ربما تبدو جمهورية البوسنة والهرسك منطقة صغيرة لا أهمية كبيرة لها بالنسبة الى الرئيس الأميركي الجديد بيل كلينتون، بالمقارنة مع الملف العراقي ومشكلة صدام حسين، او مع مستقبل روسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة وترساناتها النووية، أو نقاط التوتر الاخرى في العالم. ومع ذلك فان ملف قضية البوسنة والهرسك من الملفات الرئيسية التي يدرسها كلينتون ومستشاروه هذه الأيام ويناقشون مختلف الخيارات المتاحة والممكنة لايجاد حل لها ووضع حد للحروب والمآسي في يوغوسلافيا السابقة. وموضوع البوسنة هو الذي استغرق معظم الساعتين اللتين قضاهما الرئيس الاميركي السابق بوش مع الرئيس ميتران في قصر الاليزيه وذلك خلال زيارته لباريس قبل أيام قليلة من مغادرة البيت الابيض وتسلم كلينتون مهامه رسمياً. وخلال مناقشة ملف البوسنة كانت أمام بوش وميتران خريطة ليوغوسلافيا السابقة أخذ الرئيسان يحدقان فيها وكأنها تمثل لغزاً غير قابل للحل، اذ كانت تلك الخريطة مليئة بدوائر ملونة تمثل المراكز السكانية المختلفة: دوائر حمراء للصرب، وخضراء للمسلمين، وصفراء للكرواتيين، وكانت تلك الدوائر متداخلة ومتشابكة بصورة تجعل الفصل بينها امراً في عداد المستحيل. وليست هناك في البوسنة تجمعات اقليمية واضحة المعالم، بل تكتنفها دعاوى الأحقية التاريخية، وليست هناك خطوط للحدود، وإنما تتداخل القرى والأحياء كل منها في الآخر بصورة متشابكة ومعقدة. ولهذا السبب كانت الحرب في البوسنة عبارة عن سلسلة من الحروب المحلية. وقد سمع العالم الخارجي عن قصص المعاناة والعذاب، ولكنه لم يتوصل الى الصورة الحقيقية للتوسع الصربي. ولم يفهم الرأي العام أن هناك حرباً عدوانية ضد البوسنة الا بعد ان تم كشف المجازر وعمليات التطهير العرقي التي يقوم بها الصرب ضد مسلمي البوسنة. وكما فعل العراق في 1990 لدى غزوه الكويت، يتحدى الصرب الآن القواعد الدولية ويهددون جيرانهم. وكما فعل العراق حين احتل الكويت يرغب الصرب في نقض ما يعتبرونه "تسوية غير عادلة فرضت عليهم في نهاية الحرب العالمية الأولى وحرمتهم من انشاء دولتهم الكبرى". وعلى رغم ان الجانب الصربي كان هو المعتدي، فانه يعتقد - مثله في ذلك مثل العراق - انه الضحية التي تحاول استعادة حقوقها بعد قرون من الظلم من جانب الامبراطورية العثمانية أولاً، ثم من جانب الشيوعيين في ظل حكم تيتو. ويتجاهل الصرب تماماً نداءات المجتمع الدولي بضرورة التعايش السلمي في إطار قواعد المجتمع الدولي. صدام وميلوسيفيتش وهناك أوجه تشابه أخرى بين الصرب والعراق، فكل منهما يثير موضوع التدخل في شؤونه الداخلية. لكن كما تجاهل صدام حسين واقع ان الكويت دولة عربية مستقلة ذات سيادة وعضو في الأممالمتحدة، فان الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش يتجاهل ان البوسنة والهرسك اصبحت جمهورية مستقلة العام الماضي. لكن هناك بالطبع أوجه خلاف كبيرة بين الجانبين، فالعراق يتمتع بثروة نفطية كبيرة، ويوغوسلافيا دولة فقيرة نسبياً. كما ان اليوغوسلاف، سواء كانوا من الكرواتيين الكاثوليك، او الصرب الارثوذوكس، أو سكان البوسنة المسلمين، كلهم من الاوروبيين، مما قد يتسبب في فيضان من المهاجرين الى الدول المجاورة. ومن أوجه الخلاف الاخرى ما ذكره لي اخيراً الدكتور بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة، عندما قال: "ليست هناك في العراق عملية لاحلال السلام بل جهود لحمل النظام على تطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلقة به. لكن هناك عملية تهدف الى ذلك في البوسنة". وكان غالي يشير الى محادثات