سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الوسط" تنشر فصولاً من كتاب أميركي جديد يكشف أسراراً مهمة عن الشرق الأوسط . أميركا رفضت عرضاً إسرائيلياً للقيام "بعمليات مشتركة" في الشرق الأوسط ما حقيقة رهان بشير الجميل على اسرائيل؟ 4
تكشف الحلقة الرابعة من كتاب المسؤول الأميركي السابق هاوارد تايشر، الذي حصلت "الوسط" على حقوق نشره باللغة العربية قبل صدوره ونزوله الى الأسواق، كيف رفضت الولايات المتحدة عرضاً اسرائيلياً للقيام بعمليات أميركية - اسرائيلية مشتركة لمواجهة "الاخطار المختلفة" في الشرق الأوسط، وكيف أكد المسؤولون الأميركيون للاسرائيليين ان "الولايات المتحدة لها أصدقاء عرب ولها مصالح حيوية لا يمكن تجاهلها". وتكشف هذه الحلقة، أيضاً، معلومات جديدة عن العلاقات بين اسرائيل وبشير الجميل. وهاوارد تايشر هو مسؤول أميركي سابق عمل في وزارة الخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي الأميركي في عهدي الرئيسين جيمي كارتر ورونالد ريغان وساهم في التخطيط للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وكان أول منصب تسلمه تايشر هو محلل لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية في تموز يوليو 1977 في عهد كارتر، ثم تسلم بعد ذلك مناصب ومسؤوليات عدة أبرزها منصب مدير شؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا ثم مدير الشؤون السياسية والعسكرية في مجلس الأمن القومي في الفترة بين 1982 و1987. وقام تايشر بمهمات سرية وعلنية عدة في الشرق الأوسط، سواء في إيران أو لبنان أو مصر أو سورية أو اسرائيل أو دول أخرى. ويرئس تايشر منذ 1989 شركة كومبيوتر، كما أنه يعمل كمستشار لعدد من الشركات والدول في العالم. وقد ألف هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "الركيزتان الأساسيتان لعاصفة الصحراء" بالتعاون مع زوجته غايلي وهي خبيرة في القضايا الدولية ومكافحة الارهاب. وقد حصلت "الوسط" على حق نشر أبرز فصول هذا الكتاب وهو عبارة عن مذكرات تايشر، قبل أسابيع من صدوره في الولايات المتحدة. وما يهمنا من نشر الكتاب هو كشف المعلومات الواردة فيه من دون ان يعني ذلك تأييد مضمونه. وفي ما يأتي الحلقة الرابعة من هذا الكتاب: وصل مناحيم بيغن رئيس الوزراء الاسرائيلي الى واشنطن في الاسبوع الثاني من ايلول سبتمبر 1981 لكي يرسي أصول علاقة شخصية مع الرئيس ريغان. وقبل اجتماع ريغان اليه بفترة قصيرة اجتمع الكسندر هيغ وزير الخارجية الأميركي وحده الى ريغان في البيت الأبيض وأكد له معارضة كاسبار واينبرغر وزير الدفاع لاتفاق التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة واسرائيل. لكن الرئيس ريغان أيد موقف هيغ. وعندها قدم له هيغ فهرساً كان أعده روبرت ماكفرلين شخصياً ويضم أربع نقاط أساسية للتعاون الاستراتيجي ينبغي على الرئيس أن يقترحها على بيغن. واجتمع الوفدان الأميركي والاسرائيلي في البيت الأبيض. وبعد أن رحب ريغان برئيس الوزراء الاسرائيلي تركه يتحدث. وعندها انتهز بيغن الفرصة ليقترح وجوب التوصل الى اتفاق رسمي على التعاون الاستراتيجي بين الدولتين وتعرض ريغان للنقاط الأربع الرئيسية التي أعطاها له هيغ ووافق على الفور، وأصدر أوامره بأن يعمل واينبرغر مع وزير الدفاع الاسرائيلي الجديد ارييل شارون على وضع التفاصيل اللازمة. ومع أنه اتضح، فيما بعد، ان كلا من الدولتين كانت تنطلق من مبادىء متضاربة مع مبادىء الأخرى للتعاون الاستراتيجي فانهما لم تبذلا في هذا الاجتماع أي جهد لمحاولة وضع المبادىء أو الاتفاق على الأهداف التي يأمل الطرفان في تحقيقها. وطلب ريغان من واينبرغر إبداء رأيه في كيفية تطور التعاون الاستراتيجي. إلا أن واينبرغر اكتفى بالقول انه يتطلع الى "وضع التفاصيل بطريقة تعزز المصالح المتبادلة للبلدين". أما شارون فقد أعرب بحماسة عن آرائه بل وذهب الى حد إلقاء محاضرة متحيزة جداً على الرئيس ومستشاريه ليشرح ماذا تستطيع أن تفعل اسرائيل لخدمة الولايات المتحدة في جميع أرجاء الشرق الأوسط وكأن الولايات المتحدة عاجزة تماماً عن القيام بأية عملية عسكرية مهما كان نوعها. وبدا واضحاً أن واينبرغر شعر بالصدمة من حديث شارون ومن الأهداف الواسعة التي تحدث عنها، ولذا بذل قصارى جهده لكي يخفف من تسارع المناقشات. وخلال