أهل النوبة في جنوب مصر متحدرون من ذاكرة جماعية عريقة حضارياً وتاريخياً، وهذا ما يجعلهم على الارجح يعيشون في شبه عزلة، لحماية تقاليدهم من مواجهة العالم الخارجي. وهذه الحياة المغلقة على عاداتها وتقاليدها، جعلت الاتصال مع المجتمع المصري عسيراً، له قوانينه وشروطه، وله محاذيره وجراحه، وبالاخص تلك المرتبطة ببناء "السد العالي" الذي اقتضى نقلهم من قراهم العتيقة الى أماكن جديدة بعيدة عن أرض الاجداد. ففي غمرة الفرحة العارمة ببناء السد العالي، لم يلتفت يومها أحد الى أحزان النوبيين المقتلعين من جذورهم، فحملوا المرارة معهم في شتاتهم، ونقلها الآباء الى الابناء... وكان من الطبيعي أن تنعكس تجربة الانسلاخ هذه على الادب. فأول رواية كتبها أديب نوبي هي "الشمندورة" لمحمد خليل قاسم، وقد أثرت في مسار التجارب التي تلتها، وطغت على ابداعات أدباء النوبة حتى اليوم. الى أن جاء كاتب اسمه ادريس علي ليتحرك في فضاء روائي مختلف نسبياً: في روايته "دنقلة" كتب ادريس علي عن الرجال الذين يرحلون عن النوبة لطلب الرزق ويتركون النساء والاطفال والعجائز في بيئة فقيرة تقليدية شديدة التزمت. بطله يترك زوجته التي هي من أهله ويتزوج أخرى من أهل الشمال دون أن يطلّق الاولى، مكتفياً بارسال الخطابات والمال. وتتعلق المرأة المهجورة برجل صعيدي غريب - من أهل الوجه القبلي - ثم تضطر الى قتل حماتها خوفاً من الفضيحة... وثارت ثائرة النوبيين على ادريس علي. فكيف يصوّر علاقة امرأة نوبية مع رجل صعيدي ليس من اهل النوبة؟ وارتفعت الاصوات لتعبر عن شعور بالمهانة، ووجهت اتهامات الى الكاتب، كما عقدت حلقات لمناقشة روايته في أندية لأهل النوبة منتشرة في القاهرة: لماذا التشهير بهم؟ ورد ادريس علي أن تجربته الابداعية ابنة المخيلة، وأنه كتب رواية ولم يكتب شهادة أو تحقيقاً للتشهير بأهل النوبة ومعتقداتهم. فالمحور الاوحد لهذا الادب هو الهجرة والاحساس المعذب بالنفي الى واد كبير والخروج من المكان المألوف الى المتاهة، دون توقف يذكر عند انعكاس هذه الحالة على السمات السلوكية العامة: فلأهل النوبة تجمعات خاصة والزواج من خارج أهل النوبة عيب حقيقي! ومن هنا اعتبرت محاولة ادريس علي في "دنقلة" للتمرد على هذا العالم المقفل، نوعاً من الخيانة في نظر أهله. مع أن الرواية ليست الا تعبيراً صادقاً وبليغاً عن التحولات التي تتحكم بهذا المجتمع المصغّر ممهدة لنشوء أعراف أخرى وأنماط مختلفة من العلاقات تتغير. بعد مراثي الحنين التي عزف على أوتارها في تجربته الاولى "المبعدون"، كما فعل أقرانه محمد خليل قاسم وحسن نور وحجاج حسن أدول وابراهيم فهمي ويحيى مختار، ها هو ادريس علي يتعرّض للشروخ المعششة في التقاليد المتوارثة، مفصحاً عن الازمة العميقة بما تحمله من خصوبة المخاض. فإذا بالنوبيين يهددونه ويطالبونه بسحب روايته، الصادرة قبل أشهر عن "هيئة الكتاب"، من المكتبات. ما يعيد الى الاذهان قضايا مشابهة شهدتها المحاكم المصرية، منها تلك التي رفعها أهل قرية "الضهرية" ضد الاديب يوسف القعيد، لأنهم تصوروا أنه يوجه اليهم الاهانات في روايته "وجع البعاد" المنشورة في "الاهرام" عام 1990. الناقد رمضان بسطاويسي يخشى الآثار النفسية التي ستتركها القضية على ادريس علي نفسه. والناقد مدحت الجيار يلاحظ أن "ظاهرة ادباء النوبة المثيرة للجدل تهتز بالتعرية التي حاولها ادريس علي". ويعلق الاديب يوسف القعيد على الحساسية المفرطة لاولئك الذين يريدون جر الادباء الى المحاكم، بأن هناك خلطاً لديهم بين الفن والواقع، وبأنهم لا يحترمون سلطة المخيلة. أما القضايا المرفوعة في المحاكم، بهذا الصدد، فيصفها القعيد ب "السمك المثلج".