السلام الجارية في جنيف باشراف الوسيط الدولي سايروس فانس والوسيط الاوروبي اللورد أوين. وتهدف هذه المحادثات الى تقسيم البوسنة الى عشرة اقاليم يتمتع كل منها بنوع من الاستقلال الذاتي بحيث تصبح العاصمة ساراييفو مدينة مفتوحة ومنزوعة السلاح. وتستهدف هذه الخطة تسهيل حماية حقوق الاقليات في كل اقليم. وفي الوقت نفسه تظل البوسنة دولة لا يمكن للصرب ضمها الى أراضيهم. وستؤدي هذه الخطة بالطبع الى خسارة كبيرة للمسلمين من سكان البوسنة، ولكن زعيم المسلمين هناك يدرك انه في موقف ضعيف، لأن الصرب من سكان البوسنة تمكنوا بمعونة بلغراد من الاستيلاء على 70 في المئة من أراضي البوسنة، على رغم انهم لا يمثلون سوى ثلث سكانها. وهكذا أصبح المسلمون في البوسنة على استعداد للتخلي عن سيطرتهم على جزء من الأرض في مقابل السلام القائم على الاعتراف الدولي بالبوسنة كدولة مستقلة. ويرفض عدد كبير من الصرب هذه الخطة لأنها ستؤدي في رأيهم الى جعل بعض الصرب يعيشون تحت الحكم المحلي للمسلمين او الكرواتيين. وفي الواقع يرغب هؤلاء في منطقة يسيطر عليها الصرب، ويمكن ان تتحول بسرعة الى جزء من صربيا الكبرى. ويعتقد عدد كبير من الصرب انهم سينجحون في تحدي الضغط الدولي والحصول على ما يريدون. وفي الوقت ذاته ينتقد عدد كبير من المراقبين الغربيين هذه الخطة لأنها تعترف بسيطرة الصرب على جزء كبير من أراضي البوسنة التي احتلوها بالقوة، وبذلك تسمح لهم بالاحتفاظ بثمار عدوانهم. ويرد سايروس فانس على ذلك بأن هذه الخطة، مهما كانت عيوبها، تمثل الاسلوب الوحيد للحفاظ على البوسنة وحمايتها من التوسع الصربي. ولكن هناك في الواقع حل آخر يتمثل في اقامة دولة اسلامية صغيرة في البوسنة تتمتع باستقلالها وبحماية دائمة من جانب الأممالمتحدة. ويطلق كثيرون على محادثات جنيف لقب "الفرصة الاخيرة للسلام". ومن المرجح ان يحدث تدخل عسكري غربي اذا فشلت تلك المحادثات. ومن المرجح ان يتخذ رد الفعل الغربي في البوسنة في تلك الحالة الشكل نفسه الذي اتخذه رد الفعل الغربي ازاء العراق، ويتمثل ذلك في استخدام القوات الجوية لفرض الحصار التجاري، وتقويض سلطة الحكومة. وكما هو الحال في العراق ايضا سيتم فرض منطقة يحظر فيها طيران الطائرات الصربية، وهذه هي اقل الطرق تكلفة في فرض الضغط على الصرب والوصول الى نتيجة تدعم الاستقرار الاقليمي. خطة التدخل في البوسنة لقد تم التوصل الى اتفاق فرنسي - اميركي، خلال محادثات بوش وميتران الاخيرة، على ان "الوقت حان" لكي يتدخل الغرب عسكرياً لمنع الصرب من احتلال البوسنة بكاملها والاستيلاء علىها بصورة نهائية. وهذا الاتفاق لا يزال ساري المفعول. وكشفت مصادر اميركية وأوروبية وثيقة الاطلاع ان الاميركيين والفرنسيين اتفقوا على الخطة الآتية في ما يتعلق بالبوسنة: وصلت الأزمة الى نقطة تستدعي ان يستخدم الغرب قواته الجوية للحدّ من التوسع الصربي. وربما يتم ذلك عن طريق غارات دقيقة على اهداف صربية، ومنها بعض القواعد العسكرية، وربما أيضا بعض محطات الطاقة، لاقناع الرأي العام الصربي، بالتخلي عن قيادته التي يتزعمها الرئيس ميلوسيفيتش. يجب عدم السماح بأي حال من الاحوال بتدخل القوات البرية التابعة للدول الغربية في البوسنة. وتدرك فرنسا ان القوات البرية لن تحقق نتيجة كبيرة ضد رجال حرب العصابات في تلك المناطق التي تصلح بصورة خاصة لهذا النوع من الحرب، الذي سبق استخدامه ضد النازيين في الحرب العالمية الثانية. الاتفاق على "منح السلام فرصة اخيرة"، وهو ما كرره الدكتور بطرس غالي. وبتعبير آخر يجب استغلال كل الطرق الديبلوماسية المتاحة قبل الدخول في حرب مع