أمير منطقة الرياض يرعى احتفاء «تعليم الرياض» بذكرى يوم التأسيس    «الإحصاء»: 18.1% ارتفاع للصادرات غير البترولية في 30 يوماً    إطلاق «المسح الصناعي» لتحديث بيانات المنشآت الصناعية بالسعودية    هل يرأس «الأصفري»الحكومة السورية الجديدة ؟    الخليج يهدد العميد.. والاتفاق يخشى «السكري»    الأخضر الشاب يتحدى الشمشون الكوري في نصف نهائي «آسيا»    مجلس الوزراء: الموافقة على اتفاقية مقر بين حكومة السعودية والاتحاد الخليجي للبتروكيماويات والكيماويات لنقل المقر الرئيس للاتحاد إلى الرياض    المملكة تستضيف ندوة إقليمية حول "خصخصة أمن المطارات ونقطة التفتيش الأمني الواحدة .. فرص وتحديات"    مستشفيات وعيادات دله تُعلن مواعيد العمل في رمضان.. والطوارئ والصيدليات على مدار الساعة    "سعوديبيديا" تحتفي بالإرث التاريخي للمملكة في يوم التأسيس    582 مستفيداً من قافلة طب الأسنان في أسبوعها الثاني بجازان    وزير «الشؤون الإسلامية» يحذر: لا تنجرفوا وراء أي إعلانات لجمع التبرعات    أمير المنطقة الشرقية يطلع على مبادرة "شيم"    "مسام".. نموذج ريادي في العمل الإنساني لنزع الألغام وتخفيف معاناة اليمنيين    اتفاقية بين "الإعلام السياحي" وطالبات تقنية النماص لمواكبة النمو الاقتصادي    وزير إسرائيلي يقر بعرقلة إطلاق الأسرى الفلسطينيين    انتهاء مدة تسجيل العقارات ل 158 حياً ب 3 مناطق.. الخميس    دراسات المدينة تستعرض الجذور التاريخية للتأسيس    بعد 21 عاماً من عرضه.. «العريان»: جزء ثانٍ من فيلم «تيتو» قريباً    مسابقة الوحيين في إندونيسيا.. التحدي والتفوق    مجلس الأعمال السعودي - الأردني يؤكد أهمية التعاون والتنسيق المشترك لتعزيز التعاون الاقتصادي    "الشؤون الإسلامية" تستعد لاستقبال 250 معتمراً من ضيوف خادم الحرمين الشريفين    الدولار يرتفع بعد هبوطه إلى أدنى مستوياته في أكثر من شهرين    القيادة تهنئ أمير دولة الكويت بذكرى اليوم الوطني لبلاده    أمانة الشرقية تطلق الهوية البصرية الجديدة ل (سوق الدمام)    زلزال بقوة 5.1 درجة يضرب خليج البنغال قبالة الهند    إصابة أسترالية بالشلل بسب فرشاة مكياج!    طقس شديد البرودة وصقيع متوقع في عدة مناطق بالمملكة    مستشفى الولادة والأطفال بالدمام يجسد تاريخ الوطن في ذكرى يوم التأسيس    وزير الدفاع الأمريكي يستقبل وزير الدفاع ويعقدان اجتماعًا ثنائيًا موسعًا    «الصحة»: تحصّنوا ضد «الشوكية» قبل أداء العمرة    الاتحاد السعودي للسهام يتوّج الفائزين في منافسات «السهم الأسود»    إستراتيجيات فعالة للتعامل مع الزوج العصبي !    وزير الداخلية وممثل الأمين العام للأمم المتحدة يبحثان الموضوعات المشتركة    العروبة يتغلب على ضمك.. والفتح يواصل صحوته    في نصف نهائي كأس ملك إسبانيا.. صراع مثير بين برشلونة وأتلتيكو مدريد    نيوم يحلق بالصدارة.. النجمة يكسب الفيصلي.. تعادل الطائي والبكيرية    ترامب: واشنطن تجري مباحثات جدية مع بوتين.. الحرب الروسية – الأوكرانية تقترب من النهاية    الكهموس يبحث التعاون مع" هونج كونج" في مكافحة جرائم الفساد    تعزيزاً للأمن الغذائي وسلاسل الإمداد.. 