سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أول فنان عربي يدخل هوليوود من بابها الواسع ... يتذكر . عمر الشريف يروي سيرته لپ"الوسط" : إحراق المنزل سهواً أول دور ارتجلته بنجاح ونقود شقيقتي أنقذتني من فضيحة في "سميراميس" 1
زفت هوليوود في كانون الأول ديسمبر 1962 نبأ ولادة نجم عالمي جديد أطل للمرة الاولى على العالم في فيلم "لورنس العرب"، بعدما كانت شهرته ملأت دنيا العرب. يومها لم يصدق بعضهم، لأن النجم الشاب آت من ضفاف النيل، ووجهه الاسمر الوسيم لوحته شمس مصر. لكن عمر الشريف لم يبال وراح يرتقي السلم من نجاح الى نجاح حتى غدا واحداً من النجوم الكبار... وفارس احلام الكثير من المعجبات شرقاً وغرباً. "الوسط" قصدت الرجل الذي التزم الصمت طويلاً، وابتعد عن صخب الاعلام وصار مقلاً في افلامه قبل ان يترجل اخيراً ويعتزل. وقلّبت معه صفحات مطوية من سيرته الطويلة الحافلة بالطرائف والحكايات الآسرة، تنشر على حلقات، هنا اولاها: كيف يبدو النجم الذي غزا قلوب الملايين؟ كان انطباعي الأول، عندما التقيته ظهر ذلك اليوم الربيعي، انه رجل مطمئن ينعم بالراحة، لكن ملامحه الهادئة تبدلت حين ادرك اني في صدد تسليط الضوء على تفاصيل حياته الدقيقة، وتساءل بلطف بالغ لم يخفِ علامات الخيبة: "أليس الاجدى ان نتحدث عن الحاضر؟ ولما وعدت بأن احاول رسم صورة حية لعمر الشريف بماضيه وحاضره معاً، هز رأسه موافقاً من دون ان ينبس بكلمة، كأنه يقول: حسناً، أمري لله. وبعد هذا "الضوء الاخضر" الشحيح كان عليّ ان أبدأ الحوار، ولكن من أين؟ أبواب كثيرة تغريك بالولوج منها الى شريط الذكريات لهذا الفنان، فلماذا لا أترك له الخيار عله يدعنا نرى عمر الشريف من خلال عينيه؟ وارتحت الى هذه الفكرة فقلت له: هل لك ان تقدم نفسك الى قرّاء "الوسط"؟ تردد عمر في بداية الامر كما لو كان يستعيد شريط الذكريات ثم ما لبث ان فتح لنا مفكرته: ولدت في 10 نيسان ابريل 1932 في عائلة شلهوب الثرية، اذ كان والدي واحداً من كبار تجار الاخشاب في الاسكندرية. وقد عاشت عائلتي حياة مترفة، فارتادت النوادي والمرابع الترفيهية التي كانت ابوابها موصدة دون كثيرين، مثل نادي الرياضة الملكي ونادي السيارات الملكي ونادي محمد علي. ورغم هذه المكانة الاجتماعية المتميزة، عشنا في عمارة صغيرة مؤلفة من طابقين تقوم وسط حديقة في حي كليوباتره المتاخم للبحر". في هذه الاجواء فتح ميشال شلهوب عينيه على النور وأمضى سنواته الأولى في عش دافئ، حيث غمره والداه بالحب ولم يضنا عليه بشيء. غير ان حنانهما لم يخفف من حرصهما على تنشئته تنشئة مستقيمة. الملك ضيفنا وقبل ان يتم الصغير سنته الرابعة رحل عن الاسكندرية لأن "ابي قرر الانتقال الى القاهرة، فحملنا ومضى الى محيط جديد لم يكن اقل بهاء من سابقه، محيط عابق بالسحر زاخر بالاثارة... ومع ذلك، كانت الهجرة المبكرة منعطفاً، بقي راسخاً في ذاكرتي لا يبرحها ابداً، وفي القاهرة، سكنا احدث احياء العاصمة وأفخمها: "غاردن سيتي" وأقمنا في منزل يقع بين السفارتين البريطانية والاميركية. وكانت امي تعقد حلقات للعب الورق يرتادها