يقول رئيس وزراء ايطاليا جوليانو أماتو ان "تغييرات ثورية" تكتسح ايطاليا. وبعد ان يعترف بوصول النظام السياسي والاجتماعي في البلاد الى شفير السقوط، يحذر من ان "بناء شيء جديد لا يعني بالضرورة سحق القديم، بل يمكن ان يتم من خلال سلسلة من الاصلاحات العميقة والهادئة في الوقت نفسه". ويقول روبرت باتنام، استاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد، ان نهاية الحرب الباردة، وغياب الخطر الشيوعي في الخارج والداخل، كشف عيوب الطبقة السياسية، التي تمكنت من البقاء على رأس النظام، منذ الحرب العالمية الثانية، من خلال الادعاء بأنها تشكل "الخندق" المتقدم في مواجهة الشيوعية، وبسبب الرخاء الاقتصادي النسبي خلال الخمسينات والستينات، والسيطرة على المرافق الاقتصادية في السبعينات والثمانينات. ويعتقد باتنام ان ايطاليا، التي لم ينضج فيها "المجتمع المدني" بعد، والتي ما زال نظامها السياسي والاجتماعي يستند الى العلاقات العائلية و"المحسوبية"، ستكون، من بين الدول الغربية، اولى ضحايا النظام العالمي الجديد. ويعتقد باتنام، الذي صدر له قبل اسابيع كتاب بعنوان "صنع الديموقراطية والتقاليد المدنية في ايطاليا الحديثة". ان النظام السياسي اصبح بحكم المنهار، وان الاسئلة الكبرى تتركز حالياً حول ما اذا كانت ايطاليا ستتجاوز هذه المحنة بصورة سلمية او انها ستتعرض لهزات عنيفة قد تكون دموية. وجاءت تحذيرات رئيس الوزراء الايطالي وتقديرات البروفسور الاميركي بعد ان شهدت ايطاليا أعقد أزمة سياسية منذ الحرب العالمية الثانية. فخلال الاسابيع الاربعة الماضية استقال ستة من كبار وزراء الحكومة التي شكلها جوليانو أماتو في حزيران يونيو الماضي، من ائتلاف حزبي يضم الديموقراطيين المسيحيين والاشتراكيين والليبراليين والاجتماعيين الديموقراطيين. وترافقت الاستقالات مع الاعلان عن نتائج التحقيقات في اضخم عملية رشاوى في تاريخ ايطاليا الحديث. فقد وصل عدد المتهمين في رشاوى دفعتها كبرى الشركات الايطالية للأحزاب الحاكمة لنيل عقود المشاريع الحكومية الى نحو سبعين ألف شخص، من بينهم وزراء ونواب، وموظفون كبار، ومدراء كبريات الشركات الحكومية، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء السابق بيتينو كراكسي الذي وجهت اليه تهم انتهاك القانون المتعلق بتمويل الاحزاب والفساد والاختلاس، الامر الذي دفعه الى الاستقالة من زعامة الحزب الاشتراكي بعد 16 عاماً من الهيمنة المطلقة عليه. وبلغت قيمة الرشاوى نحو سبعين مليار دولار اميركي. اي ما يساوي نسبة 65 في المئة من قيمة العجز في الموازنة العامة. ويجمع المراقبون على ان من ابرز المؤشرات على انهيار النظام السياسي في ايطاليا يتمثل في محاولة رئيس الوزراء جوليانو أماتو الخروج من أزمة الرشاوى هذه عبر تمرير مرسوم حكومي يجعل انتهاك قانون تمويل الاحزاب وقبض الرشاوى خاضعاً للأحكام المدنية بدلاً من الاحكام الجزائية، الامر الذي يجعل العقوبات التي تصدر بحق المتورطين مجرد غرامات مالية تساوي ثلاثة اضعاف الاموال غير المشروعة التي تلقاها المتهم، اضافة الى تعليق نشاطاته السياسية والاقتصادية لمدد تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، بدل ان تفرض الاحكام عقوبات بالسجن. وبالفعل اصدرت الحكومة المرسوم، لكن رئيس الجمهورية اوسكار سكالفارو رفض التوقيع عليه، مما اضطر رئيس الوزراء الى سحبه بعد جلسة عاصفة في مجلس الشيوخ تبادل خلالها ممثلو احزاب الائتلاف الحكومي وأحزاب المعارضة أقزع "الشتائم" وتدخل موظفو المجلس اكثر من مرة لمنع "الشيوخ" من الاشتباك بالايدي. أما نجاح أماتو وحكومته بتفادي الاستقالة التي طالبت بها احزاب المعارضة في مجلس الشيوخ، فلم يجد فيه المراقبون اشارة الى متانة النظام السياسي وقدرته على استيعاب الازمات، بقدر ما وجدوا فيه مؤشراً جديداً على قرب موعد انهيار هذا النظام. فلا الائتلاف الحكومي قادر على الاستمرار اذا اصرت المعارضة على المطالبة بالاستقالة، ولا المعارضة قادرة على تشكيل ائتلاف بديل اذا ما استقالت الحكومة. وكشف اماتو امام مجلس الشيوخ ان زعماء المعارضة الذين طالبوه بالاستقالة امام كاميرات التلفزيون حثوه على البقاء في منصبه اثناء الاتصالات السرية. وبالفعل دعا مجلس الشيوخ اماتو ووزراء حكومته الى مواصلة مهمتهم بأغلبية 341 صوتاً مقابل 99 وامتناع واحد عن التصويت. ولم تكن هذه النتيجة ممكنة لو ان اكثرية المعارضة لم تصوت لصالح الحكومة، بسبب تقاطع مصالح احزاب المعارضة المتمثلة بالحزب الديموقراطي الاشتراكي الشيوعي سابقاً، ورابطة الشمال التي تطالب بالانفصال عن الجنوب، والفاشيين الجدد، والاحزاب الشيوعية الصغيرة، مع مصالح احزاب الائتلاف الحكومي، عند نقطة المحافظة على الحكومة المحلية حتى موعد الاستفتاء على قانون الانتخاب الجديد المقرر اجراؤه في 18 نيسان ابريل المقبل. وهو الاستفتاء الذي يتوقع له ان يشكل بداية اصلاح النظام السياسي برمته.