معرض صناع العطور في دورته العاشرة ونسخته في عام 2024    الشرع يبحث مع ميقاتي العلاقات بين سوريا ولبنان    الأخضر السعودي تحت 20 عاماً يكسب أوزباكستان وديّاً    أمير عسير يستقبل رئيس جمهورية التشيك في بيشة    جمعية التنمية الأسرية تعرض خدمات مركز الأنس بصبيا    حازم الجعفري يحتفل بزواجه    الأرصاد: حالة مطرية بين المتوسطة والغزيرة على مناطق المملكة    غرفة جازان ومركز الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني يعززان شراكتهما لدعم التنمية الإعلامية في المنطقة    وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون الدعوة يزور مسجدي التابوت والنجدي الأثريين بجزر فرسان    جاسم الصحيح و25كوكبًا من الشعراء السعوديين وغيرهم يحييون أمسيات شتاء جازان    مدير الأمر بالمعروف يزور مدير فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    ردم بئر يدوي مخالف لأنظمة السلامة في جدة    المملكة توزع 1.000 سلة غذائية في باكستان    حرس الحدود يحبط تهريب (56) كجم "حشيش" و(9400) قرص من مادة الإمفيتامين المخدر    موقف الهلال من قيد نيمار محليًا    العُلا تستضيف نخبة نجوم لعبة «البولو»    رونالدو: أنا وعائلتي سعيدين في السعودية.. بدأنا حياة جديدة في هذا البلد الجميل    انطلاق فعاليات النسخة الرابعة من مهرجان الفقع بمركز شري    رالي داكار السعودية بنسخته السادسة ينطلق.. وغداً بيشة تحتضن أولى المراحل الرسمية    الشيباني: السعودية تدعم وحدة سورية    تسجيل 1267 حالة وفاة بجدري القردة في الكونغو الديمقراطية    خطيب المسجد النبوي: نعم الله تدفع للحب والتقصير يحفز على التوبة فتتحقق العبودية الكاملة    القيادة تعزي الرئيس الأمريكي في ضحايا الحادث الإرهابي الذي وقع في مدينة نيو أورليانز    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُحبط 3 محاولات لتهريب أكثر من 220 ألف حبة محظورة    وصول الطائرة الإغاثية السعودية الرابعة لمساعدة الشعب السوري    وسط مخاوف من الفوضى.. حرس الرئاسة يمنع اعتقال رئيس كوريا الجنوبية    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية الرابعة التي يسيّرها مركز الملك سلمان للإغاثة لمساعدة الشعب السوري    مظلات الشحناء والتلاسن    لحظات رياضية سعودية لا تُنسى    بين عمان والبحرين كأس وذهب.. من عريس الخليج؟    الكلية الأمنية تنظّم مشروع «السير الطويل» بمعهد التدريب النسائي    كيف تتجنب ويلات الاحتراق النفسي وتهرب من دوامة الإرهاق؟    لتعزيز سعادتك وتحسين صحتك.. اعمل من المنزل    5 أخطاء شائعة في تناول البروتين    كيف ستنعكس تعديلات أسعار اللقيم والوقود على الشركات المدرجة؟    الغضراف    قاتل الشتاء الصامت!    ذلك اليوم.. تلك السنة    خشونة الركبة.. إحدى أكثر الحالات شيوعاً لدى البالغين    الصراعات الممتدة حول العالم.. أزمات بلا حلول دائمة    عبير أبو سليمان سفيرة التراث السعودي وقصة نجاح بدأت من جدة التاريخية    سوق العمل السعودي الأكثر جاذبية    ترمب أمام تحدي تعديل السلوك السياسي الإسرائيلي    عام جديد بروح متجددة وخطط عميقة لتحقيق النجاح    محمد الفنتوخ.. الهمّة والقناعة    بين ثقافتين    ابتسم أو برطم!    1.3 مليون خدمة توثيقية.. عدالة رقمية تصنع الفارق    الأكراد.. التحديات والفرص    سُلْطةُ الحُبِّ لا تسلّط الحرب    لماذا لا تزال الكثيرات تعيسات؟    السعودية تأسف لحادثة إطلاق النار التي وقعت في مدينة سيتينيي بالجبل الأسود    استقبله نائب أمير مكة.. رئيس التشيك يصل جدة    وصول الطائرة الإغاثية السعودية الثالثة لمساعدة الشعب السوري    محافظ محايل يلتقي مدير عام فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    المملكة تنظم دورة للأئمة والخطباء في نيجيريا    أمين الرياض يطلق مشروعات تنموية في الدلم والحوطة والحريق    نائب أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الرياضة بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أربع نظرات لا تنسى
نشر في الحياة يوم 10 - 05 - 1993

أربع نظرات تظل محفورة في ذاكرتي ما حييت، لما لها من وقع خاص، ولما أغدقته في بلاغة من تمام إفصاح. أولاها، آخر نظرة رمقتني بها الوالدة قبيل لحظات من تفويضها الروح.