نجوم المجتمع وعليّة القوم وفي مقدمهم الملك فاروق، الذي دأبت والدتي على الجلوس الى يساره لأنه كان يرى فيها بشائر الخير وحسن الطالع في تلك السهرات". الرياضة المنقذة ولما بلغ العاشرة، التحق ميشال شلهوب بپ"كلية فيكتوريا": المدرسة الثانوية الانكليزية التي ذاع صيتها كمعهد تعليمي مرموق يبدي عناية فائقة بالرياضة. وكانت للكلية يدها البيضاء على الصغير ميشال الذي دخلها بدنياً تعوزه الخفة وتخرج منها طويلاً ممشوق القامة بفضل "دروس الرياضة الالزامية والمرافق الرياضية التي هيأتها للطلاب، كملاعب كرة القدم الخمسة مثلاً". بددت المدرسة مخاوف الأم على قوام ابنها ورشاقته، وتركت في نفسه اثراً لا يمحى. فهو لا يزال يذكرها بحب، وبصوت رنحه الحنين يقول: "لو لم التحق بالكلية لكنت شخصاً مختلفاً تماماً، فالرياضة لعبت دوراً حاسماً في تطوري خلال سنوات النضج الأولى وساهمت في رسم المسار الذي اتخذته حياتي فيما بعد. ولولا كرة القدم والكريكت اللتان مارستهما باستمرار في المدرسة الانكليزية لبقيت ولداً سميناً يسبب قلقاً دائماً لوالدته التي اعياها البحث عن وسيلة ناجعة لتخفيف وزنه ونهيه عن الاكثار من الطعام". "ولم تتسبب شهيتي بالبدانة وحسب، بل كادت تؤدي الى كارثة لا بأس ان نتوقف عند تفاصيلها قليلاً. في احد الأيام توجهت، على عادتي، الى الثلاجة فور عودتي من المدرسة ابحث عن شيء اسكت به جوعي ريثما يحين وقت العشاء. ولما لم اجد طعاماً قررت اعداد وجبة سريعة اشفاقاً على معدتي المسكينة. لكن يدي الصغيرة خذلتني لقلة الخبرة، وبدلاً من ان اوقد النار تحت القدر اشعلت منضدة خشبية سقط عليها عود الثقاب سهواً. ارتبكت حين شاهدت النار وقد بدأت تلتهم المنضدة وخشيت ان تمتد ألسنة اللهب الى بقية اجزاء المنزل بعدما عجزت عن اخمادها. وقلت في نفسي لا بد من طلب العون. لكن كيف لي ان انبه من في المنزل الى الحريق دون الاعتراف بفعلتي التي تستحق العقاب؟ وهنا خطرت لي فكرة للايقاع بأحد الخدم المشاكسين كي انجو بجلدي، فخرجت من سلم خلفي لأعود الى صالون المنزل من بابه الرئيسي. وهناك تظاهرت بالهدوء امام والدتي، ثم تساءلت فجأة عن سر الدخان المنبعث من المطبخ كأني اكتشفته في تلك اللحظة. جمعت امي الخدم جميعاً بعدما اطفأوا النار، وطالبت المسؤول عن الحريق بالاعتراف فلم تلق جواباً. وهنا همست في اذنها اتهم خادماً بأنه هو الفاعل الشقي. ولسوء حظه، صدقتني الوالدة وطردته من العمل دون ان تعرف ان جريمته كانت عصيان تعليماتي وتجاهل رغباتي مراراً". قارئة البخت وما ان انهى اعداده البدني حتى تهيأ ميشال شلهوب كي يخطو خطواته الأولى على طريق طويل كان سيقضي عمره متنزهاً على أرصفته. ففي الثالثة عشرة من عمره، وبعدما غدا رشيقاً ناحل القوام، تعرف الى التمثيل وعقد صداقة معه كهاوٍ مجدّ. حينذاك - يقول عمر الشريف - "وقعت معي حادثة لا تخلو من الغرابة، اذ سافرت مع ثمانية من زملائي في المدرسة الى الاسكندرية لرؤية سيدة يونانية اشتهرت ببراعتها في قراءة البخت. ولما أتى دوري، دعتني الى احتلال الكرسي الفارغ ازاء طاولتها المستديرة وانصرفت الى