يقيم قسم الفن الحديث في "معهد العالم العربي"، معرضاً باريسياً لأعمال محمد حجلاني، يستمر حتى 24 آب اغسطس المقبل. يقدم الفنان المغربي مجموعة من اعماله الاخيرة، التي تجمع النحت الى الصناعة الحرفية، والفن التشكيلي عموماً الى فن تصميم قطع الاثاث. وتنتمي هذه "المنحوتات - المفروشات"، اذا جاز التعبير، الى فن الديزاين اي فن التصميم الفني الذي نتناول في ما يأتي بعض ملامحه: أطرف ما في مسيرة محمد حجلاني انه جاء الفن عبر طريق ملتوية، ودخل مغامرة الابتكار آتياً من تجربة علمية وتقنية باردة. فهذا المبدع المغربي الشاب من مواليد 1957 في الدار البيضاء، اختار الديزاين او التصميم الفني مستجيباً لنداء خفي، ومنقاداً خلف رغبة عميقة قادته من عالم الارقام والقوانين الى لغة المخيلة واختبار الاحجام والاشكال، وتأثيث الفضاء المحيط. فقد بدأ حجلاني درس العلوم والتقنيات، وعمل اربع سنوات في مختبر لأبحاث الفيزياء النووية، ثم درس العلوم السياسية ونال شهادة دكتوراه في العلاقات الدولية. لكنه لم يدرس ابداً اي نوع من انواع الفن وتقنياته. بدأ مساره الفني في الرسم، ثم انتقل الى النحت قبل ان يكتشف انه يهوى ابتكار الاشكال وتصميم الأثاث وكل ما له علاقة بجمالية البيت. وفكرة التصميم الفني عرفت بدايتها في نهاية القرن التاسع عشر وتولدت من الشعور بضرورة اعطاء الاشياء والادوات المنتجة صناعياً والمحيطة بنا في حياتنا اليومية في المنزل او في مكان العمل، صفات وميزات انسانية كتلك التي تتسم بها الأشياء الناتجة عن الحرف اليدوية. واليوم صار الديزاين تياراً لجمالية صناعية تبحث عن اشكال جديدة متناسقة مع وظيفتها، سواء كان ذلك في الادوات العملية والنفعية كآلة التصوير مثلاً، او جهاز التلفزيون، او السيارة، او في الأثاث ولوازم السكن عموماً من ابريق تسخين المياه الى الاضاءة ومفاتيح الكهرباء... وعلى الديزاين ان يوفق بين فكرة جمالية يبتكرها المصمم او المبدع وبين التنفيذ الصناعي، اضافة الى شروط التوزيع الواسع الذي يفترض به مراعاة ذوق المشترين. الديزاين مرتبط اذاً بالانتاج الصناعي الكثيف وبذوق الجمهور الواسع. "الديزاين الجديد" لكن نهاية السبعينات، بدأت تشهد بذور عودة الى الفردية، وميلاً الى "التزيين" على عكس الاشكال المتقشفة التي اتسم بها الديزاين في المراحل الأولى. وفي هذه الموجة الجديدة، صار المصمم فناناً، يجري التعامل مع ابداعه المستقل ويتم الاعتراف بفرديته وشخصيته كما تظهر في تصاميمه، هكذا بات الشكل وشخصية المصمم يغلبان على الوظيفية: فاليوم لم يعد يكتفي المرء حين يقوم باختيار طاولة مثلاً، بأخذ معايير استعمالها المألوف في عين الاعتبار، بل صار يبدي اهتماماً خاصاً باسم المصمم الذي يعطي للسلعة قيمتها، المستمدة من اهميته وشهرته. وصار "التصميم الفني" شكلاً ابداعياً بالمعنى الكامل للكلمة. اذ يكفي، للتعرف على المبدع من خلال أسلوبه، ان نشاهد احد تصاميمه. فالكرسي او الطاولة أو أية قطعة اثاث اخرى، باتت تفصح عن هوية مبدعها، تماماً كما يتعرف هاوي الفن على لوحة لبيكاسو او لبول كلي. اليوم بات الجمهور يتعرف بسهولة الى هذه القطعة التي صممها الايطالي ايتوري سرتساس، او تلك التي تحمل توقيع غاروست وبونيتي... وضمن هذا السياق ينبغي التعامل مع فن محمد حجلاني وابداعه. فقد عمل هذا الاخير مع ثلاثين حرفياً من التقليديين في المغرب من ثماني اسر مختلفة، جاء معرضه مزيجاً من ابداعاته ومن خبرة الحرفيين ومهارتهم. في تصاميمه يلجأ الى جميع العناصر والمواد التي تستخدم تقليدياً في المغرب في مجال الحرف اليدوية التقليدية، لكنه يقيم بينها علاقة جديدة وغير مألوفة. قطع الأثاث لديه مكونة من المعادن الحديد والخشب المرصع بالعظم او الفضة، والقنّب والجلد. يبني حجلاني علاقات جديدة بين المواد المستعملة، مرتكزاً الى خيال حر،ّ فاتحاً الأبواب على مصراعيها امام امكانات الحرف التقليدية، ومحاولاً ادخالها في حركية الحيوية المعاصرة، من دون ان يحرمها اصالتها. تصاميم محمد حجلاني