بعد أقل من عشر ساعات على تأدية أعضاء الحكومة الايطالية الجديدة اليمين الدستورية أمام الرئيس أوسكار سكالفارو، سارع أربعة من كبار الوزراء الى اعلان استقالاتهم، وتسابقت قيادات أحزاب المعارضة الى الافصاح عن نواياها بحجب التأييد عن هذه الحكومة، وامتلأت شوارع المدن الايطالية الكبرى بمتظاهرين يهتفون: "لصوص مجرمون فاسدون". وهددت هذه الأجواء بخنق الحكومة في مهدها، على رغم أن هذه الاتهامات لم تكن موجهة الى الوزراء الجدد، بل الى البرلمان الذي كان اقترع لتوه لصالح قرار بعدم رفع الحصانة عن رئيس الوزراء السابق بتينو كراكسي للتحقيق معه بشأن 41 تهمة تتعلق بقضايا رئيسية، مثل الرشوة والاتصال بالمافيا والتستر على جرائمها، والفساد الاداري، ثم الاكتفاء بالسماح للقضاء باستجوابه في قضايا ثانوية. وكان كراكسي المتهم بتلقي رشاوى قيمتها نحو 29 مليون دولار أميركي، أصبح رمزاً للطبقة السياسية التي حكمت ايطاليا منذ أربعين عاماً، والتي صوت الناخبون في استفتاء شعبي عام بنسبة 82 في المئة لصالح اجراء اصلاحات في النظام الانتخابي تهدف الى التخلص منها. أما البرلمان الذي امتنع عن رفع الحصانة عن كراكسي، ففيه من أصل 956 عضواً، بهيئتيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب، 120 عضواً متهمين ب 436 قضية رشوة، وتسيطر عليه أكثرية من ائتلاف الحزبين الاشتراكي الذي يعتبر كراكسي زعيمه التاريخي، والحزب الديموقراطي المسيحي، الذي ينتمي الى زعامته التاريخية المتهم الآخر جوليو أندريوتي، الذي تولى رئاسة الوزراء سبع مرات. وبعد دقائق من اعلان نتيجة الاقتراع السري في البرلمان لصالح عدم رفع الحصانة عن كراكسي أعلن وزير البيئة الذي ينتمي الى جماعة الخضر استقالته، وتبعه ثلاثة وزراء آخرين ينتمون الى حزب اليسار الديموقراطي الشيوعي سابقاً الذي لم يشارك في أي ائتلاف حكومي منذ العام 1947. كما سارع الحزب الجمهوري الذي تم تعيين أحد قادته مديراً عاماً لمجلس الوزراء، الى سحب وعده بتأييد الحكومة الجديدة. ومع ذلك يجمع المراقبون على أن هذه الهزة السياسية التي شهدتها ايطاليا قبل نيل الحكومة الجديدة الثقة في البرلمان، تحولت لصالح رئيس الوزراء الجديد كارلو تشامبي، الذي ينظر اليه برلمانيو الحزبين الاشتراكي والديموقراطي المسيحي، بريبة خاصة، والذي يعتبر الناخبون الايطاليون أن مهمة حكومته الرئيسية هي الشروع بتنفيذ الاصلاحات السياسية التي أقرها الاستفتاء العام. وتشامبي هو أول رئيس وزراء، خلال الأربعين سنة الماضية، من خارج الأحزاب ومن خارج الطبقة السياسية التقليدية. وقد تولى خلال الأربعة عشر عاماً الماضية إدارة المصرف المركزي، أي المؤسسة الايطالية الوحيدة التي لم تشملها تهم الفساد والتي تحظى باحترام خاص على المستويين الشعبي والرسمي. عندما اختار تشامبي وزراءه أقدم على خطوة لم يجرؤ أي رئيس وزراء على مثلها منذ الحرب العالمية الثانية. فهو لم يجرِ الاستشارات التقليدية مع رؤساء الأحزاب الكبرى، بل اعتكف مع معاونيه ثلاثة أيام بقي خلالها على اتصال بالرئيس اوسكار سكالفارو، ثم خرج بحكومة مؤلفة من 24 وزيراً، من بينهم تسعة وزراء حزبيين فقط، ينتمون الى الأحزاب الخمسة الرئيسية، بما فيها الحزب الشيوعي سابقاً، أما الباقون فهم من أمثال تشامبي نفسه، أي من المستقلين والاداريين وأصحاب الاختصاص والأيدي النظيفة. ويستحيل على حكومة من هذا النوع ان تنال ثقة البرلمان، لولا أن سمعة هذا البرلمان وأحزابه السياسية لم تصل الى ذلك المستوى المتدني بعد عملية الاقتراع على عدم رفع الحصانة عن كراكسي. واعترف زعيم الحزب الديموقراطي المسيحي مينو مارتينازولي بهذه الحقيقة وأعلن أن الحياة السياسية في ايطاليا لم تعد تقبل أياً من السياسيين التقليديين. وكشف عن أن قيادة حزبه ستحذو حذو قيادة الحزب الشيوعي وتغير اسم الحزب الذي حكم ايطاليا من خلال ائتلافات حكومية، منذ العام 1948، الى اسم "حزب الشعب". وبدورهم يركز قادة الحزب الاشتراكي جهودهم على لملمة قواعد الحزب وقياداته الشابة تحت اسم جديد. أما أحزاب المعارضة اليسار الديموقراطي، والخضر، والجمهوري وهي الأحزاب التي قادت التظاهرات الشعبية ليلة الاقتراع حول كراكسي، فهي أعلنت أنها ستؤيد حكومة تشامبي إذا ما تقدمت ببرنامج لاجراء الاصلاح الانتخابي. وتشامبي وضع في رأس أولويات حكومته الشروع بهذه الاصلاحات. ولم يبق خارج هذا الاجماع الايطالي سوى حزب "رابطة الشمال" بزعامة اليميني المتطرف أمبرتو بوسي، الذي لم يجد سوى تعبير "أم المعارك" ليصف طبيعة مواجهته المقبلة مع الحكومة الجديدة. مع ذلك وعلى رغم هذا الاجماع يتوقع المراقبون أن تكون حكومة تشامبي مجرد حكومة انتقالية تشرف على انتخابات برلمانية وفق قوانين جديدة تؤدي الى برلمان شبيه بمعظم برلمانات أوروبا الغربية، حيث يوجد حزب الأغلبية الحاكم وأحزاب الأقلية المعارضة. وبالتالي الى "الثورة البيضاء" والجمهورية الثانية، التي يأمل الايطاليون بولادتها بأسرع وقت ممكن.