قدر كبير جداً من الامتزاج الفكري والتنظيمي بحيث اننا لا نعرف احياناً من يمثل "الاخوان" ومن يمثل حزب العمل، فقد اندمج الطرفان اكثر مما يجب. وهذا ليس في مصلحة الحياة الحزبية، لأنه يُفقد الحزب خصوصيته ويُفقد الجماهير ثقتها في الحزب عندما تنظر اليه على انه ستار لحزب آخر. اذن التمايز مع التحالف مسألة اساسية. ومما يضر الحياة الحزبية ايضاً هو عدم الاتساق في رفع الشعارات فعندما وقفت في مؤتمر الحوار الوطني اتكلم عن الديموقراطية، وقف واحد من الحزب الوطني يقول، وهل الماركسية الآن تعرف ديموقراطية. كانت مخطئة قبل ذلك، لكنها الآن تقر وتعترف بأن الديموقراطية ضرورية. لكن هناك عدم اتساق، عندما يدافع حزب دفاعاً حماسياً عن الاوضاع في السودان، حيث لا توجد ديموقراطية، ولا نقابات، ولا احزاب ثم يتكلم هنا عن ضرورة تعزيز الحياة الحزبية، في هذه الحالة ينظر الناس لنا كما لو كنا بائعي كلام. وأخيراً فكرة التدرج في الديموقراطية يا دكتور وحيد فكرة رومانسية، معناها ان الحاكم يريد الديموقراطية لكنه لا يعتقد ان الاولاد يستحقونها كاملة، فيعطيها لهم جرعة جرعة. لكن الفكرة التي اعتقد بأنها واقعية، هي ان الحاكم تحت ضغوط محلية واقليمية وعالمية اضطر لأن يعطي مساحة من الديموقراطية. لكن ايضاً نتيجة لظروف محلية، هو عاجز عن ان يعطي مساحة كاملة. الاسبوع المقبل: الحلقة الثالثة المشاركون مصطفى الفقي - مدير المعهد الديبلوماسي. محمود اباظة - رئيس لجنة الشباب في حزب الوفد. عادل حسين - امين عام حزب العمل. عبدا المنعم سعيد - مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية والمشرف على التقرير الاستراتيجي في الاهرام. رفعت السعيد - الامين العام المساعد لحزب التجمع. صلاح عبد المتعال - عضو المكتب السياسي لحزب العمل.