80% حصة «سالك» في «أولام الزراعية»    الجغرافيا تتلاحم بالتاريخ    السودان: الجيش يسيطر على جسر سوبا    اختلاف طباع الناس    1373 حالة ضبط لممنوعات بالمنافذ خلال أسبوع    جريمة تهز باريس.. أمريكية تلقي بمولودها من نافذة فندق    غزارة الدورة الشهرية (1)    الصحة: فيروس ووهان ليس جديداً ولا يشكل خطراً حالياً    خطة جوزيف بيلزمان لغزة تستثير الموقف العربي من جديد    الارتقاء بصناعة الخير    مرات تحتفل بيوم التأسيس    بلدية وادي الدواسر تحتفي ب «يوم التأسيس»    "الأحوال المتنقلة".. اختصار الوقت وتقليل الجهد    جامعة الملك سعود توقع مذكرة تعاون مع مركز زراعة الأعضاء    الرواية وجائزة القلم الذهبي    رئيس هيئة حقوق الإنسان: السعودية حريصة على نصرة القضايا العادلة    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير إدارة جوازات المحافظة    "الشؤون الإسلامية" تنهي فرش 12 جامعا بمنطقة القصيم    وقفات مع تأسيس السعودية وتطورها ومكانتها المتميزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الطرب و"سميعة" آخر زمان !
نشر في الحياة يوم 12 - 07 - 1993

ليس نادراً، وأنت توغل في الريف التونسي ولا أحسب الأمر يختلف في الأرياف العربية الأخرى أن يستوقفك مشهد فلاح أو راع فاغر فاه الى جوار مذياع "ترانزستور" يحمل اليه صوت أحدهم يصرخ "ديدي يا ديدي" أو "إيه الحكاية... إيه الرواية"، أو أي "طبخة" أخرى يغترب فيها النغم العربي وسط هواء الآلات الالكترونية! وتقول في نفسك سقى الله زمناً كان ذاك الراعي أو الفلاح سيد ذاته ومطربها، يملأ المدى بشدوه أو يميل الى قصب الأودية فيقتطع لنفسه نايا أو شبابة يخرج منها أصواتاً أصيلة الروح بسيطة الأداء مفعمة بالحياة! إن صورة الراعي النافخ في نايه معتزلاً الناس، ليست محض ابتداع أدبي، وانما حقيقة تلمّس الأدباء من خلالها نموذجاً للتواصل مع الطبيعة والإصغاء لأصواتها العميقة.
وإنك تجد، الى اليوم، "القصبة"، ناي البدو، تباع في أسواق الأرياف التونسية مزخرفة بخطوطها الحمراء. ولكن زمنها، في الحقيقة، ولّى منذ أن أبتليت بمن أقحمها في منظومة الاستهلاك ومسالك التجارة، فآذن ظهورها كسلعة ببدء اندثارها كوسيلة بسيطة وعبقرية للتعامل الحر مع الطبيعة!
إن للعازف الذي يصنع آلته الموسيقية بنفسه طقوساً وأسراراً وخيمياء خاصة تحقق فرادته كإنسان. وهو، إذ يعزف عليها، يفشي مخزوناً من التراكمات النغمية والأسلوبية مع احساس خاص بالزمن. انه نسيج رقيق مرهف، بالغ الهشاشة، تحيكه الروح الجماعية عبر تجربة ثرية تتواصل من عصر الى عصر. ولكن مسالك البث ووسائل الاتصال تمتهنه وتغيّر جوهره ويؤدي تعامل هذه المسالك عشوائياً مع الموروث الموسيقي، وجهلها بتقاليد الاستماع التي حفّت بظهوره، الى تفريغه من تجربته الانسانية وتشويهه أيما تشويه.
ونتيجة لذلك يستشري طغيان موجة الرداءة بانحيازها الى النمطية ونزوعها الى فرض "الأغنية الخفيفة"، وتركيزها "للصلاحيات" الموسيقية في شرائح أو نماذج اجتماعية محددة على أساس حرفي أو مهني مزعوم. والحال أن على الموسيقى، مهما خضعت لمبدأ تقسيم العمل، أن تبقى حيزاً مشاعاً وممارسة حرة وتلقائية بين الناس.