في هزيع أخير من ذات ليلة مشؤومة، أوقظت في لهفة بأن الوالدة تعاني من ألم ناحر في معصميها وصدرها. اتصلت هاتفياً بصديقي وزميل الدراسة الدكتور عبدالله هداية الله، رغم انه في الطرف الآخر من المدينة المجاورة. قال لي، بلا تردد أو تقاعس أو تناعس: "مسافة الطريق وأكون معكم". لم يزد. ووصل في أقل مما توقعنا له. أصرّت الوالدة أن يؤتى لها بطرحتها قبل دخوله. قلت لها: إنه ابنك! قالت:أدري ومع ذلك. قالت لها المثل السوداني: "الناس في شنو، والحسّانية في شنو؟" قالت: لا بد! كانت تعاني من ألم مبرّح هائل، ولكنه كان آخر درس لنا في حياتها.
قال لي الدكتور هداية الله في شرود بال: لا غنى من أن يراها الدكتور صديق أحمد اسماعيل فوراً. وهو صديقه وصديقي، ومن كبار اخصائيي القلب النبغاء. هاتفه، فوصل بدوره من غير إبطاء. كيف أنسى لهما جميلهما الباذخ تلك الليلة أو مدى اعتزازي بالانتماء على نحو ما لهذا الطراز الرفيع من البشر. عمل الدكتور صديق بهمة على نقلها الى مستشفاه.
هناك وقفت أمامها. توصيلة الاوكسجين عبر أنفها وهي لا تقدر على النطق. استأذنتها في الخروج دقائق وأعود. كانت تحس بدبيب الموت ودنوّ النهاية لا ريب، ولكنها كانت إمرأة ذات تحمّل فذ وجلد. رفعت عينيها الواهنتين نحوي، ثبتت نظرتها في نظرتي، ورمقتني بنظرة طويلة لا أطول منها، كأنها كانت تبوح عبرها عما يعتلج في كيانها كله. نظرة أودعتها من الحب ما لم تعبّر لي عنه قط مدى حياتي معها، وهي حياة كلها حب وايثار وعطاء من جانبها. نظرة أودعتها - للغرابة - امتنان أم لإبن ان لم يقم ببّرها على النحو الذي كان يتمناه، فما ضنّ بالمحاولة. كانت نظرة وداعها الأخير لي. حملت تلك النظرة محتاراً، معتزاً، خائفاً، وخرجت. لحق بي من يقول لي البركة فيك وفينا، غادرت الوالدة دار الفناء الى حيث لا ألم ولا عناء. وبقيت تلك النظرة كتاباً مفتوحاً أتلوه دائماً كأجمل ما عبرت لي عنه تانك العينان الذكيتان الرؤوفتان، رسالة حب أخيرة، وآخر شكر من أم كانت تشكر ابناءها حتى على ما لا يستوجب الشكر.
أما النظرة الثانية، فذات طابع مناقض تماما. فقد دخل في يقين أحدهم ان لي ضلعاً في محاولة للنيل منه على نحو ما. لم يستوضحني، وآثرت ان ارجئ الايضاح الى لحظة أنسب، وان ظل سوء الفهم يضايقني.
ما أن وقعت عينه عليّ ذات يوم، حتى أشهر لي على التوّ من كل محجر خنجراً طويلاً براقاً، مسنوناً ومسموماً، وقد ظلل جبينه قطوب فوري ومقت مطلق، لا تسامح فيه أو صفح. دخلت في منتهى الاستغراب والاغتمام. فهو في هذا الموضع، في هذه اللحظة، في ساعة تطهّر واستغفار، ساعة تسامٍ واستتابة. فكيف يسمح للشر بأن يثب من أعماقه عارياً، وقحاً، فاتكاً، على هذا النحو؟ ما جدوى مجيئه هنا يتظاهر بالتقوى؟ وفي يقيني، لو كان بمقدوره ان ينقض عليّ بخنجر يخفيه بين طياته كأبي لؤلؤة أو ابن ملجم، ما تردد. رثيت له أن حمل مخزوناً كبيراً بهذا القدر من السم في سريرته. وذكرتني تلك النظرة المسمومة القاتلة، ببيتي شعر لبيرتولت بريخت عن قناع الشر الياباني، حيث لاحظ ان الانسان بحاجة الى جهد عضلي كبير جداً لكي يصير شريراً.
