لا تستطيع إيران ان تكسب ثقة العالم - خصوصاً ثقة الدول الكبرى والمؤثرة في الساحة الدولية - وان تحل مشاكلها مع الغرب وان تحسّن علاقاتها مع الولاياتالمتحدة وتقويها مع الدول الأوروبية وسواها من الدول الصناعية المتقدمة، اذا لم تكسب، أولاً، ثقة دول الخليج العربي وتتفاهم معها على صيغة جديدة للعلاقات مختلفة عن تلك التي سادت منذ قيام الجمهورية الاسلامية عام 1979. ولا تستطيع إيران ان تقفز فوق دول الخليج العربي وتتقارب مع الولاياتالمتحدة والدول الغربية الأخرى متجاوزة دول الخليج أو على حسابها. فلم يعد يكفي أن تكون إيران "قوة اقليمية ودولة مهمة" استراتيجياً ونفطياً وسياسياً وبشرياً لكي تتقارب منها دول العالم، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة والدول الغربية الأخرى. فقد اثبتت تجربة السنوات الماضية، وحتى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وامبراطوريته، ان العالم الغربي يستطيع، فعلاً، الاستغناء عن إيران سياسياً واستراتيجياً ونفطياً، ويستطيع ان يتصرف في هذه المنطقة أو تلك من دون أن يتعاون مع طهران ومن دون أن تكون علاقاته معها قوية. ذلك ان ممارسات ومواقف الثورة الايرانية، في عهد الخميني وما بعده، أبعدت الكثير من دول العالم الغربي عن طهران أو انشأت حواجز وعقبات بين الجانبين. وقد دفعت إيران، نتيجة ذلك، ثمناً سياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً كبيراً، ورأت القيادة الايرانية ان دورها هامشي وغير مؤثر فعلاً حتى في مجالات حيوية بالنسبة اليها. كما ان ايران لم تستطع، نتيجة ذلك، ان تستفيد فعلياً، وكما كانت تأمل، من تحولات كبرى حدثت لمصلحتها، وأبرزها هزيمة العراق في حرب تحرير الكويت وانهيار الاتحاد السوفياتي وامبراطوريته. وأدركت القيادة الايرانية، من خلال اتصالات مباشرة وغير مباشرة، أجرتها مع الأميركيين والأوروبيين، وعلى رأسهم الفرنسيون والبريطانيون والألمان، ان الخطوة الأولى والأساسية لتحسين علاقات إيران وتطويرها مع العالم الغربي هو التفاهم مع دول الخليج العربي وإزالة أسباب التوتر والخلاف معها. وهذا ناتج، بشكل أساسي، عن الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الكبرى لمنطقة الخليج. وهكذا أصبح التقارب مع دول الخليج "مصلحة إيرانية حيوية": فإيران تحتاج الى الحصول على نوع من شهادة "حسن السلوك" من الدول الخليجية، قبل أن تأمل في تطبيع أو تحسين أو تقوية علاقاتها مع العالم الغربي. هذا الواقع هو وراء "هجمة السلام" الايرانية نحو دول الخليج التي نشهدها حالياً، خصوصاً منذ جولة وزير الخارجية الايراني علي أكبر ولايتي في دول مجلس التعاون الخليجي الست المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدةوالكويت وسلطنة عمان والبحرين وقطر نهاية الشهر الماضي. وهذا الواقع يطرح التساؤلات الآتية: 1- أية صيغة علاقات جديدة يمكن توقع قيامها بين إيران والدول الخليجية؟ وماذا تطلب دول الخليج العربي من القيادة الايرانية لفتح صفحة جديدة في العلاقات معها؟ 2- هل ان الرئيس الايراني علي أكبر هاشمي رفسنجاني قادر، فعلاً، على أن يقيم مع دول الخليج علاقات مختلفة جوهرياً وجذرياً عن تلك التي سادت منذ عام 1979؟ 