ما لم تحصل مفاجأة ما، فإن الحكومة اللبنانية التي خسرت حتى الآن جولة قد تخسر الحرب بكاملها، وهي الحرب التي أشعلها مشروع ربط الموازنة العامة للبلاد للعام المقبل، بالخطة العشرية لتحديث البنية الاساسية وتنمية الاقتصاد الوطني، وتزيد أكلافها على 11 مليار دولار. اما الجولة الاولى التي خسرتها الحكومة فتتمثل في القرار الذي اتخذته لجنة المال النيابية بفصل مشروع الموازنة العامة عن مشروع الخطة العشرية. كما تمثلت الخسارة بالعريضة التي نجح المعارضون في الحصول على توقيع 66 نائباً من أصل 120 نائباً مجموع اعضاء المجلس عليها للفصل بين المشروعين، ما اعتبر في "البازار" السياسي اللبناني رجحاناً لكفة المعارضة على حساب الثقل النيابي الذي كان الرئيس رفيق الحريري يعتقد بأنه يمثله، ثم تبين انه ثقل متحرك، من الصعب الامساك به، او الاتكال عليه بصورة مطلقة. وتركز المعارضة هجومها استناداً الى مجموعة اعتبارات ابرزها الاعتبار الدستوري والقانوني الذي يقول بعدم دستورية الجمع بين مشروع الموازنة العامة للبلاد، وهي مجموع النفقات والواردات لسنة واحدة، وبين خطط للاتفاق الطويل المدى الذي يتجاوز مهلة السنة، على غرار ما تضمنه مشروع الخطة العشرية التي توزع النفقات على مدى 10 سنوات. وانبرى وزير الشؤون المالية فؤاد السنيورة الذي ينظر اليه على انه المهندس الاساسي للسياسة المالية في لبنان حالياً الى الدفاع عن الربط بين المشروعين عن طريق العودة الى حالات مماثلة سبق لحكومات اخرى ان طبقتها منذ الستينات، كما تحرك قانونيون قريبون من الحكومة للبحث في "فذلكة" جديدة، لما سماه النائب السابق والقانوني المعروف الدكتور حسن الرفاعي "مجرد هرطقة مالية ودستورية". الا ان صوت السنيورة استمر خافتاً في موازاة الضجة الواسعة التي احدثها اخصام الحريري، الى الحد الذي دفع الى التساؤل اذا كانت الحملة تستهدف مشروع الربط بين الموازنة والخطة العشرية، أم انها تستهدف رئيس الحكومة نفسه، وتصفية الحسابات القديمة. اما الاعتبار الثاني الذي ركزت عليه المعارضة بفرسانها المستجدين والقدماء، فهو اغراق للبنان في دوامة الديون الخارجية، وكانت الخطة العشرية اقترحت السماح للحكومة باقتراض ما يصل الى 15 في المئة من اجمالي اكلاف الخطة البالغة 11.3 مليار دولار، اي ما يوازي 1.700 مليار دولار، عن طريق قروض تجارية، او طرح سندات خزينة بالدولار، على غرار الاكتتاب الاخير ب400 مليون دولار لتمويل مشروع انماء ضواحي بيروت واعادة المهجرين، خصوصاً لجهة كلفة الفوائد التي سيتحملها لبنان، وتصل الى 10.60 في المئة سنوياً. وعندما ردت الحكومة بأن الاقتراض من السوق المالية الدولية سيكون لتمويل مشاريع منتجة، مثل مشاريع الكهرباء والمياه والاتصالات والتعليم والانماء الصناعي والزراعي وليس لأغراض استهلاكية، طرحت المعارضة قضية سداد هذه الديون والمصادر التي يمكن للبنان ان يتكل عليها، وما اذا كان المطلوب الاستدانة من الخارج للانفاق على مشاريع لا تحظى بالأولوية المطلقة، ويمكن تأجيلها اضافة الى الملاحظات حول الطرق التي تعتمدها الحكومة، في عمليات الانفاق، والتعاقد على تنفيذ المشاريع المقررة. وكان مشروع انشاء مطار يتسع لحوالي 6 ملايين راكب، ومشاريع الطرق السريعة وانشاء قصر للضيافة أثارت تساؤلات عما اذا كان لبنان يحتاج فعلاً مثل هذه المشاريع التي ستزيد تكاليفها الفعلية على 2.5 مليار دولار. وتحظى التقديرات التي اعدتها وزارة المال في شأن التمويل من فائض الموازنة ومن المساعدات الخارجية بانتقادات واسعة. ويقول المعارضون ان الرئيس الحريري أخطأ في موضوع فائض الموازنة او المساعدات من الخارج، مرتين: الاولى عندما توقع وزير ماليته ان ينتهي عجز الموازنة اعتباراً من العام 1996 ليبدأ تحقيق الفائض لتمويل المشاريع وسداد الديون، ثم تبين ان العجز لا زال عند مستويات عليا من الصعب توقع الغائه في العام 1998. أما الخطأ الثاني الذي يقول المعارضون ان الرئيس الحريري وقع فيه، فهو عندما تحدث مع بداية تعيينه رئيساً للحكومة عن مساعدات وقروض ميسرة سيحصل عليها لبنان من الخارج، ثم تبين ان ما حصلت عليه الحكومة كان اقل بكثير مما توقعه رئيسها. القريبون من الرئيس الحريري يعترفون بصحة بعض هذه الوقائع على الاقل، على رغم انهم يعزونها الى المتغيرات الاقتصادية والمالية في الدول التي كان من المقدر ان تساعد لبنان، والى الظروف الاجتماعية والمعيشية التي نشأت في البلاد، ما دفع الوزير السنيورة الى الكلام على ضرورة الموازنة بين موازنة عامة للدولة والامكانات المتوافرة للبنانيين، في اشارة غير مباشرة الى المصاعب التي ستنتج عن فرض ضرائب اضافية. مع ذلك فإن ثمة تفسيراً آخر لعملية "شد الحبال" حول موضوع ربط مشروع الخطة العشرية بمشروع الموازنة. ويتساءل القريبون من الحريري، عما اذا كان المطلوب في الاساس رأس الحكومة، او على الاصح رأس رئيسها. ويقول هؤلاء ان معارضي مشروع الربط هم انفسهم معارضو مشاريع اخرى، مثل مشروع الاصلاح الاداري، ومشروع إعمار الوسط التجاري، ومشروع تطوير مطار بيروت، الى مشاريع الاصلاح الاداري، ومشروع اعمار الوسط التجاري، ومشاريع تطوير الهاتف والكهرباء والمطار... وكان الرئيس الحريري نفسه أبلغ "سعاة الخير" استعداده للتجاوب مع جميع الملاحظات، لكن من دون ان يؤدي هذا التجاوب الى نسف موضوع الخطة العشرية، والمتفائلون يتكلون على مفاجأة ما، قد تكون قبل كل شيء عودة "الحرارة" بين قريطم حيث يقيم رئيس الحكومة، وبربور حيث يقيم رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يملك اكبر قاعدة انتخابية في مجلس النواب، ما يمكن ان يفتح الباب امام تسوية ما يقبلها الحريري ولا تحرج بري.