التزمت الحكومة الفرنسية أقصى درجات الحذر في التعليق على قرارها ابعاد الموقوفين الايرانيين محسن شريف اصفهاني وأحمد طاهري الى طهران. وأشارت مصادر موثوقة في باريس الى تعليمات صدرت تحثّ الوزراء وكبار المسؤولين على التقيد حرفياً بموقف واحد معلن من هذه القضية وهو أن ابعاد الايرانيين تم لأسباب متعلقة بالمصلحة الوطنية. وكانت السلطات الفرنسية اعتقلت اصفهاني وطاهري بموجب مذكرة توقيف دولية صادرة عن القضاء السويسري بتهمة اشتراكهما في اغتيال المعارض الايراني كاظم رجوي شقيق مسعود رجوي زعيم منظمة "مجاهدي خلق" المعارضة في نيسان ابريل 1990 قرب جنيف، ووافقت السلطات القضائية في باريس على تسليم الموقوفين الى السلطات السويسرية، إلا أن الحكومة الفرنسية لم تنفذ القرار. وعندما استدعت وزارة الخارجية الفرنسية السفير السويسري في 29 كانون الأول ديسمبر الماضي، اعتقد أن الأمر يتعلق بتحديد ساعة الصفر لتسليم المتهمين فاذا به يفاجأ بانهما لن يسلما، وليكتشف فيما بعد أنهما وصلا الى ايران في اللحظة نفسها. سويسرا الطامحة الى دخول السوق الأوروبية المشتركة بعد نهاية الحرب الباردة تعرف بالتالي مدى تأثير ونفوذ فرنسا في هذا المجال، لذلك لم ترغب في تحويل القضية الى سبب لاندلاع أزمة بين البلدين، واكتفت بالاحتجاج رسمياً لدى الحكومة الفرنسية متهمة باريس، ليس فقط بعدم المعاملة بالمثل حيث سبق لها أن سلمت القضاء الفرنسي متهماً باغتيال رئيس الوزراء الايراني السابق شهبور بختيار، وانما ايضاً "بخرق فاضح للقانون الدولي" وبعدم احترام اتفاقيتين أوروبيتين. الأولى تتعلق بتبادل المتهمين والثانية بمكافحة الارهاب. وإذا كان الموقف السويسري من هذه القضية مفهوماً فانه يطرح اسئلة اضافية حول خطورة الدوافع التي حدت بفرنسا الى اتخاذ مبادرة غير مألوفة. فما الذي دفع الحكومة الفرنسية الى تغيير وجهة ابعاد الموقوفين الايرانيين من برن الى طهران؟ ثم لماذا كل هذا الصمت الذي تمارسه الحكومة في بلد تتمتع فيه وسائل الاعلام بسلطة حقيقية وتقلّ فيه أسرار الدولة، خصوصاً المتعلقة بالقضاء والعدالة؟ المعلومات المتداولة في باريس حول هذه المسألة تتيح الحديث عن عدد من الفرضيات. أولاً: أهمية وموقع المتهمين في ايران، ولتوضيح هذا الجانب لا بد من العودة الى حادثة الاغتيال الرئيسية. كان كاظم رجوي سفيراً سابقاً لبلاده، ثم التحق بالمعارضة التي يقودها أخوه مسعود، وقرر الاقامة في سويسرا والعمل كأستاذ جامعي في جنيف. وفي 10 نيسان ابريل 1990 كان رجوي يقود سيارته بنفسه على احدى الطرق المعزولة قرب جنيف حين اعترضته مجموعة مسلحة 13 رجلاً واغتالته بواسطة أسلحة رشاشة. وتوصّل القضاء السويسري بسرعة نسبية الى اكتشاف خيوط القضية، وتبين له أن ديبلوماسيين ايرانيين يعملان في سفارة بلادهما في برن هما هادي نجفي أبادي وأخون زادة بسطي خططا لعملية الاغتيال، وانهما استقدما لهذه الغاية مجموعة من 13 شخصاً من طهران يرتبطون جميعاً بالاستخبارات الايرانية "السافاما". "مكلف بمهمة" واكتشف القاضي السويسري المكلف بالتحقيق رولان شاتلان ان المجموعة الايرانية دخلت سويسرا على دفعات وان أفرادها استخدموا بطاقات طيران ايرانية متسلسلة الأرقام وانهم يحملون جوازات سفر صادرة عن الاستخبارات الايرانية وتحمل عبارة "مكلف بمهمة". كما تبين ان المجموعة غادرت الأراضي السويسرية بعد ساعات قليلة من تنفيذ عملية الاغتيال وان آثارها فقدت في فيينا حيث غادر أفرادها العاصمة النمسوية بجوازات سفر أخرى مختلفة عن تلك التي استخدمت في الدخول الى سويسرا، وبناء على هذه المعلومات أصدر القاضي السويسري مذكرات توقيف دولية