المناقشات طمأن بيغن الرئيس ريغان بأنه لن يبذل جهوداً فعلية لمعارضة صفقة طائرات للسعودية، ولكنه أكد معارضة اسرائيل القوية لها لأنها ستلحق ضرراً بتفوق اسرائيل النوعي على "أعدائها العرب" وستؤدي الى حدوث خلل في ميزان القوى. وخلال الاجتماعات التالية في الكونغرس رفض بيغن أن يبلغ أعضاء الكونغرس أنه لا يعارض الصفقة. ولهذا اعتبر ريغان ومستشاروه ما قاله بيغن لاعضاء الكونغرس "خيانة للوعد" الذي أعطاه للرئيس بعدم معارضة بيع الطائرات للسعودية. وفي 19 ايلول سبتمبر 1981 توجهت مع ماكفرلين الى اسرائيل قادمين من مصر لاجراء محادثات سرية مع شارون وديفيد كيمحي. وفي طريقنا من المطار الى منزل السفير الأميركي صموئيل لويس استمعنا الى نشرة أخبار الساعة الخامسة مساء من الاذاعة الاسرائيلية فاذا بها تذكر أن ماكفرلين وصل الى اسرائيل لاجراء محادثات عن التعاون الاستراتيجي. وهز لويس رأسه منزعجاً وقال لماكفرلين: "أهلا بك في أرض شارون. فالأشياء الوحيدة التي تظل سراً هنا هي تلك التي يريد شارون إبقاءها سراً. فهو يريد أن ينشر نبأ زيارتك لكي يثبت أن مذكرة التفاهم ستعطي اسرائيل نتائج ملموسة". وعندها قال ماكفرلين: "ما دامت القضايا السياسية مكتومة ولا تتسرب فليس من المهم أن يذاع نبأ زيارتي أو لا يذاع. فأنا أدرك حماس شارون للمضي قدماً بسرعة في العملية". في صباح اليوم التالي توجهت مع ماكفرلين ولويس الى القدس لبدء المحادثات مع ديفيد كيمحي وهانون بارون نائب المدير العام لوزارة الخارجية، على أن نجتمع على حدة بشارون. وبدأ ماكفرلين الاجتماع في مكتب كيمحي في مبنى وزارة الخارجية بالاعتراف بأن هناك تقدماً كبيراً في عملية ترسيخ التعاون العسكري بين اسرائيل والولايات المتحدة. وبعد أن أوضح ماكفرلين ان وزارة الدفاع الأميركية لا تزال تعارض الفكرة، قال ان ريغان ملتزم بالتعاون وانه اتخذ قراراً في هذا الشأن وانه سيطبّق. وأكد ماكفرلين ان قوة الدفع الأساسية وراء ما تم تحقيقه جاءت من هيغ وأن وزارة الخارجية ستواصل دعم العملية، كما أن هيغ يريد استمرار العمل من خلال ماكفرلين نفسه لمراقبة التطورات ومتابعة التقدم وإيلاء مصالح كل دولة الاهتمام الكافي. وأجاب كيمحي بقوله انه يحاول مع شارون بذل أقصى الجهود لوضع الأسس اللازمة لتعاون وزارتي الدفاع والخارجية لتسهيل تطبيق مذكرة التفاهم. القضاء على المنظمة وبعدئذ انتقل ماكفرلين الى عملية السلام فأعرب عن حيرة واشنطن من موقف اسرائيل من مفاوضات الحكم الذاتي الفلسطيني. وقال انه مع أن عملية السلام لم تكن الأولوية العليا للادارة فإن احراز تقدم فيها لا يزال هدفاً مهماً بالنسبة الى الولايات المتحدة. وقد طلب هيغ من ماكفرلين بحث عملية السلام بصفة مبدئية من أجل تجنب حدوث أي سوء تفاهم عندما تعرض المقترحات بصفة رسمية. وعندها حاجج الاسرائيليون بأن من الأفضل البحث في أفكار جديدة لعملية السلام وان يكون ذلك بهدوء وخارج القنوات المعتادة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة تسريب الأخبار في واشنطنوالقدس. وبعدئذ استطرد ماكفرلين مقدماً شرحاً مطولاً لوجهة نظر واشنطن من التحول الذي أصاب العلاقة بين الطرفين منذ قصف المفاعل النووي العراقي في حزيران يونيو 1981. إذ أن الولايات المتحدة وجدت نفسها مضطرة بعد الغارة الى التعاون سياسياً مع العراقيين في الأممالمتحدة. كما ان الغارات الاسرائيلية على بيروت أثبتت أن اسرائيل لا تفكر في المصالح الأميركية والآثار السلبية المحتملة على واشنطن نتيجة الاجراءات الاسرائيلية. وأشار ماكفرلين الى أنه ظن ان الاسرائيليين فهموا ذلك خلال اجتماعات أواسط تموز يوليو 1981، ولكن من الواضح أنهم لا يوافقون على ذلك. وقال ماكفرلين انه مع أن الولايات المتحدة لا تتوقع بالضرورة من اسرائيل التشاور مع واشنطن مسبقاً فإن الادارة تتوقع منها أن تأخذ في حسابها المصالح الأميركية قبل تنفيذ قراراتها. وانصت الاسرائيليون بهدوء الى ما قاله ماكفرلين. وبعد برهة من الصمت طلب كيمحي من الأميركيين محاولة فهم هيمنة ضرورات الأمن على التفكير الاسرائيلي. ولهذا، ومع أن اسرائيل تشاطر أميركا الاهتمام بوقف الخطر السوفياتي، فإن تل أبيب ترى أحياناً أن الأخطار الاقليمية تفوق كثيراً الأخطار العالمية. فالقلق على الأمن يطغى على جميع أوجه السياسة