خلال الحرب على البوسنة 1992-1995م كان من الواضح أن الحرب لم تعد تطاول البشر الأبرياء فقط في ما عرف بالتطهير الإثني وإنما أخذت تطاول أيضاً مراكز ومظاهر الذاكرة الجماعية في ما عرف بالتطهير الثقافي، الذي شمل تدمير مراكز الوثائق والمخطوطات والمكتبات وحتى الجوامع والجسور ذات القيمة التاريخية. وكان من الواضح أن تدمير هذه البنية التحتية للذاكرة الجماعية يسمح للطرف المنتصر أن يعيد كتابة تاريخ البوسنة كما يريد. ولكن الحرب لم تتمخض عن طرف واحد منتصر بل عن عدة أطراف شبه منتصرة، أو كان كل واحد منها يعتبر نفسه منتصراً بشكل ما. وفي هذا الإطار كان الطرف البشناقي المسلم البوسنوي يعتبر أن البقاء على قيد الحياة، في مواجهة ما كان، هو نوع من الانتصار الذي ربطه أيضاً بالحفاظ على ما بقي من الذاكرة الجماعية التي تسمح بتأريخ جديد للبوسنة بعد أن أصبحت دولة مستقلة. فقد كان تاريخ البوسنة هو المستهدف، واسم البوسنة التاريخي هو المستهدف، ورمز البوسنة كنموذج للتعايش عبر القرون هو المستهدف. وهكذا فقد تصدى المؤرخ المعروف مصطفى إماموفيتش وغيره من النخبة الأكاديمية لهذه المهمة خلال الحرب، وحتى خلال الحصار الخانق لسراييفو 1992-1994م، وأثمر عملهم عدة مؤلفات تعيد الاعتبار لتاريخ وتراث البوسنة عبر العصور. ومن هذه المؤلفات لدينا كتاب د. إماموفيتش"البوسنة والهرسك: التراث السياسي والقانوني"الذي صدر أولاً في اللغة البوسنوية خلال 1999م ثم في طبعة جديدة في 2003م ليصدر الآن صيف 2006م في ترجمة إنكليزية تسمح له بالانتشار خارج البوسنة وتفسح المجال لمن لا يعرف البوسنوية أن يتعرف على التاريخ الحافل والتراث الفني للبوسنة خلال 1500 سنة تقريباً. في مقدمة الكتاب يركز المؤلف على الفكرة الأساسية بأن التطور السياسي والقانوني في البوسنة يمكن تتبعه حتى 1500 سنة، وبالتحديد منذ قدوم سلاف الجنوب واستيطانهم البلقان. والملامح المميزة لهذا التطور تبدو في استمرارية للأرض والاسم البوسنة والوحدة السياسية والإدارية. وفي هذا الإطار كان للدين دوره في تمايز البوسنة ما بين الجارين / القطبين المجاورين: صربيا وكرواتيا. فقد اعتبرت البوسنة مركزاً للهرطقة من قبل الجيران الكاثوليك والأرثوذكس بسبب وجود كنيسة مخالفة، ألا وهي الكنيسة البوسنوية أو البوغوميلية. واستمر هذا الأمر بعد الفتح العثماني للبوسنة حيث قام الإسلام بالدور الذي كان للكنيسة البوسنوية في تمايز سكانها ما بين صربيا الأرثوذكسية وكرواتيا الكاثوليكية. وبعبارة أخرى ينتهي د. إماموفيتش في مقدمته إلى أن البوسنة عرفت كيف تحافظ على وحدة أراضيها واسمها وسياستها المميزة على رغم الأنظمة المختلفة التي قامت فيها أو حكمتها خلال 1500 سنة النظام الإقطاعي، العثماني، النمسوي واليوغوسلافي. ومع أن الفصل الأول خصّصه د. إماموفيتش لپ"الدولة القروسطية/ الإقطاعية في البوسنة"إلا أنه مهد له بمعلومات مهمة للقارئ غير المتخصص أو غير البوسنوي عن أصول سلاف الجنوب وقدومهم إلى البلقان واعتناقهم المسيحية وصولاً إلى تأسيس الكيانات السياسية الأولى لهم كرواتيا، راغوصة أو دوبروفنيك، راشكا، دوكليا، البوسنة. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة بشكل خاص إلى القسم المتعلق بالكنيسة البوسنوية الهرطقية أو البوغومولية التي لم تعترف بها الكنيسة الكاثوليكية ولا الكنيسة الأرثوذكسية، والتي أسهمت في تعزيز شخصية/ استقلالية البوسنة ما بين صربيا الأرثوذكسية وكرواتيا الكرواتية علماً بأن السكان في هذه الكيانات الثلاثة يتحدثون لغة واحدة. ويركز د. إماموفيتش في الفصل الثاني عن"البوسنة تحت الحكم العثماني"على ما يعتبره أهم حدث في التاريخ الحديث للبوسنة ألا وهو انتشار الإسلام واعتناق غالبية السكان له، وذلك بالنظر