بحق أفراد المجموعة. كان لا بد من انتظار خريف العام 1992 حتى يصبح بالامكان وضع اليد على أدلة مادية. فقد اكتشف البوليس الألماني أربعة جواسيس ايرانيين يهتمون بجمع معلومات عن اللاجئين السياسيين الايرانيين المقيمين في كولونيا. وبعد ملاحقات دقيقة تبين للشرطة الألمانية ان مجموعة الأربعة دخلت الى بلجيكا ومنها الى فرنسا في 11 تشرين الثاني نوفمبر 1992. وأبلغت الشرطة الفرنسية بالأمر، فلاحقت هذه الأخيرة أفراد المجموعة وألقت القبض عليهم في 17 تشرين الثاني نوفمبر 1992 في باريس. وبعد التدقيق في هويات أفراد المجموعة أطلق سراح اثنين منهم لعدم توافر أدلة ضدهما، فيما أوقف الاثنان الآخران محسن شريف أصفهاني وأحمد طاهري اللذان تبين أنهما مذكوران في لائحة مجموعة ال 13 المتهمين باغتيال كاظم رجوي. ولم يتأخر رد الفعل الايراني على اعتقالهما، فقد احتجز البوليس الايراني من دون مبرر في الاسبوع نفسه رجل الأعمال الفرنسي ريمون لابارب الذي كان يعيش في طهران منذ عشر سنوات، وظل خبر احتجازه مكتوماً لمدة اسبوع وأطلق سراحه فيما بعد من دون معرفة الأسباب في حالتي الاحتجاز والافراج عنه. وتشاء "المصادفات" ان يترافق اعلان فرنسا موافقتها على تسليم طاهري واصفهاني الى سويسرا في أواسط تشرين الثاني نوفمبر الماضي مع وقوع انفجارين في السفارة الفرنسية وفي مكاتب شركة الخطوط الجوية الفرنسية في طهران.. وتبنى الانفجارين "حزب الله في جنوبطهران" الذي "وعد" بانفجارات أخرى ضد المصالح الفرنسية في طهران والخارج. وإذا كان الانفجاران نفذا احتجاجاً على وجود السيدة مريم رجوي في فرنسا، حسب الشروحات المقدمة في حينه، فإن المصادر الفرنسية تميل هذه الأيام الى ربط الحادث بقضية طاهري وأصفهاني أكثر من أي شيء آخر. ارهاب ايراني رسمي بعد ثلاث سنوات من التحقيق في اغتيال كاظم رجوي أصبح ملف القضية جاهزاً ولم يكن ينقصه سوى تسليم المتهمين طاهري وأصفهاني. وتقول مصادر سويسرية ان الملف يتضمن "اتهامات دافعة ضد الدولة الايرانية" الأمر الذي كان يمكن أن يشكّل حجة لتحرك دولي واصدار عقوبات دولية ضد ايران، لكن المتهمين سلمّا الى طهران بدلاً من القضاء السويسري الذي بات يملك اتهامات تحتاج الى متهمين لمحاكمتهما وجاهياً. وهذه الحالة تشبه الى حد ما أزمة لوكربي من حيث الشكل على الأقل. ثانياً: جاء إبعاد اصفهاني وطاهري قبل أشهر قليلة من بدء محاكمة المتهمين باغتيال رئيس الوزراء الايراني الأسبق شهبور بختيار في 6 آب اغسطس 1991. وتتوقع مصادر القضاء الفرنسي أن تبدأ المحاكمة في الربيع المقبل. ذلك أن القاضي جان لوي بروغيير أنجز ملف التحقيقات، وتشير المعلومات التي تسربت حول هذا الموضوع الى "تورط ايراني رسمي" في هذه القضية أيضاً. ويلاحظ في هذا المجال أن فرنسا تملك ورقة ضغط قوية للغاية ضد طهران. فهي تحتفظ بخمسة متهمين في القضية، اثنان متهمان بالتنفيذ هما علي وكيلي رعد ومحمد أزدي، ومدبر العملية زايل سرهادي المستشار في السفارة الايرانية في برن، ومسعود هندي المدير السابق لمكتب "تلفزيون ايران" في باريس وفرحسشت جهانبري وهو مهاجر ايراني متهم بالتعاون مع "السفاما". واعترف المتهمون صراحة بدور سرهادي في القضية، حسب معلومات ذكرتها وسائل الاعلام الفرنسية في حينه، ما يعني هنا أيضاً أن المحاكمة يمكن ان تتحول الى مناسبة للحديث عن "ارهاب ايراني رسمي"، ويمكن أن تتيح فرصة لدول غربية أخرى للمطالبة بفرض عقوبات دولية ضد طهران. لكن هنا أيضاً بدا أن فرنسا غير متحمسة كثيراً لاتخاذ مواقف علنية في هذه القضية، وتبين انها مترددة في التعامل معها الى حد دفع الناطق باسم الخارجية السويسرية الى