الاسرائيلية. وبعدئذ تحول النقاش الى لبنان، فأعرب الاسرائيليون عن اعتقادهم أن قواتهم أصبحت على وشك القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ولكنها قررت التوقف لاعتبارات أوسع نطاقاً. فالولايات المتحدة تريد ترسيخ وقف لاطلاق النار في لبنان، ولكن هذا سيعطي المنظمة الفرصة لضرب اسرائيل من كل الجبهات الأخرى عدا لبنان. واعترف ماكفرلين بالدوامة التي تواجه اسرائيل على الحدود اللبنانية، وقال ان أولوية واشنطن الأولى هي ضمان أمن شمال اسرائيل والاستقرار في جنوب لبنان. ورأى الاسرائيليون فرصة في ذلك لطرح جدولهم الخاص بلبنان، فاقترحوا أن تبدأ الولايات المتحدة التعاون معهم من أجل منع "استيلاء العناصر السلبية على لبنان". وأشاروا الى العلاقة الوثيقة بين بشير الجميل واسرائيل ورغبة اسرائيل في العمل معه من أجل تحسين الوضع في لبنان، كما أشاروا الى أن بشير الجميل كان ينشىء علاقات ايجابية مع زعماء المسلمين المعتدلين، بمن فيهم الدروز بزعامة وليد جنبلاط. وعندها تدخل السفير لويس ليقول ان الولايات المتحدة تختلف بصورة جذرية مع اسرائيل في وجهة نظرها القائلة إن حزب الكتائب والحكومة اللبنانية المركزية يمكن أن يشكلا جبهة واحدة، مع أنه لا يشك في أن بشير الجميل واسرائيل يرغبان في حدوث ذلك. واختتم ماكفرلين المحادثات بالموافقة على أن يسأل هيغ إذا كان يريد أن تصبح مسألة لبنان أحد مواضيع الحوار الاستراتيجي أو أن تظل مقصورة على مساعي المبعوث الأميركي فيليب حبيب وموريس درايبر. كان هدف اسرائيل من إثارة موضوع لبنان جلياً لا لبس فيه. إذ أن اسرائيل حريصة على التعاون مع الولايات المتحدة لضمان مصالحها الأمنية على الحدود، وهي لذلك على استعداد لتقديم تنازلات. ولكن إذا لم تضع الولايات المتحدة خطة لتحسين الاستقرار في لبنان، على المدى البعيد والوضع الأمني على المدى القصير، فإن اسرائيل ستتصرف وحدها ومن خلال أصدقائها وحلفائها اللبنانيين وفقاً لما ذكره المسؤولون الاسرائيليون للأميركيين. يضاف الى ذلك أن الاسرائيليين أوضحوا بجلاء أنهم لن يتساهلوا اطلاقاً مع عمليات منظمة التحرير ضد الأهداف الاسرائيلية خارج نطاق الحدود الشمالية لاسرائيل. ونظراً الى الاختلاف الواسع في آراء مؤسسة الأمن القومي الأميركي تجاه لبنان، ودور فيليب حبيب للمحافظة على وقف اطلاق النار، فإن ماكفرلين لم يكن بحاجة الى جهد كبير لكي يدرك مدى خطورة الوضع العسكري والسياسي في لبنان. ايران واسرائيل ثم تركزت بقية المحادثات على أفغانستان والانتشار النووي في باكستان والعراق وليبيا وانتشار النفوذ السوفياتي والخطر الذي تتعرض له الحكومات المحافظة، وازدياد جرأة العقيد معمر القذافي واحتمالات التغيير في إيران. وقد أظهرت مناقشة الوضع اللبناني التناقضات المتأصلة بين المصالح الاقليمية لكل من الولايات المتحدة واسرائيل. واعترفت اسرائيل أن باكستان أصبحت دولة مواجهة ضد الاتحاد السوفياتي وأطماعه الخليجية، لكنها جددت الاعراب عن مخاوفها من تصميم القيادة الباكستانية على تطوير سلاح نووي. وقال كيمحي ان باكستان تتفاوض مع الصين على اجراء تجربة نووية سرية في موقع تجارب صيني لابعاد الانتباه الهندي والغربي. كذلك كان لزيادة النفوذ الليبي في افريقيا مقروناً بجهود القذافي لتطوير سلاح نووي ما يعطي سبباً آخر للقلق المشترك بين اسرائيل والولايات المتحدة. وأشار الاسرائيليون الى أن النيجر والغابون وساحل العاج وفولتا العليا وموريتانيا والمغرب والصومال وتوغو كلها "أهداف لمخططات القذافي التخريبية"، إلا أن أكثر ما كان يثير قلق اسرائيل هو تصميم القذافي على تولي زعامة منظمة الوحدة الافريقية. إذ أنه كان على استعداد لدفع أي ثمن لضمان انعقاد قمة المنظمة في طرابلس الغرب. وفي مثل هذه الظروف فإن القذافي سيتولى زعامة المنظمة شخصياً وسيعين الكثيرين من أتباعه في المراكز الحساسة مما سيوسع من نطاق النفوذ الليبي. وبعد أن أشار ماكفرلين الى أن كينث أدلمان نائب السفيرة الأميركية في الأممالمتحدة جين كيركباتريك كان أثار اهتمام واشنطن في تجدد الصلات الاسرائيلية مع افريقيا، اقترح بحث مسألة منظمة الوحدة الافريقية مع مساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية تشستر كروكر عندما يعود الى واشنطن. واقترح ماكفرلين تركيز البحث معه على المخاطر