تحدثت السيدة ريموندا الطويل الى "الوسط" عن ربع قرن من "ديبلوماسية" ما وراء الكواليس في سياق عملية السلام التي شملت اتصالات برؤساء دول، بينهم المستشار النمسوي الراحل برونو كرايسكي والرئيس الروماني الراحل نيكولاي تشاوشيسكو والرئيس الإسرائيلي عازر وايزمن. وجاء الحديث مع السيدة الطويل، الصحافية الفلسطينية المعروفة ووالدة السيدة سهى زوجة الرئيس ياسر عرفات، عشية صدور مذكراتها بالانكليزية "طفل الخميس" التي حصلت "الوسط" على حق نشر مقتطفات منها. متى بدأتِ الحوار مع اسرائيل؟ - بدأ الحوار عام 1967 عندما احتل الاسرائيليون الضفة الغربية. فقد ذهبت الى الحاكم العسكري لمدينة نابلس لأطلب منه فتح المستشفى والسماح بدخول المواد الغذائية الى المدينة. ومشيت في الشوارع الى مقره وأنا أحمل العلم الفلسطيني وعلماً أبيض دليلاً على الهدنة وعلم الصليب الأحمر. وكنا آنذاك نخضع لنظام منع التجول. لكنني كنت أتمتع بميزة اتقاني العبرية الى جانب العربية والفرنسية والانكليزية. وجمعت رئيسي بلديتي نابلس وقلقيلية مع الحاكم زئيف بيليغ الذي أصبح في ما بعد الحاكم العسكري الاسرائيلي لمدينة صور في لبنان. توجهت الى منزلي رئيسي البلدية مع القنصل الأميركي العام في القدس وكانت سيارته ترفع العلم الأميركي. وبالطبع كان الناس في الضفة الغربية يكرهون أميركا بسبب تأييدها لاسرائيل. كانت كل الأبواب مغلقة فيما رائحة الموت تفوح في كل مكان. وكان من الصعب على أي شخص ان يستقبل القنصل العام. لكنني أقنعت رئيس بلدية قلقيلية بفتح بابه. وكان الناس بالطبع يقولون انني عميلة للمخابرات الأميركية وجاسوسة اسرائيلية. الا انني قلت لنفسي انني لن أكترث بما يقولون وسأواصل العمل. لقد اعطتني والدتي القوة. وبدأت حواراً مع بيليغ الذي قال ان مشكلة الفلسطينيين هي انهم لم ينصهروا في بقية العالم العربي، فقلت له ان مشكلة اليهود ايضاً هي انهم لم ينصهروا في بقية العالم الأوروبي. وكانت تلك المناقشات ممكنة لأن بيتي أصبح المنتدى الأدبي لمدينة نابلس على رغم ان الجنرال دايان لم يوافق على أي نشاط ثقافي في المدينة. حل الدولتين عندما تتحدثين عن الحوار والمواجهة هل معنى هذا انك كنت تقبلين حل الدولتين على أساس قرار الأممالمتحدة الرقم 181 الصادر عام 1947؟ - كثيرون منا توصلوا الى هذه النتيجة في مرحلة مبكرة بمن في ذلك أبو مازن وأناس مثل عصام الصرطاوي الذي أصبح مبعوثاً خاصاً لعرفات واغتيل في البرتغال برصاص الاستخبارات الاسرائيلية أو برصاص جماعة أبو نضال. اذ ان الذين كانوا يؤيدون حل الدولتين كانوا يواجهون معارضة من الفلسطينيين والاسرائيليين معاً. وأعتقد ان هذه الحركة الواقعية لم تبدأ في النمو بين الفلسطينيين الا عندما تخلت المنظمة من جانبها وحدها عن كل أشكال المقاومة العنيفة خارج فلسطين عام 1974. أما الارهاب الاسرائيلي ضد الفلسطينيين فقد استمر خصوصاً في أوروبا. وبصراحة كنت أخشى ان أتعرض للاغتيال على يد أي من الطرفين. ففي كل مرة كان يجري فيها حديث عن الحوار في الصحافة كان يحدث اغتيال. وتلقيت إنذارات عدة. وفي احدى المرات كان في بيتي حوالى ثلاثين فلسطينياً واسرائيلياً حين تلقيت تهديداً بتفجير قنابل، ولكن لم يحدث أي شيء. تماماً مثلما قال الناس انهم سينسفون السينما التي تعرض فيلمك عن فلسطين. كانت خدعة هدفها الترهيب. لعبتِ دوراً في ادخال المستشار النمسوي اليهودي برونو كرايسكي في المعادلة. وقد أصبح في ما بعد من أقوى المدافعين عن فلسطين. - نعم. بدأ كرايسكي الوساطة بين اسرائيل ومنظمة التحرير في الثمانينات. ودعاني الى القاء محاضرة في احدى المؤتمرات في فيينا حيث كان هناك حوالى خمسة آلاف مستمع. وفي احدى المراحل صرخت أمرأة في وجهي قائلة ان الفلسطينيين جميعاً ارهابيون وقتلة. وعندها وقف الرئيس كرايسكي وقال انه لن يسمح بهذا السلوك الأميركي الصهيوني أمام ضيوفه وان النمسا ديموقراطية وانه يعتبرني ابنة له. ولكن صدرت ردود فعل سلبية أيضاً عن بعض العرب بين المستمعين، وانسحب السفير العراقي محمد المشاط حين بدأت الحديث عن حل الدولتين. فقد التقيته لاحقاً في واشنطن وسألته عن سبب انسحابه فقال انها مسألة سياسية، اذ ان حكومته كانت تعارض آنذاك حل الدولتين وتؤيد أبو نضال. لكنه قال لي أيضاً ان حكومته غيّرت استراتيجيتها. وفي عام 1987 كنت مع ياسر عرفات في بغداد. واجتمع الى صدام حسين، بينما اجتمعت أنا الى طارق عزيز الذي قال لي ان العراق لن يتدخل أبداً ثانية في سياسات المنظمة. فقلت له: انكم وضعتموني على قائمتكم لاعدامي، فضحك وقال: لم يعد الأمر كذلك. وفي بغداد تعقبني رجال أبو نضال. ومع ان عصام الصرطاوي قال لي الا أخاف فان كرايسكي نصحني بالتزام الحذر. ولهذا دفعني في فيينا الى تغيير الفندق الذي كنت أنزل فيه واتخاذ احتياطات أمنية. وحين عدت الى باريس واصلت جماعة أبو نضال مراقبتي. وبينما كنت ذات مرة في أحد المطاعم أدركت ان المطعم أصبح محاصراً. وأبلغني رجال الأمن الفرنسيون ان الليبيين والاسرائيليين يراقبون المكان. واتصلت بابراهيم الصوص مندوب المنظمة في باريس وزوج احدى بنات ريموندا فطلب مني البقاء في مكاني ريثما يتصل برجال الأمن الفرنسيين الذين وصلوا على الفور وأنقذوني. مبادرة تشاوشيسكو هل كان لكِ دور في مبادرة السلام التي طرحها الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو؟ - كانت رومانيا الدولة الوحيدة في المعسكر الشيوعي التي لها علاقات مع اسرائيل. وأرادت استخدام ذلك وسيلة ضغط على الولايات المتحدة. وفي عام 1971 قام تشاوشيسكو بدور الوسيط بين الرئيس أنور السادات ورئيسة الحكومة الاسرائيلية غولدا مائير. لكن مائير لم تكن مستعدة للانسحاب من سيناء في مقابل السلام. ولم يستطع تشاوشيسكو تنظيم مؤتمر بين الفلسطينيين والاسرائيليين حتى حزيران يونيو 1977 في بوخارست. ودعاني الى حضوره. لكن أبو مازن شعر بخيبة الأمل لأنه لم تكن هناك مشاركة عالية المستوى من اسرائيل، بل مجرد أعضاء من حركة السلام وجنرال متقاعد محترم كان رفض أداء خدمته العسكرية الاحتياطية. كما ان الذين اشتركوا في المؤتمر اعتقلوا لدى عودتهم لأنهم "اجتمعوا مع منظمة التحرير". لكن الرئيس جيمي كارتر جمع بين مناحيم بيغن وأنور السادات في العام التالي. فهل كان لك دور في ذلك؟ - لا. في عام 1978 كنت في السجن. لكن شخصاً عارض الزج بي في السجن، هو عازر وايزمن أحد وزراء بيغن. وقد أراد الاجتماع بي لكن المخابرات الاسرائيلية رفضت السماح بذلك. وكان كارل كاهانا، وهو صناعي ثري وصديق لوايزمان وكرايسكي، وسبق له ان التقى عرفات في بيروت، هو الذي حض وايزمن على لقائي. وتظاهرت المخابرات الاسرائيلية بأنني لم أكن معتقلة أصلاً. والواقع انهم نقلوني من سجن في القدس الى احدى المستشفيات لأن صحتي تدهورت. ومن الواضح انهم كذبوا على الوزير الذي استطاع ان يعرف مكان وجودي وأمر بإطلاقي. وأثناء مقابلة على التلفزيون عزل الحاكم العسكري للضفة الغربية هاغوين الذي كان أصدر أمر اعتقالي والذي كان الوغد الأساسي في قمعنا، اذ كان رجاله يرمون الطلاب الفلسطينيين من الطبقات العليا في مقر الشرطة في القدس لتكسير أرجلهم وأيديهم. والواقع ان دون نيف نشر عن تلك الممارسات في مجلة "التايم" ما ترك أثراً عميقاً في وايزمن، اذ أدرك انني كنت معتقلة وان الحاكم كذب عليه. وهكذا غادرت السجن بمزاج من الانتصار بعد طرد الحاكم العسكري. كاهانا الوسيط يبدو ان كارل كاهانا كان له دور مهم؟ - نعم. بعث عرفات برسائل من بيروت الى وايزمن عن طريق كاهانا. وحين عرفني كرايسكي على كاهانا قال: "هذا هو الشخص الذي أدى الى الافراج عنك". وقال لي كاهانا انه لا يريد ذكر اسمه لأن اجتماعاته مع عرفات كانت ضد القانون الاسرائيلي. لكنه توفي في العام الماضي ولهذا يمكن الافصاح عن الأمر الآن. والحقيقة ان كاهانا كان الوسيط الرئيسي بين وايزمن وعرفات. والتقيت وايزمن في القدس بعد اعلان عرفات مولد الدولة الفلسطينية عام 1988 وقبوله قرار الأممالمتحدة الذي يقسم فلسطين. وقال لي انه يود كثيراً مقابلة عرفات، ولكن القانون لا يسمح بذلك. وزوجته هي شقيقة روث دايان زوجة دايان السابقة التي كانت داعية للسلام. والحقيقة ان نقطة التحول بالنسبة الى وايزمن كانت حرب 1973. فقد كان حتى ذلك التاريخ من الصقور ولا يخشى الحلول العسكرية. الا ان ابنه أصيب بجروح خطيرة في حرب سيناء ثم توفي في حادث اصطدام بعد ذلك بعامين. وشعر وايزمن بالذنب لأنه شجع ابنه على ان يصبح ضابطاً، كما قال لي انه تأثر كثيراً بكمب ديفيد. ومن حسن الحظ انه أصبح الآن رئيساً للدولة. ما الذي أدى اذن الى تحريك الأوضاع بعدما فشلت مساعي كرايسكي وتشاوشيسكو والفرنسيين؟ - الواقع ان المستشار الألماني هيلموت كول بدأ يبذل جهوده عام 1985. اذ دعاني الى بون، وفوّض الي عرفات ان أتكلم باسمه. وهكذا تعرضت للتهديد من الليبيين مرة ثانية، وقالت الاذاعة الليبية انهم سيصفّون جميع المدافعين عن حل الدولتين. وفي ذلك العام أيضاً وقع عرفات على "اتفاق عمّان" مع الملك حسين، وهو الاتفاق الذي نص على اقامة كونفيديرالية بين الضفة الغربية المحررة والأردن بعدما كان المجلس الوطني الفلسطيني صادق على ذلك في العام السابق. كنت أحض جميع الذين أقابلهم على لقاء عرفات. لكن القيود الاسرائيلية على اجراء أي حوار مع المنظمة أحبطت كل محاولات السلام وحلّ الدولتين. وهكذا عين عرفات عربياً اسرائيلياً هو أحمد الطيبي ليكون مبعوثاً له لدى وايزمن. وهو الآن أحد كبار مستشاري عرفات. ورافقت الطيبي الى تونس ورتبت مع سلطات الهجرة الفرنسية والتونسية عدم ختم جواز سفره. لماذا ترك ادوارد سعيد المنظمة؟ - لأنه يشعر بمرارة شديدة. فهو يشكو من عدم وجود قيادة جماعية. وأظن انه يقصد انه لم يُستشر بما فيه الكفاية. فلو كانت القيادة جماعية في صورة كاملة خلال الفترة الأخيرة قبل تحرير الكيان الفلسطيني كيف يمكن مناقشاتها ومداولاتها ان تكون سرية؟ هل كانت لدى ديغول قيادة جماعية قبل تحرير فرنسا؟ والذين ينتقدون عرفات ذاكرتهم قصيرة جداً. فهم ينسون أحداث نصف القرن الماضي، وكما قلت في تل أبيب انه ليس ركلاً وسيماً لكنه القائد الوحيد، وأفضل قائد لدينا. علينا ان نحترم عرفات لأنه أرسى حجر الأساس للدولة الفلسطينية. فقد خضعت فلسطين لحكم الآخرين منذ الأزل… منذ الرومان وقبلهم. وفي القرون الأخيرة حكمنا الأتراك والبريطانيون والأردنيون. ولا تزال سورية تتحدث عن فلسطين كجزء من سورية الكبرى. لكن عرفات هو الوحيد الذي حافظ على فكرة فلسطين المستقلة.