الصرب. الحرب تشمل حظر طيران القوات الجوية الصربية في مناطق معينة الى قطع الامدادات العسكرية عن الميليشيات الصربية في البوسنة. ولا تستطيع هذه الميليشيات الاستمرار في الحرب التي تشنها حالياً من دون امدادات مستمرة من الاسلحة والذخائر. وستستمر اراقة الدماء في البوسنة ولكن على مستوى أقل بكثير مما يحدث الآن، مما يسمح للقوات الاسلامية هناك بالاستعداد بصورة أفضل لرد العدوان، وعلاوة على ذلك يعتقد بعض خبراء الاستراتيجية ان القوات الصربية في البوسنة يمكن ان تخسر الأراضي التي احتلتها حتى الآن، اذا فقدت خطوط امدادها. والى جانب ذلك سيؤدي قطع خطوط الامدادات الى انحسار خطر امتداد الحرب الى كوسوفو ومقدونيا. واذا حدث هذا التدخل العسكري الغربي، ستنطلق الطائرات الحربية الفرنسية من قواعد في ايطاليا لاعتراض الطائرات الصربية التي تدخل المجال الجوي للبوسنة، وستنطلق الطائرات الأميركية من حاملة للطائرات موجودة بالفعل في البحر الادرياتيكي لقصف القواعد الجوية الصربية، ومنشآت عسكرية اخرى، وربما ايضا بعض الطرق والمصانع هناك. والى جانب ذلك وعدت هولندا بإرسال طائراتها الحربية للمشاركة في أية حملة عسكرية لفرض تنفيذ قرارات الأممالمتحدة، ولمحاولة وقف ما يعتبره عدد كبير من الهولنديين حرب ابادة ضد مسلمي البوسنة. وسيؤدي ذلك ايضاً الى اجبار بريطانيا على التدخل، على رغم ان الحكومة البريطانية عارضت حتى الآن أية خطوات من جانب المجموعة الأوروبية من اجل التدخل. متى سيحدث هذا التدخل؟ ربما خلال أيام أو أسابيع، ويعتمد التوقيت على نتائج مفاوضات جنيف بشأن مستقبل البوسنة. وإذا اتضح ان ميلوسيفيتش لن يقبل استقلال البوسنة، فان العمل العسكري ربما يأتي بصورة سريعة. وقد بدأت الدول الغربية استعدادها بالفعل لذلك. وقال لي الدكتور بطرس غالي ان مجلس الامن الدولي يخطط في حال فشل مباحثات جنيف لاصدار قرار يجيز استخدام القوة لمنع الطائرات الصربية من التحليق فوق أراضي البوسنة. وسيعني ذلك قيام حرب، وسحب قوات حفظ السلام هناك لأنها لا تستطيع الدخول في معركة ضد القوات الصربية النظامية، ولأنها لا تستطيع في هذه الحالة ايضاً تنفيذ مهمتها الانسانية. وتعد بريطانياوفرنسا بالفعل خططهما لسحب قوات حفظ السلام التابعة لهما من المنطقة. حرص غربي على الدول الاسلامية وذكر لنا بعض المسؤولين الاميركيين والفرنسيين في أحاديثهم الخاصة ان واشنطن وباريس مقتنعتان الآن بأن الحرب ستقع لا محالة. ويرجع ذلك الى سببين سياسيين: اولهما مظاهر الضعف الجديدة التي اعترت تأييد موسكو للعمل العسكري في يوغوسلافيا سابقاً. ويرجع ذلك الى ان معظم القوميين الروس يشعرون بتعاطف قوي مع الصرب، و"بالكراهية للتنازلات الروسية المستمرة" في التعامل مع الولاياتالمتحدة. وتؤدي هذه المشاعر الى معارضة محافظة قوية للرئيس الروسي يلتسين، وليس هناك من يستطيع التكهن بمدى قدرته على الاستمرار في الحفاظ على الدعم الروسي للاجراءات الغربية في يوغوسلافيا سابقاً. ومن دون هذا الدعم الروسي لن يتمكن مجلس الامن الدولي من اداء دور حفظ السلام في المنطقة. ومن الجدير بالذكر ان الصين تعارض بقوة التدخل الخارجي، لأن لديها مشاكل أقليات يمكن ان تتفجر قريباً، كما انها اشارت الى احتمال الدخول في مواجهة بهذا الشأن في مجلس الامن الدولي في اعقاب المشاكل مع بريطانيا بشأن هونغ كونغ، ومع فرنسا بشأن بيع مقاتلات الى تايوان. وحتى الآن كانت الصين تعبر عن معارضتها عن طريق الامتناع عن التصويت، وليس عن طريق استخدام حق النقض الفيتو، ولكن ذلك يمكن ان يتغير في المستقبل القريب. ويرجع السبب الثاني الى