* عندما أسمع موسيقى غربية أشعر بأن الوقت لا قيمة له عندي وعندما أسمع الغناء العربي أشعر بأن الوقت له قيمة * الموسيقى الشرقية تخاطب المشاعر والغربية تخاطب العقل محمد عبدالوهاب بقلم محمد عبدالوهاب. هكذا يمكن اختصار مضمون الأوراق الخاصة والسرية للفنان الراحل الكبير محمد عبدالوهاب التي تنشرها "الوسط" على حلقات. هذه الأوراق لم تنشر من قبل إذ لم يكن عبدالوهاب راغباً في أن يطلع عليها أحد طوال حياته، وهي بخط يده. وقد أوصى عبدالوهاب زوجته السيدة نهلة القدسي بتسليم هذه الأوراق الى الكاتب والشاعر المصري المعروف فاروق جويدة الذي أمضى أشهراً طويلة في قراءتها وجمعها وترتيبها واعدادها للنشر. وتكتسب هذه الأوراق أهمية خاصة اذ أنها تكشف جوانب حميمة وغير معروفة من حياة الفنان الكبير محمد عبدالوهاب كما تكشف آراءه في الناس والمشاهير والحياة ومصر والعالم العربي والفن والمرأة والحب وأمور أخرى ستفاجئ الكثيرين من محبي فنه. "الوسط" اتفقت مع الكاتب فاروق جويدة على نشر جزء كبير من هذه الأوراق الخاصة. ويقضي الاتفاق بأن تنفرد "الوسط" وحدها دون أية مطبوعة عربية أو أجنبية أخرى بنشر هذا الجزء من الأوراق الخاصة وعلى حلقات. وفي ما يأتي الحلقة الخامسة: عندما أسمع موسيقى غربية أشعر ان الوقت ليس له قيمة عندي، وعندما أسمع موسيقى عربية أو بمعنى آخر غناء عربياً - وأقول غناء لأن الموسيقى ليس لها شأن يذكر في الموسيقى العربية - أقول عندما اسمع الغناء العربي أشعر أن الوقت له قيمة عندي. فعندما اسمع الموسيقى الغربية فأنا أمام عمل وبناء موسيقي هندسي معماري، فالجملة التي اختارها المؤلف لعمله الموسيقي اتابعها: كيف لعب بها؟ كيف فكها ثم جمعها؟ كيف احتفظ بملامح الجملة في كل العمل الذي اسمعه؟ كيف يفاجئني؟ كيف يرتفع بي؟ كيف يهبط؟ استمع وأنا مشدود مأخوذ. لذلك لا أشعر بالوقت... الوقت لا قيمة له. استمع الى قصة وأشعر انني مشدود لأن أعرف بدايتها ونهايتها. وعندما اسمع غناء عربياً فالجملة الواحدة تتردد عشر مرات أو عشرين مرة باللحن نفسه والطريقة ذاتها، لا جديد، لا علم، لا اضافة، لا هندسة، لا بناء، لا مفاجأة. عند ذلك أشعر بالوقت وقيمته اللهم إلا إذا كان يوجد صوت خارق القدرة فيضيف بعض التطريز الذي يشجعني على البقاء قليلاً، هذا هو الفرق. وما هو العلاج؟ أقول: العلم، العلم ثم العلم... والموسيقى الكلاسيكية الغربية تبعث على التأمل والمتابعة وتخاطب العقل والاحساس معاً وتعبر وتشد المستمع اليها لتستبقيه معها، ولا ينسى المستمع أبداً وهو يسمعها انه يسمع موسيقى تدفعه الى التفكير والارتفاع. والموسيقى الخفيفة مهدئة تبعث على الاسترخاء اللطيف، وكثيراً ما ينسى المستمع انه يصغي الى موسيقى. وربما تكلم مع زميل له أثناء عزفها بعكس الموسيقى الكلاسيكية التي لا يمكن للمستمع ان ينشغل عنها بأي كلام. واما الموسيقى الجاز فهي تخاطب الجبلة البشرية الطينية، وتخاطب الحركة الآلية في الانسان. فاذا أردنا وصف الفروع الثلاثة بإيجاز أقول: الكلاسيكية توقظك فتظل مستيقظاً، تفكر، وتسأل، وتتابع. ويدفعك الفضول الى ان تسأل نفسك ماذا يريد مؤلف هذه الموسيقى ان يقول. ترتفع معها وهي قوية وتنخفض معها وهي تهمس... تظل صاغياً لها. اما الموسيقى الخفيفة فلا تعي إلا أنك تسمع موسيقى ذات جملة حلوة تريحك ويمكنك أن تنام وهي تعزف. والجاز توقظك بلا تفكير ولا فعل ولا تأمل ولا تساؤل، انها موسيقى تحرك بلا هدف. تحرك فيك النشاط والحياة الأرضية البشرية. لقد تفنن الغرب في تلوين أصوات الآلات بحيث انه لا يمكن ان تتشابه آلة مع آلة أخرى في طعم صوتها ولونها، حتى في الفصيلة الواحدة نجد هذا التباين. فمثلاً