3- لماذا تحتاج إيران الى الولاياتالمتحدة ودول العالم الغربي الأخرى؟ فشل رفسنجاني ولنبدأ بالسؤال الأخير: لماذا تحتاج إيران الى تطبيع علاقاتها مع الولاياتالمتحدة والى تحسينها وتقويتها مع دول العالم الغربي الأخرى، وعلى رأسها الدول الأوروبية؟ الجواب في كلمتين: الوضع الاقتصادي. فلا يمكن بناء جمهورية جديدة واعادة إعمار إيران من دون تحسين وتطوير الوضع الاقتصادي. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون قيام تعاون واسع ومتعدد الجوانب بين إيران والدول المتقدمة في العالم وعلى رأسها الدول الغربية. ولا يمكن قيام تعاون واسع حقيقي ايراني - غربي من دون تحسن في العلاقات السياسية، وهذا يتطلب تغييرات حقيقية في سياسات ايران ومواقفها وممارساتها. لقد سعى رفسنجاني، منذ انتخابه رئيساً للمرة الأولى في حزيران يونيو 1989، الى بناء "جمهورية ثانية" مختلفة، في مضمونها، عن "جمهورية الخميني"، من حيث أنها أكثر واقعية في التعامل مع قضايا المنطقة والعالم وأكثر انفتاحاً على دول المنطقة والعالم. وعلَّق الكثيرون في الغرب، بما في ذلك في الولاياتالمتحدة، آمالاً كبيرة على "واقعية رفسنجاني" هذه. وركَّز رفسنجاني جهوده على معالجة واصلاح وتطوير الوضع الاقتصادي في البلاد - ويقال انه يتلقى اسبوعياً دروساً في الاقتصاد - وأدرك منذ البداية ان ذلك لن يتحقق الا بالانفتاح على دول العالم. وحوَّل رفسنجاني مبادئ الثورة الايرانية الى شعار سياسي يغطي سياسته "الواقعية الانفتاحية" هذه ويحميها من خصومها الكثيرين في الداخل. ولمعالجة وتحسين الأوضاع الاقتصادية في إيران حاول رفسنجاني مع فريقه الحاكم اتباع سياسة اقتصادية ليبرالية منفتحة الى حد ما على العالم الخارجي، وسعى الى تطوير التعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي مع الدول الصناعية الكبرى بما في ذلك الدول الغربية، وعمل على تقوية دور القطاع الخاص وتخفيف القيود والاجراءات التي تجمد الوضع الاقتصادي والحصول على قروض دولية وتسهيلات مالية من المؤسسات الدولية الكبرى، وبذل جهوداً لاقناع المستثمرين الأجانب بتوظيف أموالهم أو تمويل مشاريع في إيران، ولجلب خبراء أجانب لتحديث هيكلية الاقتصاد الايراني، كما حاول ادخال التكنولوجيا المتطورة الى مجالات عدة في البلاد. لكن رفسنجاني فشل في جهوده هذه، ولم يستطع الانفتاح، فعلاً، على العالم، ولا تطبيق السياسة الاقتصادية والاجراءات المرتبطة بها. ونتيجة هذا الفشل تواجه ايران اليوم مصاعب اقتصادية واجتماعية كبيرة تعبر عنها هذه الأرقام والوقائع: ايرادات ايران السنوية من النفط تتراوح بين 15 و17 مليار بليون دولار. وهذا الوضع سيستمر خلال السنوات القليلة المقبلة. في مقابل هذا الدخل - وليس لدى إيران أية ايرادات أخرى مهمة - يحتاج الايرانيون الى استيراد مواد ومنتجات من الخارج تراوح قيمتها بين 26 و27 مليار بليون دولار سنوياً، وفقاً لما اعترف به وزير المال والاقتصاد الايراني محسن نورباخ في مقابلة مع صحيفة "الفايننشل تايمس" البريطانية في 8 شباط فبراير 1993. وهذا يعني ان لدى إيران عجزاً سنوياً بقيمة 10 مليارات بلايين دولار. ولا يستطيع الايرانيون، بهذا