النظرة الثالثة، نظرة طفل ملؤها حلاوة وطهر، و"عفرتة" وبراءة. نظرة متفائلة، باسمة، معدية. كنت على الدرج الكهربائي هابطاً الى قطار المترو. لاحظت بطرف عيني شيئاً صغيراً كالكرة في ذيل الصف البشري الطالع في الاتجاه المعاكس. رأس طفل لا يبين باقي جسمه. كان تجاوزني، ولكنه ظل ملتفتاً نحوي، بترقب صبور واثق، وبابتسامة قاهرة، ونظرة ذكية، كأنه يقول لي: أعرف انني سأرغمك على الالتفات إليّ والانتباه لي. فلا تستهن بهذا الشيء الضئيل الذي لا ترى منه الآن غير رأسه الصغير. انه أنا أيها الغريب المجهول، لو عرفت من أنا. رددت له بدوري ابتسامته المتواطئة الودود بابتسامة شاكرة. وحملت معي تلك الابتسامة، وتلك النظرة الضاحكة الذكية الجريئة، النظرة الواثقة المتلطفة مع غريب عابر في وهلة من الدهر، رغم الفارق الهائل بين الاثنين. واختفى صاحب تلك النظرة - الطفل المجهول - وما اختفت عن ذاكرتي تلك النظرة حتى هذه اللحظة.
وأما النظرة الرابعة، فنظرة طفل آخر أيضاً، وشتان! نظرة عابسة، مؤنبة، معذبة، ممضة. كنت في جولة نظمت لي في غرب السودان مصعّداً في جبل مرة. أية نزوة حمقاء مستخفة دفعت بي لارتداء قميص بألوان صارخة بهيجة، اشتريته في أحد "تخفيضات" متجر "بلومينغديل" بنيويورك، فأين بلومينغديل، بل وأين مانهاتن من دارفور وجبل مرّة؟ كان طفل يقف كعتود على ربوة، وحيداً، لا ترى في الخلاء المقفر وتلك الهاجرة بشرياً بالقرب منه. عليه قميص بلدي خشن بلا لون محدد، أغبش بلون تربة دارفور. وقعت عين الطفل على بهجة قميصي أنا الكبير الكهل، وحدجني بنظرة تقول في تأنيب ممحص للضمير: أيّنا أحق من الآخر بنوع قميصه يا هذا؟ ولقد كان على حق، ان كان ذلك ما فكر به. ولا يعزيني انني أوقفت حياتي منذ صباي الباكر لكي تكون لأمثاله الفرصة الكاملة في السعادة والبهجة، وكل ما يبدأ به حياة معافاة هنيئة حيث الطفل هو الملك، وينبغي أن تكون له الأفضلية دائماً.
صار نقطة في السراب كنملة تقف على حجر، ينظر إليّ وأنظر اليه، لا يرفع أحدنا نظره عن الآخر. انفجر إطار السيارة في الصهد الجهنمي. طلب مني السائق الجلوس على حشبّة في ظل شجرة ريثما يستبدله. أصررت على الوقوف بجانبه رغم اعتراضه. قلت له أحس بجدواي إن مددت لك بمفك، أو عرقت بجانبك في هذا السعير السوداني. كان السائق هو ذلك الطفل الفوراوي نفسه وقد كبر. وكنت أنا المفتش السكسوني في إهاب أسود يا للعار! والقميص الأميركي اللعين كأنما ألوانه من شرر جهنم على بدني. بلى، تخلصت منه فور وصولي، ولكن كيف لي التخلص من تلك النظرة المؤنِّبة كسهم غائر في الصميم، نظرة طفل في شظف الحرمان وقشف المعاناة، ومضاضة الاشتهاء، طفل في ذمتي، ربما حرّكت فيه من دون قصد مشاعر حسد أو بغضاء وهو في سن البراءة هذه.
أربع نظرات أستعيدها من حين لحين، تظل محفورة في ذاكرتي ما حييت، والعيون - من بعد - مرايا النفس البشرية.
* كاتب وشاعر سوداني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.