هنري فرعون، الوزير اللبناني السابق وأحد رجالات لبنان التاريخيين، اغتاله أحد مرافقيه السابقين في بيروت ليل السادس من الشهر الجاري. وعلى رغم كل العنف الذي شهده لبنان طوال سنوات حربه، الا ان اغتيال فرعون شكل صدمة شديدة، نظراً الى العلاقات التي نسجها الرجل مع كل الاطراف والزعماء اللبنانيين. كان يفترض ان يُنشر هذا اللقاء "تلفزيونياً" في نيسان ابريل 1971، كحلقة اخيرة من برنامج "سهرة مع الماضي" الذي كانت تقدّمه ليلى رستم وكنت اتولى اعداده. وبعدما كان التلفزيون اللبناني قدّم 51 حلقة مع مختلف نجوم السياسة اللبنانية، بينهم أربعة رؤساء، هم كميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو وصائب سلام وهنري فرعون. اعتذر فؤاد شهاب بحجة انه لا يتكلم. وقال الرئيس حلو ان الوقت لم يحن للكلام فهو كان ترك سدة الرئاسة قبل فترة قصيرة. وكان الرئيس سلام مشغولاً برئاسة الحكومة والرئيس شمعون بمرض زوجته السيدة زلفا. فاتصلت بهنري فرعون الذي أبدى موافقته. وخلال ثلاث جلسات تحدث اليّ فرعون وصوّر فريق فني من التلفزيون قصره واسطبل الخيول الذي يملكه، على اساس ان الحلقة كانت ستشمل ثلاثة مواضيع: ذكرياته السياسية، قصره، والخيول... وصباح موعد اجراء المقابلة تلفزيونياً اتصل بي فرعون هاتفياً معتذراً. فهرعت اليه محاولاً ان اثنيه، لكنني لم أنجح... ولم تسجل الحلقة، ولكن بقيت لدي مجموعة صور وأوراق تتضمن ما رواه لي يومها، هي التي انشرها اليوم مع التذكير بأن هذا اللقاء تم عام 1971. تحدث هنري فرعون عن "الميثاق الوطني"، ميثاق 1943، وكان يعتبره الحل الأفضل والأوحد لبقاء لبنان مستقلاً وموحداً. وانه جاء تعبيراً عن ارادة معظم اللبنانيين. وكان يرى في لبنان - شأن نسيبه ميشال شيحا - موطن الاقليات، وان تعايش الاقليات وتفاعلها يعطيان لبنان علّة وجوده. وكان يؤمن بعروبة لبنان... بتحفظ، ويرى في التعاون والتنسيق مع الدول العربية مصلحة لبنانية مهمة... شرط ألا يمس ذلك حرية لبنان في اتخاذ القرار المناسب. وكان حذراً في كلامه عندما يتعلق الكلام بشخصية ما. يبدأ جملة ولا ينهيها. أو يعيد صياغتها لتفي بالمعنى من دون الحاجة الى ذكر الاسماء. ولكن ما أن فتحت معه موضوع مشاركة لبنان في تأسيس جامعة الدول العربية حتى نسي التحفظ، فالموضوع يتعلق به شخصياً. ولجأ الى ارشيفه ليدعم قوله بالمستند. قال: "عندما انعقد المؤتمر العربي العام في الاسكندرية في تشرين الاول اكتوبر 1944 وانتهى الى توقيع بروتوكول الجامعة، لم أكن وزيراً. كانت الحكومة آنذاك برئاسة رياض الصلح وهو الذي حضر المؤتمر. ومع ان البروتوكول تضمن قراراً خاصاً بلبنان: "تؤيد الدول العربية الممثلة في اللجنة التحضيرية مجتمعة احترامها لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة..." الا ان عبارة أخرى وردت في المادة الأولى أثارت اخذاً ورداً في لبنان. كانت هذه العبارة تنص على انه "لا يجوز بأية حال اتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو اية دولة منها". "وبين بروتوكول الاسكندرية وتوقيع ميثاق جامعة الدول العربية الرسمي في القاهرة في 22 آذار مارس 1945 حصل تغيير وزاري في لبنان واصبح عبدالحميد كرامي رئيساً للحكومة وصرت أنا وزيراً للخارجية. وكان عليّ أن آخذ ملاحظات مختلف الزعماء اللبنانيين في الاعتبار لنعمل مع الأخوة العرب على تنقيح العبارة إياها في شكل يتيح للبنان حرية الحركة من دون المساس بالعلاقات الطيبة مع الدول العربية. وكان كميل شمعون آنذاك سفيراً للبنان لدى بريطانيا. وأدلى في لندن بتصريح عارض فيه البروتوكول بحجة انه يمنع لبنان من توقيع معاهدة صداقة مع فرنسا... وجاء تصريحه يصب الزيت على النار في وقت كنا في حاجة الى رص الصفوف. وردّ جورج نقاش على كميل شمعون بمقال عنيف في جريدته "الاوريان" عنوانه: أسكتوا السيد شمعون. وفي هدوء، وبعيداً عن المزايدات، وبالتعاون والتنسيق مع رئيسي الجمهورية والحكومة بشارة الخوري وعبدالحميد كرامي اجريت إتصالات مع مختلف الزعماء، ومن بينهم الرئيس السابق اميل اده ورياض الصلح وغيرهم، ونجحت في اتخاذ موقف لبناني موحد نقلناه الى القاهرة. وصدر ميثاق الجامعة خالياً من العبارة نفسها، بل حلت محلها اخرى