التي يمثلها القذافي ومسألة التأييد الديبلوماسي الأميركي لتلك الدول الافريقية التي تفكر في استئناف العلاقات مع اسرائيل. وتحدث ماكفرلين عن الفرص العديدة المتاحة أمام اسرائيل لإرسال الأطباء وخبراء الزراعة والتنمية والمعلمين وغيرهم من أصحاب المهن الى افريقيا وأميركا الوسطى. وقال إن الخبرة الاسرائيلية تماثل الخبرة الكوبية مما يعني ان إقدام اسرائيل على مثل هذه الخطوة سيساعد على وقف انتشار النفوذ السوفياتي من خلال كوبا. أما المسألة الصعبة فهي ترتيب التمويل الأميركي لمثل هذه الأوجه من النشاط الاسرائيلي. كذلك تحدث ماكفرلين عن التأييد السري الذي تقدمه الولايات المتحدة الى المقاومة التشادية ضد الاحتلال الليبي، وقال إن واشنطن تشعر بخيبة الأمل في انعدام التعاون الفرنسي على رغم ان فرنسا كانت دولة استعمارية. إذ أن فرنسا رفضت ببساطة تقديم أي دعم لخصوم القذافي. ومع ان إسقاط الطائرات الليبية فوق خليج سرت أظهر أن الاتحاد السوفياتي سيكون متردداً جداً في التدخل نيابة عن ليبيا فإن هناك قلقاً في أوساط مجلس الأمن القومي من أن موسكو ستتدخل فعلاً إذا ما ظهر أن واشنطن تتصرف علانية للاطاحة بالقذافي. وتحوّل ماكفرلين الى إيران فطلب من الاسرائيليين تقييمهم للوضع الداخلي هناك، فقال الاسرائيليون انهم يعتقدون أن الوضع فيها يزداد اضطراباً والظروف الاقتصادية في تدهور. ويبدو ان الحزب الشيوعي الايراني تودة يحاول تقوية نفوذه وتهيئة نفسه للقيام بدور أكثر فاعلية. ولكن على رغم مناورات تودة فإن موسكو تحاول إقامة علاقات جيدة مع ايران وإقصاء نفسها عن صدام حسين. وفي مثل هذه الظروف فإن اسرائيل ترى ان هناك فرصاً للعمل على إعادة مكانة أميركا في إيران عن طريق العمل مع عناصر في القوات المسلحة الايرانية. وأراد الاسرائيليون أن يعرفوا لماذا رفضت الولايات المتحدة الطلبات الاسرائيلية لبيع الأسلحة الى ايران. وعندها شرح ماكفرلين ان الولايات المتحدة تشاطر اسرائيل رأيها في الوضع الداخلي الايراني وترى أيضاً ان الحرب العراقية - الايرانية وصلت الى طريق مسدود، كما أنها تدرك محاولات التودد التي تقوم بها موسكو نحو إيران. إلا أنه رفض الاسهاب في موضوع المعدات العسكرية الى ايران، مع انه وافق على أن هناك مصلحة مشتركة في استعادة النفوذ الغربي في ايران وتقليل العداء. عمليات مشتركة بعد ست ساعات من المحادثات غادرنا القدس متوجهين الى بئر السبع حيث أقام شارون حفل عشاء على شرف ضيفه قائد الأسطول الأميركي السادس. وكان حفل العشاء أول حفل يقيمه شارون بصفته الرسمية كوزير للدفاع. وكان من الواضح أنه يستمتع بفرصة القاء المحاضرات عن الاستراتيجية على الجنرالات والأدميرالات وماكفرلين، والجنرال رافائيل إيتان رئيس هيئة أركان الجيش الاسرائيلي، وقائد سلاح الجو الاسرائيلي آموس لابيدوت وقائد الاسطول زيف ألموغ. ومع أن البحث لم يتطرق الى أية قضايا جوهرية تلك الليلة فإن حفل العشاء أتاح لي الفرصة الأولى للالتقاء بشارون وتقييم مدى الصعوبات التي ستواجه مؤسسة الدفاع الأميركية في التعامل معه. وقد أثنى شارون تلك الليلة على الأسطول الأميركي لاسقاطه الطائرات الليبية وعلى تصميم واشنطن على الوقوف في وجه السوفيات في الشرق الأوسط، لكنه واصل الحديث من دون أن يتوقف ولو لبرهة، فشن هجوماً قوياً على بيع الطائرات الى السعودية، ومضى فقال إن اسرائيل هي "رأس حربة لواشنطن في بحر من الراديكاليين وعملاء السوفيات" في الشرق الأوسط ثم حذر بأن الطريقة الوحيدة لخدمة المصالح الأميركية هي الاعتماد على اسرائيل. وكان ماكفرلين ولويس وجميع الحضور ينصتون الى شارون وهم يدركون أنه لا فائدة من الدخول في أي نقاش معه. وكان من الواضح أنه يريد منا أن ننقل الى هيغ ما نسمعه منه، مثلما كان يريد أن يبين للاسرائيليين أنه لن يتردد في مجابهة الأميركيين بعد أن أصبح وزيراً للدفاع، مثلما كان قبل أن يتولى المنصب. ومع انتهاء حفل العشاء صافحته بحزم ونظرت الى عينيه مباشرة وقلت له بأفضل لغة عبرية استطعت تجميعها إن من الأفضل له أن يصغي الى ما يقوله ماكفرلين وألا يحاضر أمام الآخرين عن مفهومه للتعاون الاستراتيجي وعن مكانة اسرائيل في الشرق الأوسط. وفوجىء شارون عندما سمعني أتحدث بالعبرية منتقداً موقفه الوقح تجاه الولايات المتحدة، فضاعت الكلمات من