"… حاملين البؤس، نمضي نحو أبواب الرجاء ونصلّي ونصلّي للمطر حيث كنا نغرس الحب ويسقيه القمر غير ان الشمس تسوّد ولا تدمع عين للسماء ثم تنهال علينا سحب راعدة من غير ماء اترى هذا أوان اليأس هذا زمن يولد من بطن الحفر آه خلصنا من اللعنة يا عصر الحجر…". 1 في اعماق كل واحد منا عاطفة غالبة تسيّر انفعالاته… وبالتالي حياته. قد تكون التيارات هادئة فتمر سفينة تفاعلاته دون ان تتقاذفها العواصف… وقد تكون محتدمة متأزمة فتتحطم الصواري وتتمزق الأشرعة. لكل عاطفة انسانية متأزمة نوع من الجنون… والجنون فنون… هناك جنون الحالمين من الفنانين والشعراء وغيرهم من الهاربين عبر احلام اليقظة من اسوار الواقع واشواكه… وهو نعمة بقدر ما هو موهبة يفتح بها المرء كوة للتنفس والضياء في اعماق دياجير اليأس والاحباط… ولكنها نعمة مشروطة… ممكنة طالما احتفظ الانسان بالقدرة على ابقاء قدميه ثابتتين على أرض الواقع. اذا فقد تلك القدرة وظل هائماً في الخيال ومتاهاته… تصبح نقمة مميتة ينفصل بها الانسان ليس فقط عن ارضية الواقع بل عن عالم الآخرين وقوانينه… عندئذ يكبله الآخرون في اسوار حقيقية تضمن لهم السلامة من فضاءات "واقعه" الخاص. هذا اذا لم يوصل هو الآخرين الى الفناء بجنونه كما فعل هتلر ونابليون ونيرون… *** وهناك جنون الغاضبين … وهو جنون صاعق قد يأتي مؤقتاً… هياجاً تحت مؤثرات نفسية وبدنية غير اعتيادية تثير انفعالات الفرد وتدفعه الى فعل ما لا يخطر له على بال حين يكون في كامل احتفاظه بهدوئه. انفجار الغضب هو الذي يدفع انسانا ما الى قتل آخر… يعرفه او لا يعرفه… في نوبة هياج لا يستطيع فيها السيطرة على افعاله… يرتد طفلا تتملكه انفعالاته وتدفعه الى اللامعقول واللامقبول. او يأتي الغضب متخثراً… يكمن في اعماق النفس حسدا وحقدا… وهذا الجنون يختلط فيه حب النفس بكراهية الآخرين… عاطفة قاتلة يتأكل فيها الانسان جسدا… وروحا كمن يتأجج فيه جمر يصهره من الداخل… ويحرق كل من يقترب منه من الغير… ليصبح في النهاية رمادا لا خير فيه… *** هي انواع… وانواع من الجنون… الغيرة… ورفض النفس… والجري وراء المستحيل… والانتحار عملا… ويظل الحب اعمق انواع الجنون ارتباطا بالنفس البشرية واقواها… رآه البعض عاطفة عمياء تتلبس الانسان فتسلبه السيطرة على اختيارات افعاله حين يفقد المنطق والعقل والمعرفة تأثيراتها الايجابية… ويكون لها الانتصار الاخير… ورآه آخرون حالة من الشفافية النفسية يعبر بها الانسان حدود فرديته وذاتيته فيرى ذلك الآخر في صورة حميمة جزءا من نفسه… ثم اذا تناهت به الشفافية تلاشى شعوره بالذات ليرى في الآخر كل وجوده… وهي في كلتا الرؤيتين جنون يستشري. ولو لم تكن جنونا مطلقا لما دفعت ملكا موعودا بامبراطورية لا تغرب عنها الشمس الى التنازل عن العرش لأجل امرأة لا يستطيع مفارقتها…! وفي مقابل ذلك يأتي نوع آخر من الجنون حباً متطرفاً في الأنانية… يفقد فيه الفرد شعوره بذاتية الآخر… يرى من يصطفيه لمحبته لا يستحق الحياة اذا لم يستجب لذلك الحب الأناني… وحين يصبح الحب أنانية خالصة… يفقد الآخر كل قيمته ليصبح مجرد "شيء" يُمتلك او يُحطم كي لا يمتلكه الآخرون… وذاك حقاً هو اخطر انواع الجنون نقتل به اقرب الناس الينا نفساً نفساً… ويوماً بعد يوم… نحطم به السفينة بانتزاع مساميرها… ونمزق الأشرعة… ونكون بذلك أول الغارقين. 1 من قصيدة "سحب من غير ماء" للشاعر اللبناني أديب صعب.