فصيلة الوتريات صوت الكمان الرقيق العالي غير صوت "الشللو" الخشن، وهو يشبه صوت العجل المذبوح غير صوت الباز بقوته. وفي جميع الآلات نجد هذا التباين. الاوبوا غير الكلارينيت غير الفلوت غير الترمبون غير الكرنو غير الترمبيت غير الكورا نجلس... هذه الآلات تكمل بعضها ولكن لكل آلة طعم ولون يختلفان تماماً عن طعم ولون الآلة الاخرى، وهذا يعطي فرصة ميسرة للملحن حين يمزج هذه الآلات ببعضها كي يعبر عن اي شيء: الغضب، الفرح، الحب، العاصفة، الهدوء، الرعب. لان كل هذا موجود في هذه الآلات والملحن بعلمه وذوقه يستطيع مزج بعضها مع البعض لابراز ما يريد ابرازه من تعبير. نصل بهذا الى ان كل آلة موسيقية لها شخصية فريدة لا شبيه لها. وفي الاصوات البشرية نجد غير هذا تماماً، فالاصوات البشرية دخلت في قالب واحد لا يوجد غيره. النفس، واخراج الاصوات بكل ما عليها في قالب خاص او قناة واحدة بحيث تخرج متشابهة فيصعب علينا ان نفرق بين صوت وصوت خصوصاً في الغناء الكلاسيكي - الاوبرالي مثلاً. الاصوات العربية وعندنا في البلاد العربية اصوات المطربين والمطربات يشبه آلات الغرب الموسيقية، كل صوت له طعم ولون وطريقة وذبذبات ونبرات تختلف عن الصوت الآخر، وليس هذا نتيجة علم او قصد ولكن نتيجة عفوية، فكل مطرب او مطربة تغني كما تشاء، وتتنفس كما تشاء، وتخرج الالفاظ كما تشاء، وتستعمل نبراتها كما تشاء. لم يعلمها احد اخراج الصوت او كيف تتنفس، او استعمال النبرات. لذلك يسهل علينا في لحظات ان نعرف من يغني او من تغني. فمثلاً صوت عبدالحليم غير صوت فريد، وصوت ام كلثوم غير صوت فيروز، وصوت نجاة غير صوت وردة، وصوت فايزة احمد غير صوت شادية، وصوت محرم فؤاد غير صوت محمد قنديل. في لحظة تعرف وتضع يدك على من يغني. فهذا قوي وهذا ضعيف، وهذا رقيق وهذا عنيف، وهذا مفرح، وهذا مشجٍ، وهذا له صوت ضيق، وهذا له صوت جهوري. وكل منهم يتجاوز منطقة حدود صوته فتسمع صوته في بعض الجمل التي خارج حدود صوته. نسمعه وكأنه صوت آخر. كل هذا جاء من العفوية، من اللاعلم، ومع ذلك اباركه لانه اوجد لنا اصواتاً مختلفة المذاق والالوان والطعم. وربما كان الاعوجاج في اخراج حرف معين او خطأ في اخراج صوت يعطي لنا ندرة حلوة غير مطروقة. انني افضل هذه العفوية الطبيعية عن ان اسمع اصواتاً دخلت في قالب واحد واخرجت في لون واحد كوجوه اليابانيين، كالاشياء الجاهزة مثل الملابس والاحذية. واكرر انني شخصياً ابارك احياناً العفوية والارتجال الذي يبدع لي ما لا يبدعه الفكر والقصد. واللحن العربي يمكن الاضافة اليه والاختصار منه، لانه جملة او جمل موسيقية متشابكة او ما نسميه "الميلودية" وهذه الجمل تعزف او تغنى، والموسيقيون يعزفون الجملة نفسها، او الجمل مع المغني سواء بسواء. فلو اختصر او اضيف شيء اليه وليس هناك بناء متكامل سينهار. اما الالحان الغربية "فالميلودية" اي الجمل او الجملة عندما تعزف وتغنى، فالعازفون لا يعزفون الجملة نفسها بل يعزفون اصواتاً مختلفة تماماً عن اصوات الميلودية. اي الاصوات الاخرى المصاحبة للحن الاصلي الذي يسمى بالهرموني منها وهو ذلك العلم الواسع الذي يختار منه الملحن ما هو ملائم للحنه. ويصاغ الهرموني بقيود وقوانين وعلم يتنقل مع اللحن الاصلي فكل نوتة مكانها بكل انضباط، بحيث اذا حدث اي تغيير في اللحن الاصلي او في اي لزمة انهار البناء الهرموني كله. والملحن الاوروبي يضع اللحن ويصوغ له الصياغة الهرمونية ويكتبه ومن يعزفه من جيله او من اجيال اخرى ملتزم بما كتبه الملحن لحناً هرمونياً. اما الالحان العربية او التراث كما نسميه فليس هناك كتابة لان من يلحنون كانوا لا يعرفون كتابة النوتة. فليس لهذه الالحان "هرموني" لاننا لا نزال حتى في جيلنا الحاضر لا نستعمل الهرموني الا نادراً. لذلك يسهل على كل انسان ان يغير في هذا التراث لانه انتهى الينا بالرواية. فكذب من يقول ان ما نغنيه الآن من ادوار وتواشيح هي بالضبط ما لحنه صاحب هذه الالحان. لان كل مطرب يغنيها بذوقه الخاص ولا شيء يمنعه من ان يزيد او يحذف او يغير. ولكن اللحن الاوروبي بناء مكون من جمل اساسية وتركيبات هرمونية تربط هذا البناء برباط لا يمكن العبث به، الا اذا اراد موسيقي ان يأخذ جملة كلاسيكية مثلا ويخضعها للون الجاري، عند ذلك فقط يمكن له ان يضع لها اطاراً آخر يختلف اختلافاً كليا من حيث الايقاع والهرموني وما يزيده على الجملة من حليات ليدخلها في نطاق الشكل الجاري. ويعتبر هذا الموسيقي صاحب فضل كبير في فكرة تقديم هذه الجملة بالشكل الجديد. وكما قلت فان اللحن العربي يختلف اختلافاً كلياً، فاللحن جمل جميلة متصلة بعضها ببعض ويمكن الزيادة والنقصان والتغيير فيها حسب مزاج وذوق من يستخدمها. موسيقى الشرقي تخاطب المشاعر والشرقي بطبعه "لذائذي" فموسيقاه تخاطب المشاعر اللذيذة وهذه بمجرد ان تتذوقها مرة او مرتين تموت. واما الغربي فموسيقاه تخاطب العقل: موسيقى منطقية. موسيقى ممنطقة. والعقل لا تموت متعته ابداً والموسيقى الغربية تحرص على "السيميترية" التوازن ولكن في الوقت نفسه كسر هذه "السيميترية" بما لا يجعلها مملة كوجه الانسان فيه سيميترية تناسق عجيبة، فهذه عين، وعين اخرى مقابلها. وهذه اذن، واذن في الناحية الثانية، وهذا حاجب، وحاجب آخر في الناحية المقابلة. لينكسر هذا التناسق بأنف واحد وفم واحد وجيد واحد انه ابداع ممتع. انني اعتقد لو اننا مزجنا بين ما في احساس اللذة في موسيقانا الشرقية وبين علم وعقلانية ومنطق الغرب لحصلنا على موسيقى خرافية. والعزف المنفرد على اية آلة متعة للمستمع بلا شك وهي غالباً ما تكون عفوية، فالعزف مرتجل او على الاقل هذا هو ما ينبغي ان يكون. فانا عندما اسمع العزف المنفرد اتتبع ذكاء العازف وسرعة البديهة، وسرعة الخاطر، وكيف جمع كل هذا في جمل لحنية جميلة، ومع هذا فأنا لا استطيع ان اسمع العزف المنفرد طويلا ولا متكرراً. بعكس العمل السيمفوني. فالعمل السيمفوني عمل فني متكامل نشعر فيه بالجمال والذكاء والتناسق البارع في علم الهرموني. وانا لا آمل عند سماعه في السيمفونية حيث يرتفع بك ويهبط ويتوسط ويعطيك في احيان جزءاً من آلات وفي احيان اخرى يسمعك نصف الفرقة وفي احيان ثالثة الفرقة كلها بكل قوتها. ثم يهبط بك رويداً رويداً حتى تصبح هذه الفرقة الكبيرة وكأنها تهمس همساً، تحبس انفاسك لتسمعها، ويعود ويرتفع بها ثم يعود ويقسمها. اظل هكذا استمتع بالجمال والذكاء. وعندما استمع الى سيمفونية اشعر كأنني استمع الى ندوة من العلماء والادباء والفلاسفة في حوار رائع فيه العلم والجمال والتأمل والفكر. كل هذا يخاطب روحي وعقلي، ندوة على مستوى رفيع، وعندما اسمع العزف المنفرد اشعر كأنني استمع الى خطيب. فالخطيب مهما يكن بليغا فلا بد لي بعد فترة غير طويلة من ان اتمنى ان يسكت. ولأضرب مثلا بفننا نحن في الغناء، فقد يكون هناك مطرب مشهور بغناء الموال. فمهما كان هذا المطرب محبوباً فالموال هنا كالعزف المنفرد يعتمد على الارتجال والعفوية. اقول مهما كان محبوبا فانه لا يستطيع ان يأخذ من الزمن المحدد له في ليلته اكثر من 20$ وباقي الزمن يغني فيه دوراً او مونولوجاً اي انه لا بد ان ينتقل بالسامع الى عمل فيه دراسة وفكر. هذا هو الفرق بين الخطيب البليغ الذي يخطب بعفوية وارتجال يحرك في اغلب الاحيان المشاعر وليس المشاعر والعقل معاً. وبين ندوة تستمتع فيها بالعلم والبراعة والجمال.