يجب علينا الآن ان ننشر تأبيناً: النظام العالمي الجديد ولد في برلين عام 1989 ومات في البوسنة عام 1993. فليرقد في سلام! او يمكن ان نضع ذلك بشكل آخر: "انتصر الصرب". والواقع ان احدى كبريات الصحف البريطانية لخصت كل شيء في مقالة اخيرة لها اذ قالت: "أثبت الصرب ان قوة صغيرة لديها التصميم ولا تكترث بالرأي العام يمكنها ان تفعل ما يحلو لها في مواجهة التقاعس العالمي وانعدام الحسم. اذ ان المتطرفين الصرب الذين قالوا ان الغرب غير صادق في تهديده ووعيده، كانوا مصيبين". وأنا أكتب هذه السطور مباشرة بعد التراجع المهين الذي اعلنه الغرب عقب اجتماع وزراء خارجية اميركا وروسيا وفرنسا وبريطانيا ودول اخرى في واشنطن لمناقشة قضية البوسنة والهرسك، لأن الترتىبات التي اعلنها الوزراء تسمح للصرب بالاحتفاظ بجميع الأراضي التي احتلوها بالقوة الوحشية الفظيعة التي ادت الى مقتل حوالي مئة الف شخص، كثيرون منهم من النساء والاطفال الابرياء. اما مسلمو البوسنة فسيحصرون في حفنة من الجيوب تحت حراسة قوات الاممالمتحدة. لكن الغرب بدا حتى قبل اربعة اسابيع فقط وكأنه مُقدم بعد طول تردد على استخدام القوة في البوسنة. اذ ان الجميع كانوا متفقين على ان الحاجة الى القوة قد تكون ضرورية. ولهذا انعقد مؤتمر في اثينا. ولهذا ايضاً تم تضييق خناق العقوبات المفروضة على جمهورية صربيا. وصدرت تهديدات واضحة بامكان اللجوء الى استخدام الغارات الجوية من اجل اقناع الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش العبقري الشرير الذي هو وراء كل هذا، بتغيير لهجته وحث صرب البوسنة على قبول خطة اوين - فانس. وهكذا وقّع رادوفان كاراديتش زعيم صرب البوسنة على الخطة التي تقضي بانسحاب الصرب من حوالي نصف الأراضي التي احتلوها. كانت تلك مهمة صعبة، ولكن بدا لنا ان الغرب على استعداد لتنفيذ تلك الترتيبات. وبعد ممارسة بعض الضغط ذهب ميلوسيفيتش حتى الى درجة اغلاق الحدود بين صربيا والبوسنة، مما يعني، نظرياً على الاقل، قطع امدادات السلاح والذخيرة والوقود عن صرب البوسنة. وبعدئذ، وكما كان متوقعاً، رفض "برلمان" صرب البوسنة الاتفاق. وأدرك الجميع إثر ذلك ان الوقت حان اخيراً للعمل. اذ لا يمكن لأحد ان يصدق ان اقوى دول العالم ستقف موقف المتفرج وتسمح لحفنة من المتعصبين بتحدي ارادة المجتمع الدولي بأكمله. ولكن، وكما يحدث في اغلب الاحوال، كان المصيب في هذه المرة ايضاً هو الكاتب والمفكر أمبروس بيرس الذي يعرِّف في قاموسه "الانذار النهائي" بأنه "الخطوة الاخيرة قبل اللجوء الى المساومة". وهكذا سرعان ما تبخرت تهديدات استخدام القوة في جو من الارتباك والبلبلة والقاء اللوم على الآخرين. وانتهى مصير خطة اوين - فانس الى سلة المهملات التاريخية من دون ان تطلق الدول الغربية الحليفة رصاصة واحدة. وأخذت الصحافة الغربية تعيد الى الذاكرة شامبرلين واتفاقه الاحمق على السلام في ميونيخ عام 1938. لكن كل هذا لم يجد فتيلاً. اذ ان الصرب بتحديهم العالم سيحتفظون بسبعين في المئة من البوسنة. ماذا يمكن ان يخيف الصرب؟ ان هذه الاحداث تثبت بجلاء مدى انعدام الارادة والتصميم، كما انها قد تترك مضاعفات خطيرة. ففي يوغوسلافيا السابقة ليس هناك ما يشير الى ان القتال سيتوقف. اذ ان القذائف لا تزال تنهمر على العاصمة بينما لا تزال الجيوب التي يقطنها المسلمون تحت الحصار. ولنا ان نتساءل: ما الذي يمكن ان يخيف الصرب بعد كل هذا؟ فقد كان الهدف الاساسي للغرب هو تفادي جعل قواته البرية في وضع يجعل التزامه بابقائها هناك مسألة خطيرة. اذ ان طبيعة الحرب في البوسنة واشتراك ثلاث مجموعات في قتال ضد بعضها بعضاً، الصرب والكروات والمسلمون، والوحشية التي تميزت بها الحرب جعلت الحكومات الغربية ترغب في تفادي المجازفة بأرواح جنودها. وفوق ذلك ليس هناك دليل اكيد على ان الرأي العام في الدول الغربية يؤيد فعلاً التدخل المسلح، على رغم مشاعر الاستياء الشديدة بين الناس نتيجة ما يشاهدونه من مذابح في البوسنة على شاشات التلفزيون. ولهذا فان الانتقادات الموجهة الى الحلفاء يجب الا تتغاضى عن حقيقة ان هناك