التحديق ملياً في الاوراق المفروشة امامها، ثم قالت بعد برهة قصيرة: ستقضي عمرك خارج مصر وستغدو رجلاً مشهوراً يتسقط الناس اخباره في ارجاء الدنيا". لم يول عمر الشريف هذه الواقعة اهتماماً كبيراً بادئ الامر، فهو قام بزيارة المنجمة على سبيل التسلية ليس الا. وفي القاهرة واظب "كما في الماضي على المساهمة في نشاطات الجمعية المسرحية في المدرسة. وبدأت شيئاً فشيئاً اجد في المسرح متعة كبيرة لا تضاهيها سعادتي بممارسة اي هواية اخرى خلال سنوات المراهقة. وحين اخذ زملائي يثنون على ادائي المسرحي، ازدادت ثقتي بنفسي وصرت اشد تعلقاً بهذه الهواية واكثر تصميماً على متابعتها". وكانت هذه السنوات مقدمة أولى لتكوين فنان قدير ستضيق مصر بطموحاته فيغزو هوليوود ليجعل من مهد السينما الاميركية مسرحاً لانتصاراته الفنية. وخلال مرحلة التكوين المبكرة، كان عم ميشال شلهوب، او عمر الشريف، سنداً وموجهاً لابن اخيه اخذ بيده الى عوالم الشعر والرسم والسينما، وفتح عينيه على ما تزخر به من متع للعقل والحواس. فألِف الفتى هذه الفنون التي لم تلبث ان ملأت عليه حياته. من هنا، صار لاسم العم ذكراه الحميمة التي تلح على النجم حين يؤوب بخياله الى البدايات، فهو يقول "كان عمي العراب الذي عمدني بنور الفن. فهو من زرع في نفسي محبة الادب حين اختار لي مجموعة كتب لادباء مثل اناتول فرانس والفونس دوريه وشجعني على قراءتها. ثم فتح عيني على عالم الرسم وساعدني على تذوق الروائع التي يحفل بها. وبفضله تعرفت الى السينما الفرنسية التي ولعت بها، فصرت انتظر بفارغ الصبر حلول يوم الاثنين من كل اسبوع كي اذهب الى دار العرض لرؤية الفيلم الفرنسي الجديد. وكنت اقضي شطراً من الوقت بمشاهدة افلام غاري كوبر وغاري غرانت وغيرهما ريثما يأتي يوم الاثنين. وقد يستغرب قراء "الوسط" اغفالي ذكر الافلام المصرية، لكن في الحقيقة كانت هناك قطيعة شبه تامة بيني وبين السينما المحلية، التي لم اولها اي اهتمام الا حين صرت ممثلاً وأدركت أن عليّ متابعة ما يجري من حولي". بين الرفض والاصرار ولنا ان نستخلص من ذلك ان هذه القطيعة كانت طويلة ايضاً، فهو لم يعقد العزم على الانضمام الى فرقة المسرح الا بعد مضي سنوات عدة على تلقيه "البشارة" من المنجمة اليونانية. ففي سن السادسة عشرة لم يعد تردد الشاب المستمر على دور السينما وتواصله مع الشعر والرسم، يشبعان نهمه الى الفن، واحس بأن التمثيل هو قدره. لكن الوالد كان له موقف آخر لم ينسجم مع اهواء ابنه الذي لم يستغرب ذلك فمن "الطبيعي ان يحرص والدي على متابعة تحصيلي العلمي بعدما نلت شهادة البكالوريا، وهذا النجاح الذي كان يعتبر انذاك انجازاً مهماً، عزز قناعة ابي بضرورة استكمالي الدراسة العالية. وكانت تلك القناعة الراسخة اساساً بفضل ثناء مدرسي الرياضيات على كفاءتي في هذه المادة. ولما رفض الوالد ان يشجعني على ممارسة التمثيل رجوت امي ان تساعدني على بلوغ هدفي. غير انها رفضت هي الاخرى مباركة طموحاتي الفنية وارتأت ان اتخصص في الرياضيات كي افوز بشهادة عالية تكون جواز مرور يؤهلني لولوج الحياة من بوابتها العريضة". وامام