لسانه لوهلة، ثم قال لي: "سأستمع الى ماكفرلين إذا كان لديه ما يقوله". وفي صباح اليوم التالي اجتمعنا، ماكفرلين ولويس وأنا، مع شارون وكيمحي وتامر وإيتان اضافة الى العديد من مستشاري وزارة الدفاع الاسرائيلية ومستشاري وزارة الدفاع الأميركية لبحث الخطوات التالية من التعاون العسكري. ولم يضع شارون وقتاً، فعاد الى ما طرحه الليلة السابقة ليشرح لنا كيف أن اسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لديها القدرة والإرادة على مواجهة الزحف العسكري السوفياتي في المنطقة. وواصل شارون محاضرته مستخدماً هذه المرة خريطة للمنطقة معلقة وراء مكتبه وشرح لنا ضعف الاستراتيجية الأميركية لمواجهة التحدي. ثم أشار الى اتجاهات عدة محتملة للغزو السوفياتي باتجاه الخليج: عبر إيران، والعراق، وباكستان، فقال إن السوفيات سيزحفون عبر محورين رئيسيين على الأقل للهجوم مباشرة على الخليج. وبمجرد أن يتدخل السوفيات لضمان بقاء الدول التابعة لهم مثلما فعلوا في افغانستان فإن الولايات المتحدة لن تستطيع الاعتماد على أحد في المنطقة العربية لوقف هذا التقدم. وطوال المحاضرة كان ماكفرلين صامتاً من دون حراك ينتظر من شارون أن ينتهي من خطابه، بينما كان لويس يتأمل في سيجاره الذي لا يفارقه أبداً. لكن شارون أسهب في الحديث وبدأ يوسع نطاق نظريته بعنجهية من دون مبالاة باحساس مستمعيه، فقال انه يجب على الولايات المتحدة واسرائيل أن تواجها الكثير من المشاكل معاً. ولكن إذا لم يتمكن الطرفان من إيجاد الحلول السياسية فإن اسرائيل ستتصرف وحدها مثلما فعلت مع قضية الصواريخ في لبنان وبطريقة ستحرج الولايات المتحدة، كما أن اسرائيل سترد على أي خطر نووي بتوجيه ضربة مباغتة. وبانتهاء محاضرة شارون، رد عليه ماكفرلين بعرض المبادىء التي تستند عليها الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. ووافق ماكفرلين على أن الدول العربية لن تستطيع مواجهة الاتحاد السوفياتي من دون مساعدة أميركية، ولهذا السبب فإن الولايات المتحدة تحاول تحسين القدرات العسكرية لعدد من الدول العربية لتمكينها من الدفاع عن نفسها من جهة ولتحسين قدرة أميركا على نشر قواتها بأسرع ما يمكن لردع أي عدوان. واعترف بقدرة اسرائيل على عرض القوة لكنه اختلف مع شارون في استطاعتها القيام بذلك في الخليج، وقال انه لو بنت الولايات المتحدة استراتيجيتها على العمليات الأميركية - الاسرائيلية المشتركة لزاد ذلك كثيراً من الاضطرابات الاقليمية، نظراً الى ما ستؤدي اليه مثل هذه الخطوة من اغضاب للعرب وزيادة في الخطر السوفياتي، وجدد ماكفرلين التزام أميركا بأمن اسرائيل لكنه أكد أيضاً أن واشنطن لها أصدقاء عرب ولها مصالح حيوية لا يمكن لها أن تتجاهلها أو أن تلحقها باستراتيجية ستعود عليها بنتائج عكسية. وأشار الى أهمية الموقع الجغرافي لاسرائيل وقوتها الجوية، وقال ان في الوسع بدء التعاون الاستراتيجي في هاتين النقطتين، على أمل تطوير التعاون في مجالات أخرى مع زيادة الاستقرار في المنطقة. وكان شارون يتململ طوال فترة حديث ماكفرلين. ثم انحنى بكرشه الضخم وصدره المندفع الذي كاد يمزق قميصه وصاح بصوت عال قائلاً: "لكي تتعاون اسرائيل مع الولايات المتحدة عسكرياً، يجب أن يكون مبدأ "الذراع الطويلة" - أي الاعتماد على سلاح الجو الاسرائيلي - حجر الأساس في مثل هذا التعاون". وتدخل الجنرال ألموغ بسرعة ليقول إن الأسطول الاسرائيلي على استعداد لمساعدة الأسطول الأميركي في البحر الأبيض المتوسط، فعبس شارون في وجه ألموغ معرباً عن استيائه الواضح من محاولة قائد الأسطول الاسرائيلي التخفيف من تجاوزات شارون. وانتهى الاجتماع بعد ساعتين بقبول الطرفين وجود هوة بين أهدافهما. فقد تحدث شارون باندفاع وتهور عن القوة العسكرية الاسرائيلية والجبن الأميركي تارة، ثم تصرف كسياسي وقور تارة أخرى. وبدا واضحاً للجانب الأميركي أن شارون سيواصل الضغط بأعنف ما يمكن لكي نوافق على ما يريد: أي ان تصبح اسرائيل الجزء الأساسي في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة العربية. لكن ماكفرلين أوضح له بكل جلاء ان الولايات المتحدة لا يمكنها إطلاقاً أن تقبل المفهوم الاستراتيجي الذي يروج له شارون. اسرائيل وبشير الجميل ولا بد، هنا، من الحديث عن الوضع اللبناني. عام 1981، أي بعد ست سنوات من