لقد بدأت الحديث عن الراعي أو الفلاح ولكن المشكلة في الواقع، تتصل بالانسان أياً كان. الانسان المجابه بالاستلاب والرفض لتعبيره الذاتي. فقد اختفت نماذج أخرى مثل المغني الجوّال المدّاح من دروب المدن التونسية وكان ينتقل بين الأحياء ناقراً على "بنديره" ذي الجلد المزوّق بالحنّاء، المشدود بمسامير النحاس. كان خزانة ملاحم تسعى على قدم وهمزة وصل بين الناس وذاكرتهم، ومؤرخاً للعصر يسارع الى تخليد الطارئ من الأحداث في كلمات بسيطة تتناقلها الحناجر وتترك أثراً في النفوس أبلغ من تحاليل الجرائد وخطب الخطباء.
فهل بقي اليوم "مدّاحون"؟ لقد رأيت منذ ما يقارب العقد عازف كمان جوّال في أحد دكاكين سوق بالرباط وآخر يتجوّل ضارباً ما يشبه الدف في سوق الملح بصنعاء. وقد تكون بطحاء "الفناء" بمراكش آخر معاقل المدّاحين والمغنين الجوّالين بعد أن استحوذت مقاولات الفن الاستهلاكي على عالم الموسيقى والغناء.
وليس المقام هنا للمفاضلة بين أهزوجة الراعي أو المدّاح وبين النتاجات الموسيقية الرائجة. فالواقع يزخر بكل شيء، ولكن التساؤل هو في ما إذا كان طبيعياً ومفيداً أن يطغى الرائج على غير الرائج فيخرس الراعي ويختفي الموسيقي الجوّال، بل وتنسى المرأة الترنيمة التي تهدهد الطفل في مهده، وتنقرض أهازيج الحرفيين والباعة بما تحمله من سمات ثقافية أصيلة. لقد أدرك المرحوم سيد درويش بحسه العميق المبدع أهمية الموسيقى في حياة المجموعة فنسج على منوال أغاني العمال والصنّاع. ولكن من جاؤوا بعده قلما ساروا على نهجه وقطعت الموسيقى تدريجياً صلاتها بالحياة لتنغلق في قوالب جاهزة ومناخات مقفرة وأحلام عاجزة.
وليس الهدف من التساؤل العودة الى صورة العالم القديمة، أو الحنين الى صيغ الغناء والموسيقى القديمة، وإنما إفساح مجال النشاط الموسيقي لأكبر عدد من الناس، ووضع حد لتراجع أنماط كثيرة من فنون الانشاد والعزف بتطويرها ومؤازرتها في مواجهة زحف النتاجات الرديئة مما سقم مبناه وتواضع معناه وتسارع إيقاعه لسبب ولغير سبب. فقد برزت بين ظهرانينا فئات تتزايد كل يوم، هم "سميعة" آخر الزمن، يضجرهم عمق التعبير ورهافة الأداء فلا يكاد المطرب المسكين يعتلي منصّته حتى تتعالى إليه طلباتهم بتقديم "شيء ساخن" والمقصود بالعبارة: لحن موقّع فيتحول مجلس الاستماع، بلا مناسبة، الى حلبة رقص!
ولن أواصل تعداد أسقام الموسيقى فهي تفيض عن الحصر. وغاية القول إن مجال الموسيقى والغناء لا يمكن تحديده وقصره على فئة دون أخرى تذوقاً وممارسة، وينبغي أن يعود، مثلما كان، تعبيراً مشاعاً وتلقائياً. ولو عنّ لواضعي السياسات الثقافية عندنا أن يغيروا الواقع، ولو اتجهت هممهم لمكافحة الرداءة واللامعنى، لما وجدوا أكمل ولا أصدق من المدّاح أو العازف الجوّال، نموذجاً يحتذى لنحت الانسان العربي المبدع.
ولكن هيهات! فإن الراعي لا يزال غائباً عن نفسه يبتسم مذهولاً لمواء الآلات الالكترونية!
* كاتب وأديب من تونس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.