الكتابة عن موضوع الحب والجسد في مجتمع عربي محافظ هي نوع من المغامرة، فثمة مناخ ثقافي واجتماعي خاص يقيد حرية التعبير عنه، ويقيم أسواراً عالية من التحريم الديني والأخلاقي، تضاعف من خطورة الخوض فيه، إلا أنّ الرواية النسوية السعودية في مرحلة التسعينات وما بعدها تناولت موضوع الحب والجسد، وأصبح من المواضيع الأساسية في كثير من الروايات النسوية المعاصرة، التي تفاوتت بين الجرأة في طرحها والتعامل معه بحذر. ومن الأعمال التي يمكن ذكرها في هذا النطاق رواية" الفردوس اليباب"لليلى الجهني، التي تدور أحداثها حول شخصية" صبا"فتاة مثقفة عاشت تجربة حبٍّ فاشلة، أصيبت فيها بخيبة أملٍ في رجلها الخائن، الذي تكتبه لتمارس قتلاً رمزيًّا له، حين يغيب صوته كشخصية فاعلة مؤثرة، فيأتي من خلال حديث الساردة/ البطلة في خطاب يغوص في فضاء الذاكرة، ليكشف أعماق الأنثى الممتلئة بالقلق، وتبوح بمشاعر أنثوية متعمقة في أسئلتها الحائرة عن سرّ تلك العلاقة الجسدية التي كانت سبب تخلي الحبيب عنها فتقول:"رمقني وهو يقف بجوارك بمقت لا حدّ له بعدما عبر على جسدي بحبّ لا حد له أو على الأقل هكذا ظننت. كيف تبدل الأشياء ملامحها وأسماءها؟ وهل غيّر الحب ملامحه واسمه؟". ونمضي في فصول الرواية وهي تحيلنا إلى أحداث وشخصيات تحمل رؤيتها للمجتمع، بإيحاءات واقعية ورمزية، وأبعاد اجتماعية وفكرية ونفسية لعلاقة المرأة بالرجل في المجتمع، فترتاد مناطق خطرة في مغامرة كشف لثورة الجسد، بلغةٍ تميل إلى توظيف شفراته في جذب المتلقي، ليصبح الجسد مصدر عذاب البطلة، بعد أن كان مصدر لذةٍ أنتجت خطيئة لا يغفرها المجتمع"كيف تكون مصدر عذابي وأنت ثمرة لذتي المجنونة؟"فتظل حائرة بين دهشة الماضي وأحلامه الضائعة، والواقع المادي البائس، بشكل جعل الذات متشظية أمام القهر الذي تحسه وهي عاجزة عن مواجهة المجتمع، محاصرة داخل غرفة مظلمة تصارع الموت بيأسٍ وإحباط واستسلام معاتبة ذاتها"انسقتُ وراء فوضى الحب وعقب الفوضى دائمًا يأتي الخراب. بكلمة أخرى الموت. "من هنا يغدو الحب في نظرها معادلاً للموت والفناء، فتزداد تساؤلاتها عنه"الحب إذاً، مواجهة مع اليأس. لا، الحب هروب. أجل بالنسبة لي هروب من تفاصيل تسيجني بها أمي أحيانًا ولا تغفر لي تجاوزها". والكتابة عنه تمرد أيضاً على تلك التفاصيل التي يسيج المجتمع الروايات بها، والهروب هو موت في فضاء، يختلط فيه لدى البطلة شتات الخيال والأحلام، وتتداخل فيه حدود الواقع والمتخيل بين اليقظة والحلم، لتصبح الحياة معادلة للموت"أفكر بالموت والحياة. أتظن أنّ ثمّ فارقًا بينهما؟"وتظل في صراع بين الحب والجسد والخطيئة وأحلام اغتيلت بيد رجل لا يعرف إلا لغة الجسد، فتدين أنانيته وسلطته التي يدعمها المجتمع، وتنهي حياتها لتؤكد أنّه لا حب في عالم تنتهكه لذة الجسد. وفي رواية"وجهة البوصلة"لنورة الغامدي محاولة أيضاً للكشف عن رؤية الأنثى للحب، والبحث عن قيمة خاصة تعنى بالجسد، من خلال ذاكرة البطلة التي تتألم وتحلم بحب مختلف، لا علاقة له بالجسد، لكنها تصدم في حبها، وتختلط لديها مفاهيم الحب"ما عدت أميّز الحزن من الفرح... ما عدت أستطيع تفكيك الأصوات التي تكوّن كلمة"أحبك"كلمة تشبه حمام الحرم... كلما كبرنا عاماً"صغر حجم"الحمامة الرمادية"وتظل الذات المنشطرة المقموعة بثقل العادات والتقاليد في صراع بين الحب الأصيل ورغبة الجسد، والخوف من سلطة المجتمع، فتكبت رغبات الجسد المتمرد لأنها كما تقول:"امرأة عربية... وأنت رجل شرقي، نحيا في قلب مدن عربية نصفها مغمور في البحر والباقي هلامي"، ذلك الخوف دفعها لإقامة حب عبر الهاتف مع رجل لا تعرف منه سوى الحنجرة وتصفه بأنه"الرجل ? الحلم المستحيل"الذي تعيش معه الحب"كما تريد هي، لا كما يريد... كما تريده أن يعشقها، لا كما يريد هوأن تعشقه"ونتيجة خيانة الرجل تقع في صراع نفسي وحيرة بين"الحب واللا حب"، بين العلاقة الإنسانية الصادقة التي تريدها من الرجل، والعلاقة الجسدية الزائفة التي تقول عنها:"الجانب الجسدي سبّب لي حفرة غائرة في القلب... من الداخل... في الإحساس"، لتصبح العلاقة الجسدية عندها"مكروهة جداً"وعندما تعجز عن تحقيق علاقة تحلم بها مع رجل يقدر وعيها ولا ينظر إلى جسدها، تتساءل بيأس:"هل سأموت وأنا لم أشعر بلحظة حب بيني وبين كائن أحبه بشكلٍ حقيقي"، لأنّ الحب في نظرها غير قائم على رغبة جسد فقط، بل ترى أنه"إذا أحب أحدنا إنساناً فلا يرسم في ذهنه ماذا يريد منه"وعندما لا تجد الرجل/ الحلم الذي يحترم إنسانيتها ووعيها تعترف لنا"فقدتُ الأمل... لأنني لم أجده... ولن..."، وتقر في النهاية بهزيمتها وفشلها في إقامة علاقة حب ناجحة فهي ما زالت تحيا في دائرة الخوف الذي علمها الصمت والهروب، فيموت الحب والحلم معاً، لتثير أسئلة مفتوحة عن مرارة الخيبة. وهكذا تصبح ثنائية الحب والموت في الرواية النسوية السعودية تيمة حاضرة تدفعنا إلى التأمل، فكل حب ينتهي بالموت أو الفشل أو الإحباط في تعالق معقّد، جعلها تتخذ من الجسد أداة فنية لها فعلها وجماليتها، ينتج لنا رؤيتها التي تسعى إلى تجسيدها، مستعيرة لغة الجسد لكشف ما تعانيه المرأة من قهر وسلطوية وتابوهات في واقعها المادي. * باحثة وناقدة سعودية