الحرب الأهلية أصبح لبنان "مركزاً للارهاب والعنف الوحشي" في الشرق الأوسط. وبسطت سورية هيمنتها على لبنان من خلال قواتها ومن خلال صلاتها وعلاقاتها مع مختلف الجماعات اللبنانية. وكان المسؤولون الاسرائيليون يسافرون سراً ولكن بصورة منتظمة الى بيروت للالتقاء مع حلفائهم المسيحيين، ولتنظيم عمليات سرية عنيفة ضد الفلسطينيين، كما حاولوا التأثير في سير السياسة اللبنانية من أجل تقليل هيمنة سورية على لبنان. وكان السوريون يتنافسون بشدة مع الاسرائيليين ومع حزب البعث العراقي من أجل اكتساب النفوذ في لبنان. أما الفلسطينيون فقد تحالفوا مع الجماعات الاسلامية واليسارية وحاربوا بضراوة ضد المسيحيين، وكادوا يدمرون الميليشيات المسيحية الى أن تدخلت سورية وأعادت توازن القوى المهزوز عام 1976. وبعد أن تحول السوريون عن حلفائهم التقليديين أي المسلمين، صبوا غضبهم على الفلسطينيين مما عزز مكانة دمشق بين المسيحيين وعزز سلطتها العامة في لبنان ومكانتها خارجه. ولم تكن تلك النزاعات العنيفة مقصورة على تلك القائمة بين الطوائف المتنازعة. إذ أن العنف بين أفراد الطائفة الواحدة كان أمراً شائعاً. وقد ازدادت حدة الصراع الماروني بشكل خاص عام 1978 ثم عام 1980 عندما قتل بشير الجميل بوحشية الزعماء المسيحيين المعارضين له وشتت الكثير من عناصر قوته المارونية ليصبح الماروني المهيمن. وتدهور الوضع أيضاً فيما بعد مع وصول الحرس الثوري الايراني عقب الغزو الاسرائيلي عام 1982. وكان هذا العنف المأسوي المتعدد الأوجه أمراً يجد معظم الأميركيين أن من المستحيل عليهم فهمه، كلما وردت أخبار القتال في لبنان في نشرات الأخبار المسائية على شاشات التلفزيون. ونظراً الى أنني ساهمت في اعداد السياسة الأميركية تجاه لبنان منذ أول يوم لي في وزارة الخارجية عام 1977 فقد راقبت التطورات اللبنانية عن كثب على أساس يومي لمدة أربع سنوات تقريباً. ومع شن منظمة التحرير والجماعات المؤيدة لها هجماتها على اسرائيل من البحر وعبر الحدود اللبنانية بدأت العمليات الانتقامية الاسرائيلية تزداد وتتصاعد. وعقب المعركة الكبرى التي وقعت على الطريق الساحلي في آذار مارس عام 1978 التي قتل فيها 34 جندياً اسرائيلياً شنت القوات الاسرائيلية عملية كبرى في لبنان لتدمير معاقل المنظمة في جنوب لبنان. ومع أن هذه العملية عملية الليطاني جعلت اسرائيل قوة احتلال في جنوب لبنان فإن تعزيزات الميليشيا اللبنانية الموالية لاسرائيل بقيادة اللواء سعد حداد أخفقت في حماية حدود اسرائيل الشمالية حتى عام 1981. وكانت اسرائيل أجرت حواراً مع زعماء الفئتين المارونيتين في لبنان أثناء سنوات الحرب وهما بشير الجميل وداني شمعون. ومنذ أول لقاء بين الاسرائيليين وبشير الجميل عام 1976 أدرك الاسرائيليون مدى رغبته القوية في أن تتدخل اسرائيل بقوة ضخمة للقضاء على التحالف بين الفلسطينيين واليساريين. إلا أن اخراج السوريين من لبنان أصبح فيما بعد الهدف الأهم بالنسبة الى بشير الجميل واسرائيل والولايات المتحدة. وفي عهد الحكومة العمالية عامي 1976 و1977، ثم خلال السنوات الأولى من حكم مناحيم بيغن، قاومت اسرائيل ضغط الجميل وحدّدت تدخلها وقصرته على تزويد الأسلحة والمعدات مع تحسين علاقاتها في الوقت نفسه مع الجميل وشمعون، إلا أن العنف الذي لجأت اليه عائلة شمعون في أواسط عام 1980 جعل الاسرائيليين أمام خيار واحد وهو التعامل بصفة أساسية مع الجميل. وفي نهاية الأمر حصل بشير الجميل على وعد من مناحيم بيغن بمنع القضاء على الطائفة المسيحية في لبنان. وبحلول كانون الأول ديسمبر 1980 استطاع بشير الجميل أن يقنع بيغن بضمان سلامة المدن المسيحية والموافقة على مهاجمة الطيران الاسرائيلي سلاح الجو السوري إذا ما شن السوريون هجمات على معاقل "القوات اللبنانية". وكان من المقرر أن تجرى انتخابات الرئاسة في لبنان في عام 1982. وأخذ بشير يعمل للفوز فيها. وكان هذا يتطلب في رأيه اخراج السوريين من بيروت لكي تبسط "القوات اللبنانية" بزعامته سيطرتها على العاصمة وتضمن نتيجة انتخابية مناسبة للجميل. وكان لا بد له من إيجاد طريقة لاقناع الاسرائيليين بالتدخل لترجيح ميزان القوى لصالحه. ولم يكن الاسرائيليون يعرفون أن بشير الجميل ينصب شركاً لهم. وفي أوائل نيسان ابريل 1981 حرض بشير على مواجهة عنيفة مع القوات