الاعراب علناً عن استغرابه ودهشته في 30 كانون الأول ديسمبر 1992 لتأخر باريس بتقديم طلب الى السلطات السويسرية لاسترداد زايل سرهادي المتهم بتدبير عملية اغتيال بختيار. وتطلب الأمر أكثر من شهرين حتى تقدّم فرنسا هذا الطلب وتسترد سرهادي الذي أدى استرداده الى أزمة في العلاقات بين برن وطهران وباقفال السفارة السويسرية في ايران لبعض الوقت. وترافق تسليم سرهادي مع تهديدات ايرانية صريحة طالبت باطلاق سراحه صدرت في جريدة "سلام" الناطقة باسم المتشددين الايرانيين. ثالثاً: استجابت فرنسا حتى الآن للضغوط التي مارستها ايران على الحكومات الاشتراكية واليمينية المتعاقبة خلال السنوات الأخيرة، ولم تربح باريس أياً من المعارك المفتوحة التي خاضتها ضد طهران. فقد أطلق سراح أنيس نقاش 1991 المتهم بالمحاولة الأولى لاغتيال بختيار عام 1981، وردت ايران على الدعم الفرنسي للعراق في الحرب العراقية - الايرانية بحرب الرهائن الفرنسيين في لبنان. وواصلت هذه الحرب من خلال متفجرات ايلول سبتمبر 1986 التي روعت السكان في باريس. ولم تنته هذه القضية إلا بحرب السفارات بين البلدين 1987 بسبب الديبلوماسي الايراني وحيد غورجي المتورط، بنظر الحكومة الفرنسية، بالمتفجرات المذكورة. وأبعد غورجي الى طهران وأعيدت العلاقات الديبلوماسية الى طبيعتها بين البلدين. وكانت باريس حاولت تحسين علاقاتها مع ايران من خلال إبعاد مسعود رجوي وأنصاره البارزين الى العراق، إلا أن هذا الأمر لم يكن كافياً، في نظر الحكومة الايرانية، للتعويض عن الدعم الفرنسي للعراق في الحرب. وحققت ايران مطالبها في قضية "إيروديف" المتعلقة بقرض قيمته مليار دولار كان الشاه منحه لفرنسا في اطار تعاون نووي مشترك بين البلدين. وأخيراً أطلقت فرنسا أصفهاني وطاهري إثر ضغوط ايرانية سرية وتهديدات شبه علنية، وتأمل فرنسا أن تؤدي هذه الخطة الى "تهدئة" علاقات البلدين، خصوصاً ان طهران عينت سفيراً جديداً في باريس في إطار السعي لفتح صفحة جديدة معها. رابعاً: إن فرضية تحسين العلاقات الاقتصادية بين فرنسا وإيران ليست دافعاً قوياً لاطلاق أصفهاني وطاهري. وعليه لا توجد أسباب قوية للشك في نفي الوزير الفرنسي ألان لاماسور أن المصالح الاقتصادية لا علاقة لها باطلاق سراح أصفهاني وطاهري. وتأتي فرنسا في المرتبة الخامسة بين الدول المصدرة لايران، بعد اليابان والمانيا وايطاليا وبريطانيا. وتتساوى في هذه المرتبة مع الولاياتالمتحدة. الثمن السياسي ويشكو الكثير من رجال الأعمال والشركات الفرنسية من تراكم الديون غير المدفوعة لدى ايران. وتبدو طهران مندفعة نحو مشاريع اقتصادية متصلة بالتسلح ومجالات استراتيجية حساسة لا تستطيع فرنسا الانخراط فيها لأسباب عدة، وتزداد سوءاً يوماً بعد يوم سمعة ايران كمدين لا يفي بالتزاماته الأمر الذي يخفف من الطموحات الفرنسية بايجاد فرص للتوسع الاقتصادي في هذا البلد، اضافة الى إرث التوتر المتواصل في علاقات البلدين السياسية، ما يدفع الى الاعتقاد بأن إبعاد طاهري وأصفهاني الى ايران يحمل معاني أخرى أكثر أهمية من المعنى الاقتصادي. حتى الآن لا يبدو أن باريس مستعدة للافصاح عن دوافع مبادرتها، ولا عن "الثمن" السياسي الذي نالته. ويظل الاحتمال الأقرب الى الواقع هو ضغوط وتهديدات ايرانية باستئناف "حروب سرية" ضد فرنسا كانت ايران تشنها بوسائل مختلفة وتقطعها ساعة ترى ذلك مناسباً بهدنات موقتة. لكن يبقى السؤال مطروحاً حول قضية بختيار، فهل تذعن فرنسا لضغوط ايرانية جديدة وتماطل في محاكمة المتهمين الايرانيين في هذه القضية؟ أم تطلق سراحهم على غرار ما فعلت أخيراً؟ وفي الحالتين فإن باريس أمام موقف حرج.