هي، بتعبير آخر، زواج بين تراث حرفي وثقافي وبين نزعة الحداثة. فهو يستوحي تصاميمه من الخيال ومن الثقافة. ولأثاثه حضور يتعدى وظيفته. ففي تصاميمه هذه يطرح مسألة تجدد الخبرة الحرفية وقدرتها على الخروج من اطار محدد. وبين الفن والصناعة، يدخل حجلاني في ما يسمى اليوم بپ"الديزاين الجديد". الا ان تصاميمه، على الرغم من خطوطها الحديثة ومن غرابتها، وطبيعتها غير المألوفة، فهي تحمل طابعاً عربياً واضحاً. وحجلاني، يقف لجهة تكوينه الثقافي، عند ملتقى حضارات عدة. فهو يقود سلطة السياسي والباحث العلمي، انه يهتم كثيراً بالحضارات الكبرى التي زالت، مثل الانكا، كما يهتم بحضارات القارة الهندية والتيبت، وتدخل محلها في اعماله عناصر كاللون الاصفر الدافئ، لون الشمس التي كانت عنصراً مكوناً في تلك الحضارات. ويقول حجلاني كذلك ان مثاله هو الانفتاح الانساني الذي كان شائعاً في العصر الاندلسي، حين زالت الحواجز بين العلوم والفنون. اشكال الخزائن والطاولات والمصابيح خارجة من مخيلة حجلاني ومن ذاكرته. هي ليست اشياء رأيناها من قبل، بل هي اشكال نتعرف اليها وتسائل ذاكرتنا دون ان تنسخ ذكرياتنا. فالعين تتعرف الى الانحناءات، كما تتعرف الى ما اخرجته ذاكرة الفنان، وبعض القطع اشبه بمنحوتات امتثلت فيها افريقيا المسلمة، مثل تلك الخزانة ذات الكوى النافرة التي تذكرنا بالقلاع المبنية من الآجّر في جنوب المغرب. الخشب كله مرصع بالعظم او بالمعدن المطلي بالفضة الذي اعطي شكل الارقام العربية، كما ان هناك بعض الحروف العربية. وكل حرف مرسوم وحده بشكل مستقل دون ان ينخرط في كلمة. يستعين حجلاني ايضاً بالحديد المنحوت، على شكل شبكة معدنية من الاحرف والأرقام. وبين المعروضات طاولة لفتت الانظار لأنها من خشب الارز الازرق ومن الحديد، مرصعة او مطعمة بالأرقام وبعض الاحرف، حتى لتبدو وكأنها خارطة للفضاء والنجوم لدى احد علماء العرب القدامى. حرف ملفتة ومن المعروضات الملفتة كذلك سرير من الحديد وحبال القنب، التفّت حولها اسلاك معدنية مشكلة ما يشبه بداية قبة صغيرة فوق رأس السرير. اما الشمعدانات فهي اشبه بالمنحوتات. قناديل الحديد المخرّم تفرج عن الضوء من خلال فراغات على اشكال احرف وأرقام. حجلاني لا يعطينا نسخة وفية عما رآه، بل يعطينا ثمرة ما نضج في داخله. ويدخل بعد اللعب والاكتشاف في تصاميم حجلاني، فبعض الخزائن له فتحات عديدة تغلق بقطعة جلد فقط. حتى انه لا يمكن مقاومة الرغبة في رفع كل قطعة جلد لرؤية ما في الداخل. هناك كذلك خزائن اخرى لها فتحات ضيقة مستطيلة، تدعوك الى القاء نظرة من خلالها وكأنك تنظر من خلال مشربية. اما الصندوق الخشبي الكبير، بما ادخل في تكوينه من جلد ومعدن وخشب مرصع، فانه لا يروي قصة ما، ولا يكشف اسراراً مشوقة، بل هو بحد ذاته قصة تتجسد بفتحاته العديدة وتكسبها الزخارف هالة وبعداً ساحراً. يدهش حجلاني بخزانته التي صنع قفلها من حبال القنب. شيء يثير الدهشة لغرابته. اما الحاجز - الباب فيشدّك الى فتح احد مصراعيه والمرور، لمجرد متعة العبور! يقوم عنصر اللعب في هذه القطع على بناء علاقة متحركة بين الخارج والداخل، بين المكشوف والمختبئ، المباح والممنوع، وهي علاقة تخاطب الخيال فضلاً عن مخاطبة العين. وربما استوحى حجلاني اسس مدرسة "الديزاين الجديد"، مبتعداً عن الناحية الصناعية والانتاج الكبير الموجه الى جمهور واسع، فصمم اشياء تبرز فيها شخصيته الفنية وتتسم بطابع ثقافي يغني بملامحه المختلفة، الثقافة العربية السائدة. علماً بأن مروره في الثقافة الغربية كان ضرورياً من اجل اكتشاف امكانية للخروج على المثال المكرّس في ثقافته من دون خيانة روح هذا المثال، لأن الانفتاح على الآخر لا يعني الغاء الذات. وفي جميع الاحوال يأتي عمل حجلاني متفقاً مع تقاليد الفن الاسلامي، الذي كان دائماً تعبيراً عن الجمال والاتقان في كل ما يتعلق بالحياة اليومية وكل ما هو وظيفي. فالاشياء والادوات المحيطة بنا لا بد، الى جانب وظيفتها، من ان تجمل وجودنا اليومي فيما هي تومئ نحو الجمال الخفي.