إلى النتائج الثقافية والسياسية المهمة التي خلفها. فالإسلام، مع البوغوميلية التي سبقته، أصبح يعتبر المحدد التاريخي الحاسم للبوسنة، وبالتحديد لغالبية السكان المسلمين فيها ص108. وهنا يبين د. إماموفيتش الاعتقاد الشائع بين المسلمين في البوسنة بأنهم أحفاد"البوغوميل القدامى"الذين اعتنقوا الإسلام نتيجة للضغوط التي كانت تمارسها عليهم القوى/ الدول الكاثوليكية والأرثوذكسية المجاورة، ولذلك فإنهم حافظوا على أنفسهم من القوتين/ الكنيستين المذكورتين بفضل اعتناقهم للإسلام ص108. ولكن مع هذا الاعتقاد ساد أيضاً اعتقاد آخر غير دقيق يقول بتحول جماعي للبوغوميل إلى الإسلام، حيث يقال بأن خلال وجود السلطان محمد الفاتح في البوسنة خلال 1463م قدمت إليه 36 ألف أسرة بوغوميلية أي حوالي ربع مليون شخص وهو عدد كبير جداً لسكان البوسنة آنذاك حيث اعتنقوا الإسلام فوراً. ولكن الدراسات الحديثة بعد 1950م كما يقول د. إماموفيتش، التي اعتمدت على المصادر العثمانية، كشفت عن أن اعتناق غالبية السكان للإسلام لم يكن كذلك بل أن انتشار الإسلام في البوسنة استمر حوالي قرنين ونصف حتى أصبح يضم غالبية السكان. والمهم هنا، كما يضيف د. إماموفيتش، أن اعتناق الإسلام لم يقتصر فقط على البوغوميل وإنما شمل أيضاً بعض السكان الكاثوليك والأرثوذكس في البوسنة. من ناحية أخرى فقد ساد هناك اعتقاد آخر خاطئ بأن اعتناق الإسلام بدأ من فوق بتحول النبلاء للدين الجديد لأجل الحفاظ على امتيازاتهم، بينما اعتنق البعض الإسلام نتيجة للضغوط المختلفة. ولكن د. إماموفيتش يوضح هنا أن العثمانيين، على رغم كونهم فاتحين، لم يحاولوا فرض الإسلام على الرعية، حيث صدرت آنذاك عدة أوامر وأحكام تمنع صراحة فرض الإسلام على الرعية، ومن هذه لدينا مرسوم أصدره السلطان محمد الفاتح في 1453م ينص فيه على كونه حامي الأرثوذكس أيضاً وأن"لا يحق لأحد إجبارهم على اعتناق الإسلام". ومع ذلك يقول د. إماموفيتش أن الكتّاب والمؤرخين الصرب والكروات خلال النصف الأول للقرن العشرين كانوا يركزون دوماً على وجود ضغوط جسدية ونفسية على السكان في البوسنة لاعتناق الإسلام. ولكن هذا الاعتقاد انهار في 1940م حين انتهى المؤرخ الكرواتي فلادسلاف سكارتيش في دراسة له أن العثمانيين لو أرادوا بالفعل فرض الإسلام على السكان في البوسنة لما بقيت لدينا كنيسة واحدة في نهاية القرن التاسع عشر ص109. وفي ما يتعلق بالحكم العثماني الذي طال حوالي 400 سنة 1463-1878م يلاحظ أن البوسنة حافظت على وحدتها وعلى اسمها بغض النظر عن التشكيلات الإدارية التي طبقت فيها إيالة، باشوية، ولاية. ولكن المهم هنا أن الحكم العثماني تبعه الاحتلال النمسوي/ المجري في 1878م نتيجة لقرارات مؤتمر برلين، الذي ووجه بمقاومة ضارية من المسلمين على رغم قبول استنبول بالأمر الواقع. ويلاحظ هنا أن التنافس النمسوي المجري من ناحية والتنافس الصربي الكرواتي من ناحية أخرى قد ساعدا على أن تحافظ البوسنة على وحدتها وحكومتها المحلية، إلى أن قامت فيينا بضم البوسنة إليها في 1909م مع منحها الحق في برلمان خاص وحكومة محلية. وعلى رغم أن فيينا شجعت في البداية المسلمين في البوسنة على الاستقلال الروحي والمؤسسي عن الدولة العثمانية، وعلى الاندماج مع بقية السكان الأرثوذكس والكاثوليك في البوسنة على أساس أنهم يشكلون شعباً واحداً يتحدث لغة واحدة، إلا أن المقاومة المسلحة للمسلمين ثم المعارضة السياسية للضم نمّت الوعي عند المسلمين بكونهم شعباً مستقلاً بشناقياً عن الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك في البوسنة. وفي هذا الإطار يلاحظ أن الأحزاب السياسية الجديدة التي برزت في البوسنة خلال الحكم النمسوي/ المجري كانت على هذا الأساس، أي أحزاب خاصة للمسلمين / البشناق الحزب المسلم التقدمي وللصرب الحزب الصربي القومي المستقل، وللكروات الاتحاد القومي الكرواتي. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية النمسوية المجرية بدأت تلوح في الأفق دولتان جديدتان لسلاف الجنوب/ اليوغوسلاف: الأولى تضم مناطق السلاف في الإمبراطورية المنهارة دولة السلوفين والكروات والصرب والثانية تضم صربيا بعد أن توسعت وضمت كوسوفو والجبل الأسود وفويفودينا. ودخلت البوسنة في إطار الدولة الأولى، وكانت لها حكومتها المحلية، ولكن الظروف المحلية والإقليمية قادت إلى توحيد الدولتين، وبالتحديد إلى ضم الدولة الأولى إلى الثانية، في دولة واحدة يوغوسلافيا في نهاية 1918م. ويستعرض د. إماموفيتش هنا الظروف السياسية والدستورية والقانونية خلال يوغوسلافيا الأولى/ الملكية 1918-1941م، التي ضغطت على المسلمين في البوسنة بشكل خاص إذ حملت معها التحدي الأول المتمثل بانتشار أعمال العنف ضد المسلمين في السنوات الأولى، والتحدي الثاني المتمثل في عدم الاعتراف بالبشناق كشعب مستقل على قدم المساواة مع الشعوب الأخرى، والتحدي الثالث المتمثل في تفتيت وحدة البوسنة لأول مرة. وبالمقارنة مع يوغسلافيا الأولى/ الملكية فقد حملت يوغسلافيا الثانية/ الفيدرالية انعطافاً جديداً يتمثل في اعتماد المبدأ الفيدرالي الذي كان يقوم على اتحاد يضم ست جمهوريات من بينها"جمهورية البوسنة والهرسك". وعلى رغم هذا الإنجاز، الذي أعاد للبوسنة وحدتها وحدودها التاريخية التي عرفت بها، إلا أن البشناق أو المسلمين في البوسنة عانوا من ضيم آخر يتمثل في عدم الاعتراف بهم كشعب مستقل على قدم المساواة مع الشعوب الأخرى في يوغوسلافيا، وهو ما تم أخيراً في 1968م. وفي هذا الإطار يستعرض د. إماموفيتش التعديلات التي طرأت على النظام الفيدرالي اليوغوسلافي وصولاً إلى دستور 1974م ، الذي أعطى صلاحيات واسعة وشبه سيادية للوحدات الفيدرالية بما في ذلك جمهورية البوسنة. ومن الطبيعي أن يخصص د.إماموفيتش الفصل الأخير من كتابه للبوسنة بعد استقلالها في 1992م. وفي الواقع أن إماموفيتش يمهد لهذا الحديث من تطورات الأزمة السياسية في يوغوسلافيا، التي نشأت نتيجة للتعديلات الدستورية التي أدخلتها صربيا على دستورها بعد إلغاء الحكم الذاتي الواسع لكوسوفو، ما جعل بعض الجمهوريات تتخوف وتتأهب لإعلان الاستقلال بإدخال تعديلات على دستورها تسمح لها بذلك. وهكذا مع إعلان استقلال سلوفينياوكرواتيا اندلعت الحرب هناك أولاً، ثم انتقلت إلى البوسنة بعد إعلانها للاستقلال أيضاً في نيسان ابريل 1992م. وبعد تتبعه لپ"الحرب ضد البوسنة"ينتقل د. إماموفيتش إلى تفاصيل"اتفاق دايتون"الذي أنهى هذه الحرب في 1995م وأرسى نظاماً دستورياً جديداً في البوسنة يقوم على كيانين شبه مستقلين جمهورية الصرب والفيدرالية البشناقية الكرواتية. وهكذا يمكن القول ان مع صدور هذا الكتاب باللغة الإنكليزية فقد أصبح في وسع القارئ غير البوسنوي أن يطلع على مرجع من الدرجة الأولى يغطي حوالى 1500 سنة من تاريخ البوسنة مع التركيز على الجوانب السياسية والدستورية والقانونية والمؤسسات المختلفة التي برزت وتطورت خلال هذا التاريخ الطويل. وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن مؤلف الكتاب مصطفى إماموفيتش مؤرخ معروف في البوسنة ومتخصص في التاريخ الدستوري والقانوني والمؤسساتي للبوسنة، وهو الآن أستاذ في كلية الحقوق في جامعة سراييفو وسبق أن درس في جامعة بودابست وجامعة ميتشغان في الولاياتالمتحدة. ومن أهم مؤلفاته المرجعية يمكن أن نذكر"الوضع القانوني والتطور السياسي الداخلي للبوسنة والهرسك خلال 1878-1914م"و"البشانقة في المهجر"و"تاريخ البشانقة"إلخ. * أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت - الاردن