السورية في مدينة زحلة التي غالبية سكانها من الاورثوذكس. وخلال شهر آذار مارس 1981 كانت القوات الكتائبية تسللت الى المدينة وحصّنت مواقعها في صنّين وحولها لكي تتفوق استراتيجياً على القوات السورية التي كانت في الوادي الى الأسفل. ومن المنظور العسكري كان من الحيوي جداً على السوريين أن يستردوا جبل صنّين ويخرجوا الكتائبيين منه لكي يضمنوا خطوط اتصالاتهم. وعندما حاصر السوريون زحلة جهزوا مواقع صواريخ أرض - جو من طراز سام، ولكنهم لم ينصبوها فعلاً. وقد رأى الخبراء الاسرائيليون في هذا التجهيز تصعيداً محدوداً معناه أن الرئيس حافظ الأسد لا يريد من اسرائيل أن تعتبر الاجراء السوري ضد الكتائب موجهاً ضدها هي بأي شكل. أما على الصعيد السياسي فقد سافر بشير الجميل وكميل شمعون الى اسرائيل وأقنعا بيغن بأن نجاح العملية السورية ضد زحلة سيعني التمهيد لهجوم محتوم على معاقل المسيحيين واحتمال تدمير الطائفة المسيحية وبسط الهيمنة السورية الكاملة على لبنان. وبعد ذلك بأيام حصل بيغن على موافقة مجلس وزرائه بشن غارات جوية محدودة على المواقع السورية لاقناع السوريين برفع الحصار عن زحلة. وبينما كان مجلس الوزراء الاسرائيلي مجتمعا أسقطت الطائرات الاسرائيلية طائرتي هيليوكوبتر سوريتين قرب زحلة. ولم يمض يوم كامل حتى رد حافظ الأسد على اسرائيل. إذ أنه أراد أن يظهر استعداده لمواجهتها، ولذا نشر صواريخ سام المضادة للطائرات في مواقعها التي كانت أعدت في سهل البقاع، إضافة الى بطاريات صواريخ أخرى، كما أرسل المستشارين السوفيات الى الحدود السورية - اللبنانية ونشر صواريخ سكود البعيدة المدى أرض - أرض قرب دمشق. وهكذا نجح بشير الجميل في تصعيد المواجهة من مجرد معركة سورية - مسيحية صغيرة الى صراع سوري - اسرائيلي ينطوي حتى على إمكانية تدخل السوفيات مباشرة نيابة عن سورية. وبالمثل، وبعد أن جرّ بيغن اسرائيل بحذر الى هذه المواجهة وجد انه لم يعد أمامه سوى خيار واحد وهو الاعلان أن هدف اسرائيل هو تدمير صواريخ سام في لبنان إذا لم تسحبها سورية. مواجهة سورية - إسرائيلية؟ وفي هذه الأثناء كانت بيروقراطية الأمن القومي في واشنطن تراقب تطورات الأحداث في شرق البحر الأبيض المتوسط عن كثب، مع ان الوضع كان يمثل أولوية ثانوية بالمقارنة مع الحرب العراقية - الايرانية والاحتلال السوفياتي لأفغانستان، كما ان العالم تعود على مشاهدة أخبار الحرب اللبنانية الى درجة كاد يضجر معها من تلك الحرب. ولم يكن هناك أحد في واشنطن أو أية عاصمة غربية أخرى فكر بأن هناك احتمالاً قوياً لأن يؤدي الصراع الداخلي اللبناني الى نشوب حرب بين سورية واسرائيل. ومع ان ادارة ريغان كانت فوجئت بالتطورات التي حدثت في نيسان ابريل فانها سارعت الى الاعلان عن مبادرة ديبلوماسية لمنع نشوب الحرب بين سورية واسرائيل. وعلى رغم التزام أميركا الطويل العهد بالمحافظة على وحدة لبنان وسلامة أراضيه ونمطه الديموقراطي، وهو التزام يعود الى عهد الرئيس أيزنهاور، فإن المصالح الحيوية الأميركية في لبنان كانت محدودة جداً، وهي: منع نشوب حرب سورية - اسرائيلية على الأراضي اللبنانية خوفاً من أن تتصاعد وتؤدي الى مواجهة بين الدولتين العظميين. والآن وبعد نشر صواريخ سام بمحاذاة الحدود اللبنانية - السورية لا بد من الافتراض ان السوريين سيطلقونها على الطائرات الاسرائيلية إذا ما حاولت تدمير مواقع تلك الصواريخ أو تدمير مواقع الصواريخ السورية الأخرى في سهل البقاع. وفي مثل هذه الحالة من المشكوك فيه أن يظل الصراع مقصوراً جغرافياً على لبنان. كما أنه كانت هناك مجازفة أخرى تتمثل في احتمال قتل المستشارين السوفيات الموجودين في المواقع السورية. ومع أن العديد من أعضاء مجلس الأمن القومي رأوا في هذه الأزمة فرصة للقيام بعمل عسكري اسرائيلي من أجل تقليل النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط، فإن المدى الذي يمكن أن يتصاعد فيه الصراع والنتيجة التي سيسفر عنها لم يكونا واضحين. وهكذا استدعى الرئيس ريغان مندوبه فيليب حبيب لكي يبدأ مهمته في المنطقة ويزور سورية لمحاولة احتواء الأزمة. وكان الوضع يتطور بسرعة. فقد اشتركت شخصياً في عدد من الاجتماعات لبحث الأزمة ولمحاولة توقع ما يمكن ان يحدث وتقدير الخطوات التي يمكن للولايات المتحدة ان تتخذها لمنع حدوث أي تصعيد