ان الدول الغربية تحرص على عدم اتخاذ الدول الاسلامية أي قرار بتحدي الحظر الدولي وإرسال اسلحة الى المسلمين في البوسنة. وسيؤدي مثل هذا الاحتمال الى رفع مستوى العنف في كوسوفو ومقدونيا المجاورتين مع تهريب الاسلحة عبر حدودهما الى البوسنة. والأهم من ذلك كله ان الدول الاوروبية تحرص على تجنب قيام دولة اسلامية في البوسنة بعد حصولها على استقلالها عن طريق الحرب. وتحرص اوروبا بكل تأكيد على تجنب قيام دولة اسلامية على الاطلاق في يوغوسلافيا سابقاً، اذ ان ذلك سيثير "المخاوف الاوروبية القديمة" من انتشار الاسلام في اوروبا عن طريق الشرق، وهي المخاوف التي ظلت قائمة منذ ايام الدولة العثمانية. وسيؤدي هذا الاحتمال أيضاً الى تصعيد التوتر في اوروبا التي اصبح الاسلام من العناصر المؤثرة فيها بالفعل. وأصبحت الحكومات الغربية تشعر بأن منظمة المؤتمر الاسلامي يمكن ان تستمع الى الدعوات الصادرة اليها، ومنها دعوات من تركيا، بالقيام بعمل حاسم وتحدي الحظر وتسليح المسلمين في البوسنة. ولا بد من العودة قليلاً الى الوراء. وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية توقعت في تقرير سري أعدته في تشرين الثاني نوفمبر 1990، بأن يوغوسلافيا ستتعرض لحرب أهلية دموية ستمزق وحدتها. ومع ذلك كان هناك بعض الخبراء والمسؤولين الاميركيين الذين رفضوا ذلك على أساس ان القادة اليوغوسلاف لن يدفعوا بأنفسهم وبلادهم الى انتحار سياسي. وكان اكثر ما يتوقعه هؤلاء بعض التعديلات في الحدود. ومع حلول صيف 1991، مزقت الحرب الصربية الكرواتية وحدة يوغوسلافيا بصورة لا يمكن اصلاحها، ولكن ادارة بوش لم تبد اهتماماً فعلياً بما يجري هناك. والأوروبيون لم يفعلوا شيئاً. واشتعلت الحرب في البوسنة في بداية ربيع 1992. ومع تصاعد الهجوم الصربي على البوسنة، بدأت مشاهد المذابح واللاجئين تثير الرأي العام في أوروبا الغربية. ومع ذلك كانت حكومات المجموعة الاوروبية غير قادرة على اتخاذ أي اجراء لوقف الحرب. وهناك أسباب أخرى لهذا التأخير الطويل في رد الفعل الغربي، منها استغراق الاميركيين والأوروبيين وقتاً طويلاً في ادراك انهم لا يستطيعون الثقة بوعود ميلوسيفيتش وتأكيداته، أو بالوعود والتأكيدات الصادرة عن معظم القادة الآخرين في يوغوسلافيا سابقاً. وأصبح من الواضح، بالتدريج، ان الصرب يقاتلون في حملات متعاقبة للاستيلاء على أراض جديدة، وكانوا يدفعون غير الصرب بالطبع الى الفرار من تلك الأراضي التي يحتلونها عن طريق المجازر وعمليات الاغتصاب والتطهير العرقي والتدمير. وكان من الصعب على القادة الغربيين التوصل الى اجماع في الرأي على ما يحدث. لكن الولاياتالمتحدة بدأت تركز بصورة تدريجية خلال الاشهر الستة الماضية على التأثيرات المحتملة للحملات الصربية من ناحية إشاعة عدم الاستقرار في المنطقة. والآن اصبحت الولاياتالمتحدة مصممة على التدخل بأية صورة ممكنة لاحتواء هذا النزاع. وقد كان اداء الدول الاوروبية ضعيفاً في تلك الازمة، على رغم انها تهدد الموقف في اوروبا بصورة مباشرة. وفقدت القيادات السياسية الاوروبية قدراً كبيراً من مصداقيتها عندما فشلت في مواجهة الازمة. وأدت أزمة يوغوسلافيا سابقاً ايضاً الى زعزعة أسس ثقة اوروبا بنفسها، لأن الأمر تطلب مرة اخرى مبادرة اميركية، كما ينطوي ايضا على تبعية الحكومات الاوروبية للقيادة الاميركية. ونتيجة لذلك قوضت يوغوسلافيا أية أوهام بأن أوروبا مستعدة لمعالجة الازمات الدولية، حتى تلك التي تقع قرب أبوابها، من دون القيادة الاميركية والتدخل الفعلي للولايات المتحدة. * المحرر الديبلوماسي لصحيفة "الهيرالد تريبيون".