الدخل، اعادة إعمار البلاد وتحسين وتطوير الوضع الاقتصادي من دون مساعدات أو استثمارات خارجية ومن دون تعاون حقيقي بين ايران والدول الكبرى في العالم. معدل التضخم في ايران يبلغ اليوم 30 في المئة، اما نسبة البطالة فوصلت الى 30 في المئة. ويرافق ذلك تراجع في النمو الاقتصادي وغلاء في المعيشة ونقص حاد في عدد كبير من المواد الاستهلاكية والأدوية والمستحضرات الطبية، وكذلك في المساكن. وتنتج عن ذلك اضطرابات شعبية ومشاكل اجتماعية. اضافة الى ذلك فإن ايران مدينة، وفقاً لمصادر أوروبية وثيقة الاطلاع، لشركائها التجاريين - وعلى رأس هؤلاء فرنسا واليابان والمانيا - بمبالغ تأخرت عن سدادها تبلغ حالياً 8 مليارات بلايين دولار، ويمكن ان تصل الى 10 مليارات بلايين دولار هذا الصيف. والسبب في ذلك ان ايران عجزت عن تسديد أثمان وارداتها المتزايدة. تضاف الى هذه الأرقام ديون قصيرة ومتوسطة المدى تتجاوز 25 مليار بليون دولار. البازار، أحد ركائز الاقتصاد الايراني، يشهد فترة كساد أدت الى افلاس متاجر كثيرة هذا العام. المعارضة الداخلية وهناك ثلاثة أسباب وعوامل رئيسية وراء فشل رفسنجاني، هي الآتية: 1- لم يستطع الرئيس الايراني أن يؤمن اجماعاً أو أغلبية في الأوساط السياسية والدينية والشعبية حول توجهاته هذه، كما لم يستطع فرض سياسته فرضاً على البلاد لأنه - على رغم نفوذه - لا يمكنه ان يتخذ وحده القرارات الأساسية والمهمة في ايران. وهذا ناتج عن طبيعة النظام الايراني وتركيبته وتعقيداته. فالقرارات الأساسية والمهمة في إيران تؤثر فيها وتتحكم بها مجموعة قوى وعوامل مما يحدّ من قدرة رفسنجاني على التحرك. وأبرز القوى المعارضة لتوجهات رفسنجاني هذه أو المتحفظة عليها: المتشددون بزعامة علي أكبر محتشمي وزير الداخلية والنائب السابق. صحيح ان المتشددين خسروا معظم مقاعدهم النيابية في الانتخابات التي جرت ربيع 1992 إلا أن نفوذهم لا يزال قوياً في الأوساط الشعبية والدينية. والملاحظ ان محتشمي هاجم بشدة، في مقابلة صحافية نشرت نهاية الشهر الماضي، رفسنجاني بالاسم واتهمه "بالانحراف عن مبادئ الثورة الاسلامية". المحافظون ولهم وجود قوي في مجلس الشورى البرلمان الايراني. قطاعات واسعة من الحرس الثوري والمتطوعين الباسيج الذين لديهم ميليشيات مسلحة. شخصيات عدة في الأوساط الدينية المتمسكة بأفكار ومبادئ الخميني. ولم يتمكن رفسنجاني من تجاهل أو تجاوز هذه القوى المعارضة لتوجهاته السياسية أو المتحفظة عليها، لذلك أمضى سنوات ولايته الأولى كرئيس وهو يركز جهوده على تثبيت مواقعه الداخلية. 2- السبب الثاني للفشل هو ان اصلاح وتطوير وتحديث الاقتصاد الايراني تتطلب وجود استعداد لدى المجتمع الايراني والادارة الايرانية لتقبل ذلك، اضافة الى وجود الارادة السياسية. لكن، من جهة، لم يجرؤ رفسنجاني على المجاهرة علناً بكل الأفكار "الانفتاحية والواقعية" التي يؤمن بأنها ضرورية لاعادة إعمار البلاد وتطويرها، كما ان الشعارات والآراء "الثورية" لا تزال "تغري وتجذب" قطاعات واسعة من الناس في إيران، أكثر مما تفعل الأفكار والآراء "الواقعية والانفتاحية". وهذا ما اعترف به، ضمناً، رفسنجاني نفسه في المقابلة التي أجرتها معه مجلة "تايم" الأميركية ونشرتها قبل 3 أسابيع، حيث قال: "اذا أدرت ظهري للثورة فإن الشعب لن يساندني". 