اسباباً مشروعة تدعو الى عدم التدخل، كما ان هناك الكثيرين من القادة العسكريين الذين يسرهم التنديد بالاقتراح الاميركي للتدخل، او برفع الحظر المفروض على البوسنة لأنهم يعتقدون ان هذا لن ينجح. ولكن مع ذلك، لا بد من مواجهة الحقيقة، وهي ان انعدام الاجراءات الحاسمة لم يكبح جماح الصرب، كما انه ادى الى تعريض الجنود الغربيين للخطر. اذ لا بد من ان تدافع قوات الاممالمتحدة عن الجيوب الاسلامية. وليس هناك ما يثبت اطلاقاً ان هذه القوات ستكون في مواجهة خطر اقل، عندما تحاول الدفاع عن الترتيبات الراهنة، من الخطر الذي كانت ستواجهه لو انها ستطبق خطة اوين - فانس. وبالطبع لو انها كانت تطبق خطة اوين - فانس لكان هناك على الاقل نوع من العزاء، باعتبار ان هذه القوات تدافع عن مبدأ اساسي وهو وجوب عدم السماح للجبروت الصربي بالانتصار. يضاف الى ذلك ان اولئك الجنود كانوا سيدافعون عن المسلمين الذين تركهم حظر الاسلحة، كما يقول الكثيرون، في وضع لا يقدرون معه على الدفاع عن انفسهم. وليس هناك ادنى شك على الاطلاق في ان حظر الاسلحة الحق ضرراً شديداً لا يمكن تخيله بالمسلمين. اذ ان المسلمين حرموا من الاسلحة والذخيرة مع انها تتوافر بكميات كبيرة وجاهزة للصرب. الغرب سيدفع الثمن الا ان العواقب التي ستترتب على انعدام الارادة يرجح ان تكون على نطاق اوسع كثيراً من يوغوسلافيا، ويجب بيانها الآن: ففي الولاياتالمتحدة غاصت ادارة كلينتون الى ركبها، مع انه لم يمضِ على توليها السلطة سوى اشهر قليلة. فهي لا تستطيع الحصول على موافقة الكونغرس على برنامجها الاقتصادي الداخلي ولا تستطيع فرض بصماتها على الساحة الدولية. اما بالنسبة الى اوروبا فان الادعاءات بأن المجموعة الأوروبية قوة فعّالة في الشؤون الدولية تبددت كلياً. فكل هذا القتال الذي يجري على ابوابها دفعها الى الاعلان في البداية ان المشكلة مشكلة اوروبية وان اوروبا هي التي ستعالجها. لكنها لم تعالجها. فبدلاً من ذلك تعجلت في الاعتراف قبل الأوان بكرواتيا بناء على اصرار من المانيا. وعندما كشّر الصرب عن انيابهم ولجأوا الى القوة لم تفعل اوروبا شيئاً لحل المشكلة. وفي هذه الاثناء استخدم كاراديتش المحادثات الطويلة الشاقة التي اشرف عليها اللورد اوين، ستاراً للمناورة والمماطلة والتسويف، بينما كانت قواته ترتكب فظائع التطهير العرقي البشع من دون توقف. ولهذا فانني لا استطيع ان ارى كيف يمكن لأي مؤرخ ان يحكم على تصرف المجموعة الأوروبية تجاه الحرب الاهلية في يوغوسلافيا سوى ان يصفه بأنه تصرف اناني ومرتبك ومضطرب وضعيف. والأنباء بالنسبة الى روسيا ايضاً غير جيدة. اذ ان ميلوسيفيتش هو آخر الزعماء الشيوعيين القدماء القساة. وموقف حكومة الرئيس الروسي يلتسين الموالي للصرب ليس بالضرورة من مصلحة يلتسين، لأن انتصار ميلوسيفيتش سيشجع الكهول الشيوعيين الذين اختفوا عن الانظار في موسكو. وبالمثل فان اوروبا الشرقية برمتها ستخسر الكثير. اذ ان البوسنة ليست الدولة الوحيدة التي توجد فيها اقلية تتململ يمكنها ان تضمن المساندة والدعم من دولة مجاورة قوية. فهناك اقليات روسية كبيرة في العديد من الدول الحديثة العهد بالاستقلال في الاتحاد السوفياتي القديم، وكلها ذات حدود مشتركة مع روسيا. باختصار ليس هناك نقص في المشكلات. وبالمثل ايضاً هناك اقليات المانية كبيرة في الدول الواقعة شرق المانيا. ولهذا فان كل الاوضاع المعلقة تزداد تعقيداً نتيجة ما حدث في البوسنة. بايجاز، من الخطأ القول انه ليست هناك اسباب لدى الغرب تدعوه الى التصرف بالطريقة التي تصرف بها، اذ ان هناك اسباباً، وبعضها وجيه. ولكن مهما كانت مبررات السياسة الحذرة التي هيمنت في نهاية الامر فان الغرب سيدفع ثمناً غالياً على الارجح. فقد احتاجت عملية انشاء نظام عالمي جديد الى قيادة حازمة وحاسمة من الغرب، ولا سيما من الولاياتالمتحدة، زعيمة الغرب. ولذا فمن الصعب على المرء الا يخلص الآن الى القول ان هذه القيادة لم تكن موجودة. ولا شك في ان عواقب انعدام الحزم وقوة الارادة ستكون كريهة بالنسبة الى الجميع. * نائب في حزب المحافظين ووزير بريطاني سابق.