آخر وتقرير كيفية الاستجابة الأميركية في حالة فشل الجهود الديبلوماسية ونشوب حرب بين اسرائيل وسورية. وفي أحد تلك الاجتماعات ناقش المساعد الجديد لوزير الدفاع فرانسيس "بنغ" ويست بعنف قائلا إن المواجهة كانت نتيجة رغبة اسرائيل في بسط هيمنتها على لبنان واخراج القوات السورية مع أن وجود القوات السورية في لبنان جاء بقرار وتفويض من الجامعة العربية. ولهذا يجب، كما قال، على الولايات المتحدة أن تعيد التفكير في علاقتها مع اسرائيل وألا تسمح لها بأن تفترض أن المساعدة الأميركية لها أمر روتيني وتلقائي في حالة نشوب حرب مع سورية. ونظراً الى انني أقمت مع ويست علاقة عملية ممتازة قبل ذلك بسنوات عدة فقد تجرأت وتحدّيت تحليله واستشهدت بتقارير استخبارية وبرقيات ديبلوماسية من اسرائيل ولبنان وسورية تعطي الأساس المطلوب لتحليل طبيعة التصعيد ولا سيما تلاعب بشير الجميل بالاسرائيليين. وأثار تحليلي اهتمام ويست ولكنه أصر على أن تحليلي كان مناقضاً لتحليل وزارة الدفاع، ومع الموقف الذي أمر وزير الدفاع كاسبر واينبرغر باتخاذه في المناقشات التي تجري بهذا الخصوص بين مختلف دوائر الادارة. وتبعاً لما قاله ويست فإن واينبرغر كان يرى - وهو موقف أيدته فيه تحليلات مخابرات وزارة الدفاع - أن بيغن ورئيس أركانه الجنرال رافائيل ايتان كانا يحاولان فعلاً استفزاز سورية من أجل توفير الذريعة لاسرائيل لغزو لبنان من جديد. وفي صباح اليوم التالي اجتمعت بنائب وزير الدفاع كارلوتشي. وبعد أن سألني عدداً من الأسئلة المباشرة عن تسلسل الأحداث التي أدت الى الهجوم السوري في نيسان ابريل على جبل صنين طلب كارلوتشي رأي مخابرات وزارة الدفاع. وقد فوجئت بأن تحليل المخابرات كان مطابقاً لما قلته أنا. وعندها أعرب كارلوتشي عن استغرابه للتضارب في موقف مخابرات الدفاع. واتضح عندئذ أن الخط الرسمي للمخابرات كان يختلف عن رأي محلل شؤون لبنان في وكالة مخابرات الدفاع. وعندما غادرنا الاجتماع سألت محلل مخابرات الدفاع عن تضارب موقف وزارة الدفاع فقال انه "ليس هناك اهتمام بتحليل شامل لما يجري في لبنان. فكل مرة اقترح فيها أن الوضع ربما كان ينطوي على استغلال الكتائبيين لاسرائيل أو أن اسرائيل لا تفتش عن ذريعة لمحاربة السوريين كانوا ينتقدونني. إذ ليس هناك أحد يصدق أن في وسع أي انسان التلاعب بمناحيم بيغن أو استغلاله. فمدير وكالة مخابرات الدفاع مثلا مقتنع بأن كل شيء يفعله بيغن مصمم لاستغلالنا نحن أو التلاعب بنا أو لاحراج السادات". وفي نهاية المطاف نجحت ديبلوماسية حبيب مع رغبة سورية واسرائيل في التراجع عن حافة هاوية الحرب في منع نشوبها في نيسان ابريل 1981. إلا أن معاداة واينبرغر الواضحة لاسرائيل والوضع المتردي في لبنان لم يتوقفا. وقبل أيام من الغارة الاسرائيلية على المفاعل النووي العراقي في السابع من حزيران يونيو عام 1981 طلب مني روبرت ماكفرلين أن أعمل مساعداً له فقبلت. وبدأت العمل في الثامن من حزيران يونيو من مكتبي في البنتاغون. وذهلت حين وجدت على المكتب صوراً فوتوغرافية للمفاعل النووي العراقي قبل الغارة وبعدها. ولم يكن الاسرائيليون أو العراقيون أعلنوا أي شيء عن تدميره، ولهذا كان رد فعلي المباشر هو أن الصور نوع من النكتة. ولكنني سرعان ما أجريت اتصالاتي وأدركت ان المفاعل أصبح فعلاً كومة من الانقاض، وان الاسرائيليين، لا الايرانيين، هم الذين دمروه، وكانت إيران هاجمت المفاعل في وقت سابق من الحرب العراقية - الايرانية لكنها أخفقت. وما أن حل الظهر حتى كان مكتب شؤون الأمن الدولي يعج بالمسؤولين والمحللين، الذين عمّهم القلق بسبب ردود الفعل المحتملة لذلك في العالم العربي، وانعكاس ذلك على مكانة الولايات المتحدة. ونظراً الى توتر الوضع بين سورية واسرائيل أوضح واينبرغر لموظفيه ونوابه أن عليهم أن يبينوا لاسرائيل بكل جلاء أنه يجب على الولايات المتحدة أن تعاقب اسرائيل لكي تخفف من الأضرار التي ستلحق بموقف أميركا في العالم العربي. وفي الأيام القليلة التي تلت استطاع واينبرغر مع عدد من كبار المستشارين إقناع الرئيس بتأجيل تسليم ست طائرات ف 16 كانت مقررة لاسرائيل. ومع أن هذا الوضع أعطى واينبرغر الفرصة للاعراب عن استياء الولايات المتحدة من اسرائيل فانه عزز احساس بيغن بأنه قد يأتي الوقت الذي لا يستطيع فيه الاعتماد على واشنطن.