3- السبب الثالث للفشل هو ان القيادة الايرانية لم تستطع ان تكسب ثقة الدول الكبرى والمؤثرة في العالم، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، بسبب عدم قدرة الرئيس الايراني على احداث تغييرات أو تحولات حقيقية وفعلية في سياسات بلاده ومواقفها وممارساتها. والدول الكبرى لا تفصل الاقتصاد عن السياسة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بدولة من وزن إيران وبتأثيرات هذه الدولة على منطقة كمنطقة الخليج. لذلك ظل التعاون بين ايران وعدد من الدول الأوروبية والصناعية في العالم محدوداً للغاية ولا يلبي حاجات دولة بحجم إيران ومتطلباتها. أميركا واحتواء "الخطر الايراني" هذا الوضع مرشح للتأزم إذا لم يتخذ رفسنجاني سلسلة خطوات ومبادرات لاحداث تغييرات، ولو تدريجية وعلى مراحل، في مواقف إيران وتوجهاتها. ولعل أهم وأبرز دليل على ان الوضع مرشح للتأزم هو الموقف الأميركي الجديد من إيران. وقد تحدث عن هذا الموقف، بشكل مفصل، عدد من المسؤولين الأميركيين في الأيام القليلة الماضية، ومنهم بشكل خاص مارتن انديك مدير شؤون الشرق الأوسط وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. فقد ألقى انديك محاضرة يوم 18 ايار مايو الماضي في "معهد واشنطن" أعلن فيها ان إدارة كلينتون انتهت من صياغة سياستها تجاه إيران وقضايا أخرى في الشرق الأوسط، وشرح المسؤول الأميركي بالتفصيل هذه السياسة. ومحاضرة انديك هذه تشكل وثيقة مهمة لمن يريد فهم وتتبع سياسة كلينتون في الشرق الاوسط. ماذا قال انديك مستشار كلينتون الرئيسي لشؤون الشرق الاوسط عن ايران؟ قبل كل شيء قال ان ايران تتحدى الولاياتالمتحدة والاسرة الدولية في خمسة مجالات: 1 - ان ايران هي "في طليعة البلدان الراعية للارهاب والاغتيالات في العالم". 2 - ان ايران "تعمل على احباط عملية السلام في الشرق الاوسط من خلال مساندتها لحركة "حماس" و"حزب الله". 3 - ان ايران "تسعى الى تقويض الحكومات الصديقة من خلال صلاتها بالسودان". 4 - ايران تسعى "الى امتلاك القدرة على الهيمنة على الخليج بوسائل عسكرية من خلال جهودها الرامية الى حيازة الاسلحة الهجومية". 5 - "الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو سعي ايران الى الحصول على اسلحة الدمار الشامل بما في ذلك الحصول سراً على اسلحة نووية وصواريخ أرض - أرض لاطلاق اسلحة الدمار الشامل في الشرق الاوسط". كيف ستواجه الولاياتالمتحدة هذا التحدي الايراني المتعدد الجوانب؟ يجيب أنديك عن ذلك بالقول ان الادارة الاميركية لن تسعى الى "المواجهة مع ايران" بل الى العمل على "احتواء الخطر الايراني". وتقوم سياسة "الاحتواء" هذه، وفقاً لما ذكره انديك، على العناصر الآتية: 1 - الولاياتالمتحدة لا تعارض وجود حكومة اسلامية في ايران لكنها تعارض توجهات هذه الحكومة. وهي لذلك لن تطبع علاقاتها مع ايران الا اذا غيرت هذه الدولة سياستها بصورة شاملة. 