تقول: "ان الدول الاعضاء حريصة على تعزيز الروابط الوثيقة التي تجمع بين الدول العربية على اساس سيادة واستقلال كل الدول"... وفي مادة أخرى: "ان الدول الاعضاء تتبنى مبدأ عدم التدخل في شؤون بعضها البعض الداخلية". ولجأ هنري فرعون الى الارشيف، الى خطابه في مجلس النواب اللبناني يوم 10/4/1945 الذي تكلم فيه على تأسيس الجامعة العربية، واستعاد منه المقطع التالي: "ان لبنان سيكون دائماً عضواً كامل العضوية في جامعة الدول العربية يسعده ما يسعدها ويحزنه ما يحزنها، مع تأكيدنا استقلالنا وسيادتنا فاننا نقول بالتعاون الوثيق مع العرب لأن هذا التعاون يقوينا ويجعل من الدول العربية كتلة واحدة في السراء والضراء". وعن ذكرياته عن الرؤساء اللبنانيين، قال انه أيد بشارة الخوري بحماسة، لا بسبب صلة النسب وإنما لتوافق الآراء. لكنه اختلف معه عندما عدّل الدستور لكي تتسنّى له الرئاسة لولاية ثانية... وانه اختلف مع كميل شمعون للسبب ذاته، وأسس وقتها تجمعاً عُرف ب "القوة الثالثة" يقف في الوسط بين أنصار شمعون وخصومه. وكان من رفاقه في "القوة الثالثة" يوسف سالم وشارل حلو وبهيج تقي الدين وغسان تويني ويوسف حتي ومحمد شقير وجورج نقاش... وكان مرشحهم للرئاسة عام 1958 يوسف حتي. وان بعض اركان المعارضة وافقوا عليه مثل عبدالله اليافي وصبري حمادة. إلا ان توافق الاميركيين مع الرئيس عبدالناصر كان حسم المسألة لمصلحة فؤاد شهاب. وفي عهد شارل حلو، وفي الحكومة التي شكلها عبدالله اليافي لتشرف على الانتخابات النيابية عام 1968 شغل هنري فرعون منصب وزير دولة، "استقلت واستقال معي وزير الداخلية سليمان فرنجية بسبب تدخل المكتب الثاني في الانتخابات، رجع فرنجية عن استقالته وأنا بقيت مستقيلاً". ومما قاله في ذكرياته عن الرؤساء: "كلهم كانوا فرانكوفونيين، لكن فرنسا لم تكن وراء وصول أحدهم الى الرئاسة. بشارة الخوري وكميل شمعون انتخبا بدعم من الانكليز، وفؤاد شهاب وشارل حلو بتوافق اميركي - ناصري". وكان معتزاً بانتمائه الى طائفة الروم الكاثوليك. وهوكان دائماً عميدها الزمني الى جانب البطريرك رئيسها الروحي. "الروم الكاثوليك ليس عندهم مطامح رئاسية. لذا يمكنهم ان يؤدوا دوراً فاعلاً كعنصر تهدئة وتقريب في وجهات النظر. وهذه مسؤولية حرصت دائماً على التزامها. وهذه الطبيعة تجعل السياسيين المنتمين الى هذه الطائفة ديبلوماسيين من طراز رفيع". وذكر اسماء، على سبيل المثال فيليب تقلا ويوسف سالم وفؤاد بريدي، ونجيب صدقة وجوزف ابو خاطر وادوار غرّه وخليل أبو حمد الذي كان يومها وزيراً للخارجية. اما عن بيته الذي اصبح قصراً ومتحفاً فروى حكايته: "بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى كان معظم الاثاث نُهب من بيتنا، وكان علينا ان نؤثثه من جديد. كنت اسافر كثيراً الى دمشق وحلب لشراء الخيول العربية. وفي المدن السورية كنت أعجب للغاية بالطراز العربي الاصيل في ديكورات البيوت واثاثها. وعام 1926 زرت قصر العظم في دمشق وتعرفت الى المشرف على ترميمه ويدعى لوسيان كافرو، وطلبت منه ان يهتم باعادة تأثيث بيتي على الطراز العربي، وقمنا برحلات عدة الى مختلف المدن السورية لشراء المواد اللازمة، بعضها اشتريناه خالصاً من اصحابه، وبعضها اوصينا عليه. وبدأت الورشة في بيتنا عام 1929 وانتهت في الستينات... ولكن لم تنته هواية جمع التحف. وفي منتصف الاربعينات قمنا بترميم خارجي لدعم الاساسات ولتوصيل بعض الخدمات الحديثة الى المنزل، واكتشفنا في الحديقة قطعاً اثرية ترجع الى العصر الاغريقي. الى جانب الديكور العام العربي الطراز الذي يجمع بين الرخام والمرمر والخشب المرصع المشغول مع بلاط الفاينس المستورد من هولندا. كل قطع الاثاث منتقاة بعناية، تنضم اليها مجوعة نفيسة من المخطوطات العربية القديمة والسجاد العجمي النفيس والايقونات المشرقية القديمة. وذكر هنري فرعون ان جورج ابو عضل وادوار غرّة هما من كبار جامعي الايقونات. وقال انه من مواليد الاسكندرية 1898، وانه درس الحقوق في فرنسا ومارس انواعاً من الرياضة في شبابه، منها التنس وكرة القدم. لكنه الآن 1971 لم يعد يمارس سوى لعبة "طاولة الزهر" في بيته أو في نادي "السان جورج"... الى جانب هوايته الدائمة: الخيول العربية.