منذ أكثر من ست سنوات، يشرف على وزارة الثقافة في مصر، فنان تشكيلي معروف بسعة أفقه ومراهنته على التحديث وعلى جيل الشباب. هذا الفنان هو فاروق حسني الذي يحتل دائرة الضوء باستمرار في بلاده. فمن حملة انتقادات تتعرض لها سياسته الجريئة، الى حضور في قلب النقاش يفرضه تحوّل جديد في تعاطيه مع الحركة الثقافية وطرق ادارتها، يبدو الوزير الشاب مصمّماً على إحياء النقاش وتجديد الذهنيات، لاعباً ورقة التواصل لا القطيعة مع إرث الماضي القريب. "الوسط" زارته في شقته المطلة على النيل، محاولةً الاقتراب من تطلعات الوزير ورؤى الفنان. في شقته المطلة على النيل، في الطابق السادس من بناية حديثة في محافظة الجيزة، كان هذا اللقاء مع وزير الثقافة المصري فاروق حسني. من شرفته نرى فندق ميريديان والنافورة ومتحف محمود خليل وبيت السادات وبيت محمد حسنين هيكل، ولولا فندق شيراتون القاهرة لرأينا الاوبرا وبرج القاهرة. أما الداخل، فقد وصفه الكاتب أنيس منصور بأنه متحف. منذ ولد فاروق حسني في غرفة ترى البحر على شاطئ الاسكندرية، وهو ينقل نافذته البحرية معه: من شقته المفروشة المطلة على النيل بداية الستينات، الى باريس حيث جاور السين، وصولاً الى روما حيث سكن مبنى الاكاديمية المصرية في قلب فيلا بورجيزي. ومن شقة المعادي على صغرها الى شقته الحالية، يبدو فاروق حسني متدفقاً بالحيوية، ممتلئاً بالافكار. الحوار الآتي جرى دون اتفاق أو تصوّر مسبق، بعفويّة أقرب الى البوح أو التواصل الحميم بين صحافي وفنان. بدأ بالمصادفة من مكان ما، وانتقل من العام الى الخاص، كأنهما لا ينفصلان عند الفنان الوزير، الذي عاد للمناسبة الى أفكار وطروحات ورؤى سمعتها منه عام 1985 في روما، أي قبل دخوله الحكومة بأكثر من عامين. وقد أضافت الايّام الى أحلام الامس بعداً واقعيّاً هو حصيلة خبرة ميدانية شاقة، لاتكف عن حمل المفاجآت والدروس. هل ترى أننا بحاجة الى طرح جديد للدعوة التي أطلقها طه حسين في الاربعينات تحت اسم "مستقبل الثقافة في مصر"؟ هل نحن بحاجة اليوم الى استعادة مثل هذا الطرح؟ - طه حسين تحدث عن المضمون الثقافي وأعتقد أن دعوته ما زالت راهنة. لكن الطرح الثقافي لابد أن ننظر اليه نظرة أخرى، غير النظرة الفلسفية. مستقبل الثقافة عندي مرتبط بمفهوم مستقبل الابداع، مستقبل الهوية، ومستقبل حجم الانتاج. ومعنى الطرح الثقافي، هو أن تطبّق مضمون هذا الطرح على الشعب وحاجاته وتطلعاته وواقعه الراهن، وأن تعالجه على ضوء علاقات الغرب والشرق، الشمال والجنوب. ما هي العناصر المكوّنة لمثل هذا الطرح؟ وأين تكمن علاقته العضوية بمستقبل الثقافة في مصر؟ - الطرح الثقافي يعتمد بطبيعة الحال على المضمون والفحوى. وبقدر ما يقوم مضمون النقاش على أسس واعية ومدركة، بقدر ما تكون الرؤية العامة الى المستقبل قائمة على خلفيات وأسس ومنهج وفلسفة وهدف. بالنسبة الي، مستقبل الثقافة في مصر، يدعو الى التفاؤل، لأن كل المراكز الثقافية الآن تنتعش، وبدأت تتخذ شكلها المفروض، ونشطت على مستوى عال، مما يتيح للمبدعين فرصاً لا تحصى، خاصة الشباب الذين بدأوا يخرجون انتاجاً باهراً. وهذا الانتاج الباهر يأخذ شكلاً منتظماً ومنظماً، مما يساعد المنظمين ومعدّي البرامج على طرح تصوراتهم. وأنا، حين أقدّم طرحاً ثقافياً، فإنني أفكر في الزمان والمكان والنوعية: لمن أقدم الثقافة؟ أللمثقفين أم للعامة؟ أنا شخصياً أضع العامة نصب عيني، عند رسم اطار أي سياسة ثقافية. أما المثقفون فلهم الاختيار. والثقافة لا تحدّدها مفاهيم شخص واحد، بل هي خلاصة روافد ومفاهيم كثيرة. كما أن الابداع ليس قراراً، ولكل انسان منظوره للثقافة، وخياراته واحتياجاته. العامة قد لا تدرك احتياجاتها الثقافيّة بهذه الآلية، من هنا تبدو مهمّتي بشكل أساسي محاولة كشف آفاق هذه الثقافة، بتنويعاتها المختلفة، ووضعها في متناول أوسع دائرة ممكنة من المواطنين. وماذا عن الجانب الاقتصادي لهذه السياسة؟ - سؤال في مكانه. فنظرتنا الى السياسة الثقافية، وفهمنا لدورنا في الحكومة، لا مفر من استكماله عن طريق ترسيخ البنى الاساسية. لذلك فنحن نسعى، عبر الاهتمام بالمعاقل الابداعية وشبكات التوزيع والانتاج، الى تثبيت بنى راسخة ودينامية تضمن رواج الحركة الثقافية وازدهارها. فالعملية الثقافيّة قبل كل شيء لقاء بين منتج ومستهلك، واللقاء - هذا ما ينساه المبدعون والمثقفون وبعض المسؤولين أحياناً - بحاجة الى روافد مادية حيوية، الى مساحة مادية ومعنوية، الى حلقة انتاجية تبدأ من أماكن تقديم المادة الثقافية الى جمهورها. ليس لدينا أي حرج اليوم، في النظر الى الثقافة بمفهوم اقتصادي و"انتعاشي". فطموحنا هو الإرتقاء بالثقافة والقيام بعملية تحديث، تقطع نهائياً مع النمط الطفيلي والاتكالي. لا بد أن تساهم قطاعات الثقافة في الدعم الذاتي، فتكون الفائدة حضاريّة ومعنوية أوّلاً، ثم تعود بالدرجة الثانية على منتجيها وعلى الدولة التي ترعى قيامها، بالخير الاقتصادي. وهذا التوجّه يتطلب تكوين مجموعات من المؤمنين بالعمل الثقافي، لأن العمل الثقافي إيمان وعطاء أوّلاً، كما أنه مراس وخبرة واطلاع. نحن الآن نكوّن كوادر على دراية بالعمل الثقافي، كي يكونوا على مستوى الرسالة المناطة بهم. الثقافة رفاهية واستمتاع! كيف يمكن التوفيق بين هذا الطرح الاقتصادي للثقافة، وبين دور القطاع العام الذي ينظر اليه بصفته صاحب رسالة ودور، وفي خدمة المواطن؟ هل يقبل الرأي العام التوجّه المحوري لسياستكم، ويمكن اختصاره بنهج "الاستثمار الثقافي"؟ - معالجة الجانب الاقتصادي للعمل الثقافي، لا يعني بأي شكل من الاشكال استقالة الدولة من دورها وتنصلها من رسالتها تجاه المواطن. لا نهدف الى الغاء البعد "الخدماتي"، بل الى تدعيمه. فالمفروض وأنا "أبيع" الثقافة، أن يدر عليّ ذلك دخلاً يخوّلني الصرف على انتاجات أخرى، خاصة تلك التي تحتاج فعلاً الى الدعم. آخذ من الاغنياء الذين يقدرون على شراء الانتاج الثقافي، لأصرف على من لا يستطيع الشراء في القرى والاطراف، وعلى المبدعين من الشباب. توجهنا يمكن اختصاره بعبارة بسيطة: الاقتصاد في خدمة الثقافة. أليس هناك خطر في تحول هذا الطرح الى نمط انتاج يشجع الترف والرفاهية، يهمّش الثقافة ويجعلها امتيازاً للقلة القادرة؟ - الثقافة رفاهية واستمتاع، وغذاء للروح والعقل. اقصد الرفاهية الاقتصادية وليس الرفاهية النفسية... أي أن تصبح الثقافة سلعة مرتفعة الكلفة على المتلقي، مما يحصر دائرة المستهلكين ويجعل الاقبال حكراً على فئة دون أخرى. - الثقافة سلعة في كل أنحاء الدنيا. في مصر فقط لدينا عُقد وحساسية من استثمار الثقافة. لا أحد في العالم يأتي ويقرع على بابك ويهديك كتاباً وأسطوانتين وتذاكر سينما ومسرح أو مقعدين في الاوبرا! الثقافة سلعة. تغيير النظرة الى الثقافة من "خدمة عامة" الى "سلعة" بحاجة الى جهد خارق... - كل جهودي منصبّة في هذا الاتجاه. وعلى قدر الامكان أتسابق مع الزمن، لايجاد البنية الاساسية الحقيقية، وتحديث الرؤى الثقافية والعمل الثقافي، والانتشار، وايجاد الرموز البشرية الجديدة، الاهتمام بكنوزنا من المبدعين، واكتشاف مبدعين جدد، والوصول الى أعمق مناطق الريف، والاطراف المحرومة، والوصول بالعمل الثقافي الى مستوى التبادل العالمي الرفيع الذي ينمي القدرة على الابداع والاحتكاك. لابد أن نتابع مسيرة العالم، إنه يتجه الى الابتكار. كفانا تكراراً لتجارب الامس. لا بديل من الابتكار، وإلا عشنا في الماضي البائد وتخلفنا عن العالم على مستوى الرؤى والخيال. نحاول أن نتعامل مع مختلف الطاقات الابداعية والمواهب، لاثراء الواقع الثقافي والتحريض على الابداع المعاصر والجريء الذي يضع الغد نصب عينيه، ويفتح طرقاً ومسالك جديدة. لنعطِ السلطة للمخيلة والذكاء، لنواجه المجهول بحزم وشجاعة، ولنعد اختراع الوطن في منظار المستقبل. ما هي ملاحظاتكم على الحركة الابداعية في مصر، من حركة التأليف والترجمة والنشر والموسيقى والفن التشكيلي... وغير ذلك من عناصر الانتاج الثقافي الذي تبحثون له عن آفاق جديدة؟ - الابداع مستمر، لكن حركة الترجمة متقاعسة أو تعتمد الرؤية المستقبلية. أما الحركة الابداعية فتعرف فورة تستحق الاهتمام، على يد جيل شاب من الشعراء وكتاب القصة والفنانين التشكيليين والمسرحيين والموسيقيين. وأنا كمثقف أرصد هذه الابداعات، وكوزير للثقافة أشعر بالتفاؤل إزاءها لأنها بذور المستقبل الذي أساهم في بنائه. يجري الحديث في القاهرة عن "الازمة"، فهل تعتبرون ذلك من قبيل الافتعال؟ هل هو مجرّد خطاب أو ذريعة بيد بعض المعارضين لسياستكم، ممن يناسبهم التنويع على "فكر الازمة"؟ - مصلحتي كوزير ثقافة هي مصلحة الدولة، وليست لي مصلحة أخرى. وكوزير يخوض المعترك كل يوم وكل لحظة، ويواجه الواقع على حقيقته، لي نظرة محدّدة وتوجه معين أتحمّل مسؤوليتهما كلياً. وفي إطار ممارسة مهماتي وتطبيق سياستي على الارض، هناك اجراءات أو خطوات قد تأتي على حساب بعض المبدعين أو بعض أصحاب المصالح. والمصالح موجودة: حتى وزير الثقافة له مصلحة في سير العمل في الاتجاه الذي