2 - يجب تركيز الجهود على احداث تغيير في سلوك وممارسات وتوجهات ايران خلال السنوات الخمس المقبلة، اذ ان ايران اليوم لديها "نيات خطرة" لكن قدرتها على تنفيذ هذه النيات لا تزال "محدودة او ضعيفة". لكن اذا لم يتم تغيير سلوك ايران خلال السنوات الخمس المقبلة فان ايران ستكون حينذاك "اكثر قدرة على ان تشكل خطراً حقيقياً على العالم العربي واسرائيل والمصالح الغربية في الشرق الاوسط". 3 - ستعمل الولاياتالمتحدة في المرحلة المقبلة على اقناع حلفائها الأوروبيين واليابان وكذلك روسيا والصين بوقف تزويد ايران بأسلحة تقليدية او نووية لكي لا تصبح خطراً على المنطقة. 4 - ستعمل الولاياتالمتحدة على اقناع الدول الحليفة بالامتناع عن تقديم مساعدات او دعم لايران لتحسين اوضاعها الاقتصادية وبتقليص علاقاتها التجارية معها، خصوصاً ان ايران تشكل "استثماراً سيئاً من الناحيتين التجارية والاستراتيجية" بسبب اوضاعها وظروفها الراهنة. وكلام أنديك عن الاستراتيجية الاميركية الجديدة "لاحتواء الخطر الايراني" أكده مسؤولون اميركيون آخرون، على رأسهم وزير الخارجية وارن كريستوفر. شروط التعايش السلمي الخليجي - الايراني هكذا تجد ايران نفسها أمام نوع جديد من "المواجهة" مع الولاياتالمتحدة ودول مؤثرة اخرى، مختلفة عن تلك التي سادت خلال السنوات الماضية، لكنها، في أبعادها ونتائجها، ذات انعكاسات سلبية كبيرة على الاوضاع الايرانية الداخلية. ويرى عدد من المسؤولين والخبراء الاميركيين والفرنسيين والبريطانيين المعنيين بالشأن الايراني ان رفسنجاني وبعض مستشاريه يدركون تماماً ان ايران لا تستطيع تحمل ثمن مثل هذه المواجهة وانها ستخسر كثيراً فيها. وهذا ما دفع جواد لاريجاني المستشار الخاص لرفسنجاني للشؤون الخارجية الى القول: "اذا أردت أن تكون جزءاً من المجتمع الدولي فانك لا تستطيع ان تفعل ما تريد او ما تراه ملائماً لمصالحك انت. هناك لعبة يجب أن تلعبها". ويرى عدد من الخبراء والمعنيين بالشأن الايراني ان رفسنجاني سيحاول، خلال ولايته الثانية كرئيس لايران، التعامل مع "حالة المواجهة" هذه بطريقة "واقعية ومرنة"، وسيسعى تدريجياً الى تقليص حدة المواجهة والتقارب مع الولاياتالمتحدة والدول الغربية الاخرى. وهذا، في اي حال، ما قاله مقربون من رفسنجاني لمسؤولين فرنسيين ولبعض الشخصيات الاميركية غير الرسمية. لكن بغض النظر عن قدرة رفسنجاني الفعلية على احداث التغييرات السياسية في ايران وتوجهاتها الكافية لتقليص حدة المواجهة مع الولاياتالمتحدة والغرب عموماً ولتطوير الحوار والعلاقات مع الدول الغربية، فان الامر الاساسي الذي تم ابلاغه الى القيادة الايرانية هو ان ايران لا تستطيع ان تكسب ثقة العالم اذا لم تكسب، اولاً، ثقة دول الخليج العربي. وهذا ما دفع القيادة الايرانية الى القيام "بهجمة سلام" نحو دول الخليج العربي كانت ابرز مظاهرها، حتى الآن، جولة ولايتي في دول مجلس التعاون الخليجي الست، وهي الأولى من نوعها منذ قيام الجمهورية الاسلامية في ايران عام 1979. ولكن ماذا تستطيع ايران ان تقدم لدول الخليج لكي تتفاهم معها على صيغة جديدة للعلاقات، بل ماذا تطلب الدول الخليجية من ايران لفتح صفحة جديدة معها فعلاً. الواقع انه لا يكفي ان يعلن ولايتي في ختام جولته الخليجية ان "صفحة جديدة" في العلاقات بين ايران ودول مجلس التعاون الخليجي فتحت نتيجة هذه