كانت الأنظار متجهة الى محاولات الحوار بين السلطة الجزائرية و"الجبهة الاسلامية للانقاذ" حين عاد ملف البربر الى واجهة الاهتمامات خصوصاً وانه يصعب فصله عن التجاذب الدائر حول مستقبل الجزائر. هذه التطورات جعلت السلطة تتحرك على محورين: معالجة غضبة البربر من جهة ومتابعة شروط الحوار وتكاليفه من جهة اخرى. وشهدت الأيام الأخيرة من شهر ايلول سبتمبر الماضي تصعيداً للتوتر في منطقة القبائل بجاية - تيزي وزو، عقب خطف المغني والمناضل البربري معطوب الوناس. وجاء هذا الخطف في أجواء شديدة الانفعال اثر اسبوعين من الغليان المحلّي بسبب مقاطعة العودة الى الدراسة وبسبب الاضرابات والمسيرات المطالبة باعتبار اللغة البربرية لغة وطنية ورسمية… والشروع الفوري في تعليمها في المدارس الابتدائية. يبلغ المغني المخطوف 38 سنة وشهرته محصورة أساساً في منطقة القبائل الكبرى تيزي وزو عكس مغنين آخرين استطاعوا تجاوز نطاقهم الاقليمي الضيق… ويرجع ذلك أساساً الى لهجة أغانيه النضالية الحادة وتطرف كلماتها أحياناً في انتقاد العروبة. وفي حديث صحافي له نشر حديثاً تعرض المغني المذكور لبعض الرموز الدينية. وقد أصدر أصدقاء سعيد سعدي في "الحركة الثقافية البربرية" انذاراً شديد اللهجة يحمل تهديداً بشن "حرب شاملة" ضد الجهات التي تقف وراء الخاطفين. وعلى رغم محدودية تمثيل سعيد سعدي للمنطقة البربرية فان هذا التهديد أثار المخاوف خصوصاً وان سعدي نفسه كان قد دعا في وقت سابق الى انشاء نوع من "الميليشيات". يضاف الى ذلك ان سلسلة من الصدامات وقعت في الأسابيع الماضية في عدد من القرى البربرية بين السكان وعناصر مسلحة اسلامية. وفي مساء اليوم نفسه أصدرت قيادة جبهة القوى الاشتراكية أهم حزب بربري بياناً دعت فيه اتباعها في المنطقة الى "مواصلة التعبئة لكن بالطرق السلمية تجنباً للانزلاق نحو أهداف لا علاقة لها بالنضال من اجل الاعتراف باللغة البربرية". وكان رئيس الحكومة مقداد سيفي قد أعلن امام المجلس الاجتماعي والاقتصادي مخاطباً "الحركة الثقافية البربرية" "ان الرسالة قد وصلت"! معلناً في الاجتماع نفسه عن تشكيل لجنة وطنية مكلفة "دراسة كيفية تعليم الأمازيغية البربرية في المدرسة". وفي الاتجاه نفسه جاء تصريح وزير التربية عشية الدخول المدرسي في العاشر من ايلول سبتمبر الماضي. وفي حديث مع وزير الثقافة السيد سليمان الشيخ سألت صحيفة "ليبرتي" - لسان حال جماعة سعيد سعدي - الوزير رأيه في مطالب "الحركة الثقافية البربرية" فأجاب باختصار: "ان المشكلة وطنية، وهي تحتاج الى استشارة وطنية واسعة. ان حل هذه المشكلة ممكن بفضل التشاور الواسع والارادة المشتركة للعمل في سبيل الوحدة الوطنية ومصلحة البلاد. "ان الحكومة عازمة على فتح الملف بكامل الشفافية وبالتحاور مع الأطراف المعنية". وكانت وسائل الاعلام المحلية قد أشارت في هذا السياق الى مشروع ندوة وطنية تضم مختلف القبائل البربرية بلهجاتها المختلفة: القبائل زواوه، الشاوية الأوراس الطوارق، الميزابيون الأباضية، شنوة، القصور، زناتة. وبناء على هذه المعطيات أصبح المراقبون في العاصمة الجزائرية أميل الى الاعتقاد بأن ما يجري في منطقة القبائل منذ 15 ايلول الماضي هو أقرب الى المزايدات السياسية التي يقوم بها أنصار سعيد سعدي نتيجة تراجع شعبيتهم واهتزاز مواقعهم - داخل أجهزة الحكم - بسبب مواقفهم المضطربة والمتهافتة من جهة، وبسبب العمل المنهجي الهادئ الذي تقوم به "جبهة القوى الاشتراكية" بقيادة الزعيم البربري المعروف حسين آيت أحمد. فبعد فشل سعيد سعدي أمام رفاق هذا الأخير في انتخابات 26/12/1992 حاول بعد اغتيال الرئيس بوضياف منذ سنتين رفع راية "التجمع الوطني"، لكن من دون جدوى، ولم يكن مشروع "التجمع من أجل الجمهورية" أحسن حالاً من سابقه. هذه الوضعية الداخلية المتأزمة هي التي تدفع سعيد سعدي الى التطرف والمزايدة تارة باستعمال ورقة "اللغة البربرية" وتارة بالدعوة الصريحة الى حمل السلاح ومحاربة الاسلاميين والسلطة معاً! هذا الاهتزاز في المواقف جعل منافسه آيت أحمد يتقدم مطالباً بزعامة "القطب الديموقراطي" أو "الطريق الثالث". لكن من دون منازع لا من سعيد سعدي ولا من الهاشمي الشريف التحدي - الشيوعي. وهناك عامل ثان وراء فورة سعيد سعدي وجماعته وهو الافراج عن شيوخ جبهة الانقاذ الذي يفتح آفاقاً أكثر أمام "جبهة القوى الاشتراكية"، على أساس ان "الانقاذ" أعلنت أكثر من مرة تفضيلها لحل الأزمة الراهنة عن طريق التفاوض بين الجيش من جهة والجبهات الثلاث الفائزة بالدور الأول من انتخابات 1991 من جهة ثانية. ولعل هذا ما يفسر لماذا سارع سعدي باعلان المشاركة في الجولات القادمة من الحوار بالصيغة الثنائية، بمجرد ان أعلن رفاق آيت أحمد نيتهم في المشاركة. كل هذه الخلفيات السياسية تقلل من احتمال تحول اختطاف المغني معطوب الوناس الى "داحس" حرب شاملة بين أنصار سعيد سعدي والعناصر الاسلامية المسلحة في منطقة القبائل التي قد يكون على رأسها قبائلي آخر هو الشيخ محمد السعيد عضو الرابطة الاسلامية وأحد أقطاب "الجزأرة" في "الجبهة الاسلامية للانقاذ".