يراه. لكن هناك صراع مصالح يتعارض مع تحقيق النفع العام الذي أسعى إليه، على قاعدة التسابق مع الزمن. وهذا الصراع والتمسك بالامتيازات، يعزز النزعات التقليدية التي لم تتجدد، لوجود مهيمنين على الحركة الثقافية يهمهم بقاء الحال على ما هو عليه، لأنهم مستفيدون، سواء لجهة المراكز والمناصب، أو التسويق وبيع الانتاج، أو النجومية، إلخ. أتحرك انطلاقاً من قاعدة التجرد والموضوعية التي لا مصلحة فيها لشلة معينة. وليس لي شلة معينة أدافع عنها. أنا أدافع عن مفهوم، هذا المفهوم له رجاله. وقد ألجأ دون حرج الى شخص من المناهج القديمة على أساس الكفاءة، في الوقت الذي أطرح أسماء من الاجيال الجديدة. في النهاية أنا واحد من الباحثين عن القيمة والنوعية. أنا مبدع وأحب الابداع والتفوق، كما أنني غيور على وطني وعلى ابداعات الوطن. أنا مع المبدع ولست ضدّه. وعملي لمنفعة الجماعة وليس لصالح أفراد. كفنان أرضي النفس بإبداعاتي، أمّا مفهوم العمل الثقافي فقائم على المنفعة العامة. هل يمكن أن نعزو الفراغ الذي يتحدث عنه البعض الى غياب عدد من رواد الثقافة المصرية في السنوات الاخيرة؟ - يجب ان نتفاءل... ففي أمس قريب أو بعيد مات العقاد وطه حسين والحكيم وأم كلثوم وعبدالحليم، وأخيراً مات لويس عوض ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالوهاب. هل معنى ذلك أنّ علينا أن نطفىء الانوار وننسحب؟ لابد، على العكس من ذلك، أن نسلّط الانوار كي نعثر على الرموز الجديدة. لابد أن نتحدى الزمن وأن نتفوق على الحتميات. عندما يموت رمز ثقافي لابد أن تبرز طاقات عديدة لأخذ مكانه. أنا بطبيعتي غير متشائم، بل أنني متفائل الى أبعد حد، وأرى دائماً الوجود جميلاً، وأرى المستقبل أجمل. هذا تفاؤلك. ولكن على مستوى الواقع، هل هذا حقيقي؟ - الفترات الماضية من تاريخ مصر خلقت أبطالاً. أحداث بداية القرن ومفترقاته الحاسمة خلقت الرجال. الوطن كان بحاجة الى تأصيل الرؤية، الى ايجاد فن قومي، الى مقاومة الاستعمار، فإذا بمجموعة من المفكرين والمبدعين والفنانين يستمدون من الشعب زخمه ليقدموا عطاءاتهم المميزة. هكذا تمت ولادة فنون جديدة في المسرح والسينما والقصة والشعر والرواية والفكر. كما أن الاتصال بالغرب كان وطيداً، وكل كتابنا الكبار كانوا على اتصال ببدايات الحركات السياسية والثقافية والفنية العالمية. أما العالم فهزه في النصف الاول من هذا القرن حربان عالميتان، وتأثرت مصر، وارتجت لهما. في تلك الاثناء اختلطت الطليعة المصرية في الخارج، بما شهده العالم من حركة وتجديد وتغيير في الفكر والفن، فتأثروا وشعروا بالمسؤولية، وعادوا الى مصر. كلّ روادنا ثقافتهم موسوعية، وكل فرد منهم عبارة عن مؤسسة كاملة تشع في كل الفروع. هذا المناخ انهار بغياب مجموعة من الاسماء البارزة. ولابد اليوم من صياغة مفهوم جديد، من فتح الثقافة على جمهور الشباب، تمهيداً لبروز جيل قادر على أخذ مشعل الرواد والمضي على الدروب التي شقّها الاسبقون. نعمل في وزارة الثقافة انطلاقاً من هذه القاعدة الذهبية. هناك من يأخذ علينا الاهتمام بالموسيقى والفن التشكيلي. هذا اهتمام لن نتنازل عنه، لأنه الامتداد الطبيعي للادب، وسائر الابداعات الشفوية والمكتوبة. كلنا متفقون على أن الوضع اجتاز حالة ركود وأزمة وما زال. لكن كيف نطبب المريض؟ هذا هو السؤال. لابد من علاج شامل لا يقتصر على نوع محدد من الدواء. القاهرة منبر لكل عربي الدعوة الى ريادة مصرية هل تتعارض مع التواصل العربي؟ - الريادة لا تحتاج الى دعوة، فهي فعل مستمر. والريادة امكانات وليست كلاماً. لا نستطيع القول إن مصر، أو أي قطر آخر، لابد أن تقود الحركة الثقافية العربية. من يملك الامكانات الثقافية هو الذي يقود. في مصر الآن بنية ماكنة: متحف الفن الحديث، متحف محمود خليل، متحف الجزيرة... وسوف ننشىء أكبر متحف في العالم، وننشىء معاقل ثقافية كثيرة، ومراكز ثقافية متطورة مثل المانسترلي وقصر الاميرة سميحة وبشتاك والقصور المتخصصة، ومهرجانات الفن والتراث، ولقاءات المبدعين. كل هذه مساهمات ومحاولات، فالريادة لا تفرض بالامر الواقع. هل هناك تنافس ثقافي بين الحواضر العربية المختلفة؟ - التنافس مطلوب، لأن الثقافة ابداع انساني. لا أعتقد أن القاهرة بحاجة الى التنافس. القاهرة منبر انساني، منبر عالمي، هي عاصمة ثقافية أساسية في العالم، ومن يحاول أن يحقق الموقع نفسه، فهذا حقه وواجبه. حين تصبح عاصمة عربية في تألق القاهرة، ففي هذا مصلحة للثقافة العربية وليس ضرراً. هل ترون أن القاهرة بجوّها الثقافي الراهن، قادرة على أن تكون وعاء للثقافة والابداع العربيين؟ - نعم. ونحن نسعى الى ذلك. لدينا الاوبرا ودور المسرح والسينما وقاعات الفن التشكيلي والمتاحف. وعلى مستوى الابداع، فان الاوبرا تعمل بانتظام، وبدأت تبرز ارهاصات حركة مسرحية جديدة. أنا ضد من يقول بعدم وجود مسرح في مصر، يوجد مسرح في مصر وخاصة على مستوى الشباب. والسينما المصرية عادت الى الانتعاش، مع التطور التقني البارز، وبعد مبادرة وزارة الثقافة في اتاحة دور عرض مجددة، ومهرجان قومي للسينما، بخلاف مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. هناك أيضاً مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، والمهرجان الدولي للفنون الشعبية، ومعرض القاهرة الدولي للكتاب. إننا نحضّر القاهرة يوماً بعد يوم للعب دورها، ونضيء مناطق كانت مغلقة. نحن في الطريق، ولا احد يصل بهذه السهولة، الى نهاية الطريق. كما أن اختيار القاهرة لتكون عاصمة الثقافة العالمية في العام 1997 ليس أمراً اعتباطياً ولا من قبيل المصادفة، بل أنه اعتراف عالمي بدورها ومكانتها. هل تحمل القاهرة، هماً أساسيّاً، دعوة كبرى؟ - زمن الدعوات فات، علينا اظهار ما لدينا وحسب. الدعوة قائمة كل يوم، توجد آفاق وقضايا ومشاغل مشتركة عدة. فالقاهرة ملك العرب، ومفتوحة لأي مبدع عربي يود أن يجيء ويعطي ما لديه. شئنا أم أبينا القاهرة منبر عالمي، وحلقة اتصال بين الشمال والجنوب، وهي مفتاح الشرق ومفتاح الغرب. القاهرة منبر لكل عربي، هذه هي دعوتي. نصل الى المعارك التي يخوضها فاروق حسني أو التي تخاض ضدّه. فقد انتقد عدد من المثقفين سياستكم في الفترة الاخيرة... - الذين يهاجمون سياستي هم من أعداء التحديث لأنهم يملكون رؤى قديمة ويستأنسون لها. إننا أمام تحديات جديدة تفرض علينا مواكبة العصر والقيام بعملية تحديث تطال كافة مستويات الثقافة. لكن هؤلاء المنتقدين يقصرون رؤاهم على مصالح وحسابات ضيقة، ولايريدون افساح المجال لغيرهم. سياستي تعتمد على تقديم رؤية شاملة لكل فنون الابداع وعدم التوقف عند شكل محدد، ورغم ذلك لم نقصّر مع الابداع الادبي. لكن البعض يرفض اقتطاع جزء من الحياة الثقافية لصالح إبداع آخر غير الكتابة والادب. منتقدو هذا التوجه يشعرون ان الارض تميل تحت اقدامهم. اللغط حول جوائز الدولة إندلع أخيراً سجال حاد، حقق إجماعاً في صفوف المثقفين المصريين، حول منح جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية الى رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقي ورئيس مجلس الشعب الدكتور أحمد فتحي سرور. هل يجوز أن يفوز أكبر مسؤولَيْن في مصر بعد رئيس الجمهورية بأكبر جائزة مصرية؟ لقد لاقت النتيجة استهجاناً شاملاً حتى في صفوف مؤيدي الحكومة! - أعتبر هذه النتيجة التي وصل اليها المجلس الاعلى للثقافة في منتهى الشجاعة. ويكون الامر في منتهى الخسّة والضعف لو فسّرنا الفوز على ضوء المنصب السياسي الرفيع لكل من الفائزين. المجلس الاعلى للثقافة لا يتلقى أوامره من أحد ولم تُفرض عليه أسماء معينة. كما أن المجلس الاعلى للثقافة لا يرشح الفائزين إنما تقوم بذلك الهيئات العلمية. وفي هذه الحال لا يملك المرشح أن يعتذر، ولا يملك المجلس الاعلى للثقافة أن يرفض الترشيح، بل يصوت أعضاؤه بالسلب أو بالايجاب. وهذه مخاطرة يدخلها المرشح، وخصوصاً الرجل السياسي: أن يقف تحت رحمة وحكم رجال الثقافة، وهذه جرأة من السياسيين وجرأة من المجلس رغم أقاويل الكثيرين. كل التعليقات على الجائزة ساخرة وسلبية. - التعليقات سلبية لأن أصحابها فكروا دون حياء وبشكل منحاز، وربما حركت البعض أغراض وأغراض. أعضاء المجلس الاعلى للثقافة في مصر أناس بلغوا من الرقي والحكمة والوقار مكانة تجعلهم غير محتاجين لشيء، وبالتالي فإن المعايير التي اعتمدوها في الاختيار تأتي مجردة من كل شبهة. استقال من عضوية المجلس مفكر كبير هو الدكتور اسماعيل صبري عبدالله احتجاجاً، وهو مفكر له وزنه، ألم يكن ذلك كافياً للمراجعة؟ - سألت الدكتور اسماعيل صبري عبد الله: هل أنت تقدر المرشحين للجائزة - سياسياً أم بشكل علمي؟ فما الذي يجعل المجلس متحرجاً؟ ولماذا يستقيل الدكتور عبدالله؟ كان بإمكانه أن يرفض اعطاء صوته لهما. لم يضغط أحد على اعضاء المجلس ليوافقوا على الدكتور عاطف صدقي والدكتور فتحي سرور بالذات. لنرجع الى المكان الخلاب الذي يحتضننا. هذا هو بيتك الذي كتب عنه أنيس منصور أنه متحف؟ - نعم. احب فيه مجموعة السجاد والكليم، ومجموعة المقتنيات ولوحاتي. وفي الاثاث لا تجد قطعة تشبه أخرى. إنّه تباين دون تنافر. وأولي الاضاءة فيه اهتماماً خاصاً. ما هي مقتنياتك؟ - لوحات من راغب عياد وأنجي أفلاطون ومختار وآدم حنين وسيف وانلي ومحمود موسى والجزار ومجدي قناوي ومنير كنعان ونوار ومصطفى عبدالمعطي. ومقتنيات من فنانين تلقائيين من أسيوط وأسوان: سجادة وتمثال. ومقتنيات من فنانين شبان، من طارق الكومي. وتمثالان من جمال عبدالناصر، ومن الخزافين محيي الدين حسين ونبيل درويش وسعيد الصدر، ومن الخطاطين محمد ابراهيم. بالاضافة الى مقتنيات من فنانين أجانب: جينتلليني وسينسكا ايطاليا وبوشيه سويسرا وماسو فرنسا... المكان يتسع للرسم..؟ - عندي مرسم واسع ومريح، وأنا أرسم حالياً، خاصة بعد ان اخذت هذه الشقة... أفضل سنة رسمت فيها هي سنة 1991. كم عدد اللوحات التي بعتها؟ - كثيرة جداً، لا أعرف عددها. عندي مدير فني إيطالي إسمه سينسكالكو، وهو من أهم المديرين الفنيين في أوروبا. أول معرض نظمه لي كان سنة 1981. نظام المدير الفني افضل للفنان؟ - طبعاً. الفنان لايعرف كيف يبيع، وليس له ان يبيع. المدير الفني يكون على اتصال بمشترين، وبنقاد معروفين يتولون الكتابة عنه لتسهيل انتشاره، وارتفاع سعره واسهمه. هناك مثلاً لوحات بعتها قبل الثمانينات وأريد استردادها الآن بأي ثمن. هذه لوحة لي أعدت شراءها من رجل أعمال في باريس، مقابل ثلاث لوحات جديدة، لأنها تكتسب أهمية خاصة في سياق تجربتي. وتلك لوحة أخرى رفضت بيعها بمئة الف جنيه لطارق نور فنان الاعلانات الشهير. وعندي لوحة رسمتها وعمري 15 سنة وبعتها، ولكنني استردّيتها لاحقاً مقابل لوحة كبيرة وجديدة. أصعب شيء أن ترسم لوحة ثم لا تجدها في اليوم التالي، المال ينفق ولكن اللوحة تبقى. عندي هنا لوحة لراغب عياد اشتريتها ب 6 آلاف دولار منذ بضع سنوات، كم ثمنها الآن؟... ولوحات للجزار وسيف وانلي. أنت أغلى فنان تشكيلي في مصر؟ - يوجد من لهم الاسعار نفسها، وأنا مع مدير فني دولي له رأي في تسعير أعمالي، ولكنني في مصر أخفض السعر طبعاً. من يحدد الاسعار للوحات الفنية في مصر في غياب "المدير الفني"؟ - العرض والطلب. الفنانون الجيدون في مصر لا يعانون العوز او الضيق؟ - الخامات غالية جداً والفنان يتكلف كثيراً. الفنانون التشكيليون في مصر "غلابة". منصبك كوزير حرك أسعار لوحاتك نحو الاعلى؟ - لا... طوال عمري سعر لوحاتي معروف. ألم يلعب منصبك أي دور في الترويج لاعمالك ورفع ثمنها؟ - الشعبية زادت، بينما لم أكن معروفاً في السابق، إلا من أهل الوسط والمقتنين ومحبي الفنون الجميلة. أما البيع فمسألة أخرى. لن يشتري أحد شيئاً لا يريده. لا بقشيش ولا مجاملة في سوق الفن. هل ترى أن وزارة الثقافة ضرورة، أم أن ضمها للاعلام مثل العديد من الدول العربية أفضل؟ - إذا لم تكن وزارة الثقافة ضرورية في مصر، فأين تكون ضرورية؟ الكم الهائل من الثروات التراثية والفكرية والحضارية التي نشرف عليها تجعل من وزارة الثقافة في مصر أغنى وزارة ثقافة في العالم.