الجولة، لكي يتحقق ذلك فعلاً. فالدول الخليجية، اضافة الى بعض الدول العربية الاخرى، تريد من ايران افعالاً لا مجرد اقوال، وتريد خطوات واجراءات ومبادرات عملية تثبت، فعلاً، ان ايران تريد اقامة علاقات مع دول الخليج العربي قائمة على الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل، وبالتالي على التعاون المتبادل. بالطبع، لا يمكن توقع حدوث "مصالحة كاملة وشاملة" بين ايران والدول الخليجية، اذ ان ذلك يتطلب تغييرات جذرية عميقة، ليس فقط على مستوى القيادة الايرانية بل ايضاً على مستوى المجتمع الايراني. لكن في المقابل ما يمكن توقعه هو قيام "تعايش سلمي" بين ايران ودول الخليج يقوم على مجموعة مصالح واعتبارات. لكن مثل هذا "التعايش السلمي" لن يتحقق تلقائياً اذ لا بد ان تتوفر له مجموعة شروط، أبرزها: 1 - أن تثبت القيادة الايرانية، فعلاً لا قولاً، انها تريد اقامة علاقات جديدة مع دول الخليج قائمة على اساس "الاحترام المتبادل والثقة المتبادلة" بكل ما تعنيه هذه العبارة. ويتطلب ذلك ان تكون لدى القيادة الايرانية القدرة على تجاوز المعارضين في ايران لمثل هذا التوجه او وضع حدود لهم ولنشاطاتهم، وعدم الرضوخ لهم باستمرار. 2 - يجب أن تتخذ القيادة الايرانية سلسلة خطوات ومبادرات ومواقف تثبت فيها، عملياً، حرصها على هذا التوجه الجديد. ومن ذلك التوصل الى اتفاق مع دولة الامارات العربية المتحدة بشأن النزاع حول جزيرة ابو موسى وجزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى. ومن ضمن هذه الخطوات والمواقف المطلوبة الامتناع عن كل ما من شأنه الايحاء بأن ايران تريد الهيمنة على منطقة الخليج او التدخل في الشؤون الداخلية لهذا البلد او ذاك او التأثير على هذه السياسة او تلك او زعزعة الاستقرار في هذا البلد او ذاك او تعريض امن هذه الدولة او تلك للخطر او استغلال هذا النزاع او ذاك او تصدير افكارها وتصوراتها "بالقوة الى هذه الدولة او تلك". 3 - لا يمكن ان تقبل الدول الخليجية الدخول في محور مع ايران ضد دول عربية اخرى. ويجب ان تعترف القيادة الايرانية، بشكل او بآخر، وتقبل بأن من حق دول الخليج ان تقيم العلاقات التي تريدها مع اية دولة في العالم، طالما ان ذلك لا يهدد أمن ايران مباشرة او يشكل خطراً عليها. 4 - لا يمكن أن تقبل دول الخليج باقامة علاقات مع ايران على حساب علاقاتها مع دول عربية اخرى. اذا توفرت هذه الشروط يمكن توقع قيام "تعايش سلمي" وعلاقة جديدة فعلاً بين ايران ودول الخليج العربي. لكن هذا متوقف في الدرجة الاولى على القيادة الايرانية، وعلى قدرة رفسنجاني على التحرك داخل ايران. ومن هذا المنطلق فان جولة ولايتي الخليجية هي نقطة البداية في عملية طويلة متعددة الجوانب، المطلوب خلالها من ايران ان تحدث تغييرات حقيقية في مواقفها وتصرفاتها وسياستها لكي تكسب ثقة دول الخليج، وبالتالي ثقة العالم. مهمة رفسنجاني لن تكون سهلة - بسبب تعقيدات الوضع الداخلي الايراني - اذا ما اراد، فعلاً، تطبيق سياسة "التعايش السلمي" هذه مع الدول الخليجية. لكن الرئيس الايراني اصبح يدرك ان الفشل في هذا المجال سيعني استمرار "حالة المواجهة" بين ايران وعدد من الدول الكبرى المؤثرة في العالم.