اصرار ابنهما انصاع الوالدان الى رغبته في الانقطاع عن الدراسة. وحين انتزع هذه الموافقة، انضم الى ابيه ليساعده في تجارة الاخشاب بانتظار فرصة سانحة لتحقيق الحلم الذي داعبه في سن مبكرة. وفي المتجر، علمه ابوه "اسرار المهنة وقدمني الى زبائنه، غير ان العمل لم يرق لي وشكوت من رتابته الممضة". هذا الاحساس بالغربة دفعه الى التشبث بحلمه الاول، رغم ان الزمن بدا له ثقيلاً يتقدم ببطء سلحفاة هو الذي يريد ان ينهب الحياة وان يختصر مراحل الزمن في انطلاقته الفنية. لقد حباه والده العطف والرعاية، كما في الماضي، وشجعه على الاستمتاع بأوقات فراغه. وبعدما اقلقه انطواء ابنه على نفسه دعاه مرة الى جلسة منفردة سأله خلالها عن امر هذا الضيق الذي الم به والح عليه بالانصراف الى اللهو والتمتع بالحياة قائلاً: "اريدك ان تتسلى وتتخلص من هذا الملل الذي اتعبك واتعبنا ما فيه الكفاية. انفق كما يحلو لك ولا تقلق بشأن المال فأنا مستعد لدفع تعرفة سعادتك مهما غلا ثمنها. كل ما ارجوه هو ان تبقى حكيماً، كما عهدتك، اقض وقتك بارتشاف المتعة البريئة، لكن اياك والقمار". ورطة "السميراميس" ومع ان السعادة الحقيقية بقيت بعيدة المنال، اخذ ميشال شلهوب يعيش حياة باذخة، محاولاً ان يقايض البهجة بالمال. اعتاد ان يصرف المال على هواه دون ان يقيم له اعتباراً، فمحفظة الوالد كانت كفيلة على الدوام بتسديد الحساب. وادى به هذا البذخ الى مطبات تخلص منها بدهاء، كما تدل حكاية السهرة في فندق سميراميس التي قصها عمر الشريف لپ"الوسط". قال: "كنت اتردد على نادي المعادي الرياضي باستمرار والتقي هناك مجموعة من الشباب والشابات صاروا مع الزمن اصدقائي الخلّص. وفي احدى الامسيات اجتمعت الشلة على عادتها في النادي حيث قضينا معاً بعض الوقت. ولما هم الجميع بالانصراف خطرت لي فكرة متابعة السهرة وتناول العشاء على شرفة فندق سميراميس الانيقة. اعجب الآخرون باقتراحي، خصوصاً عندما تعهدت تسديد الحساب. وفي الفندق الفاخر انقضى الوقت بسرعة وأزف موعد رجوع الصبايا الى بيوتهن فدسست يدي في جيبي املاً ان تخرج مليئة بالمال الكافي لدفع فاتورة عشاء ما يزيد على عشرين شخصاً. ويا لخيبتي حين اكتشفت اني كنت خالي الوفاض. طلبت المساعدة من احد اعضاء الشلة المقربين: احمد رمزي فاعتذر بداعي الافلاس ولم أشأ ان تنتهي السهرة بفضيحة، فانطلقت الى منزلنا القريب لاحضار المال. وهناك كان الجميع نياماً، وترددت في ايقاظ ابي لهذا السبب التافه. وفيما انا انظر يمنة ويسرة واجوب غرف المنزل في حيرة، وجدتني امام حصالة النقود التي تضع فيها شقيقتي مدخراتها فقلت لنفسي جاء المدد. افرغت محتويات الحصالة وعدت ادراجي الى الفندق حيث راقبني الشباب والشابات وانا أعدّ القطع النقدية الصغيرة واسلمها للنادل المشدوه الذي تنفس الصعداء في نهاية المطاف بعدما صارت قيمة الفاتورة 28 جنيهاً في حوزته. وفي اليوم التالي انفضح امر "السرقة" و"السارق"، فأعادت امي المبلغ الى صاحبته، وحرمتني من المصروف لمدة شهرين عقوبة لي على ما فعلت بدافع التباهي بالغنى والكرم امام صبايا شلة نادي المعادي".