في الوقت الذي أكتب هذه المقالة هناك قضيتان تمران في مرحلة حاسمة: مستقبل مفاوضات السلام في الشرق الاوسط، ومستقبل الرئيس الروسي بوريس يلتسين. اذ ان العقبة التي تقف في وجه مفاوضات السلام التي يحاول الاميركيون استئنافها في العشرين من نيسان ابريل المقبل هي تعنت اسحق رابين بشأن قضية المبعدين الفلسطينيين. فمهما كانت رغبة فيصل الحسيني وفريقه في استئناف المفاوضات، فان من الصعب عليهم ان يفعلوا ذلك ما دامت هذه القضية من دون حل. فاذا ما بدا انهم سيتغاضون عن محنة المبعدين فانهم سيخسرون التأييد الذي يتمتعون به في الأراضي المحتلة. ولهذا حدد الحسيني في لندن شروط الاستئناف: ايجاد صيغة لعودة المبعدين والتزام الاسرائيليين بعدم اللجوء ثانية الى سياسة الابعاد. ومن الصعب على المرء ان يرى كيف يمكن له ان يطلب اقل من ذلك. ومما يثير الاهتمام ان الحكومة البريطانية أيدت هذا الموقف علانية. اذ ابلغ وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية دوغلاس هوغ البرلمان البريطاني قوله: انه يجب على اسرائيل ان تكف فعلاً عن الابعاد وان تتخذ خطوات عاجلة للتخفيف من النظام القاسي الذي تفرضه على الأراضي المحتلة. ويأتي هذا البيان البريطاني عقب الاجتماع الناجح الذي عقد بين الحسيني وهوغ، وهو أول اجتماع بين وزير بريطاني وممثل عن منظمة التحرير الفلسطينية منذ حرب الخليج، اي منذ ان اتخذت الحكومة البريطانية قراراً بوقف الاتصالات مع المنظمة عقب تأييد ياسر عرفات الرئيس صدام حسين. ويبدو ان الاجتماع سار على خير ما يرام. بل ومن المهم جدا انه حدث اصلاً وفي هذا الوقت بالذات. فقد اثبت الاجتماع ان الحكومة البريطانية، على رغم كل مشاغلها، مستعدة للعودة الى الانهماك في عملية السلام وتحمل كل الضجة المتوقعة التي صدرت عن اسرائيل واللوبي المؤيد لها في المملكة المتحدة ضد الاجتماع. وأنا على ثقة ايضاً بأن الحكومة البريطانية لا بد انها بحثت هذه الخطوة مع الاميركيين ولا بد انهم رحبوا بها. وربما كانت هذه اشارة، وهناك اشارات اخرى، على ان السياسة الاميركية في المنطقة قد تكون اكثر تعقلاً مما سمعناه من تصريحات خلال حملة كلينتون. والواقع انه ما كان للمرء ان يتخيل ان السياسة الاميركية ستستند الى مجرد تلك الخطابة الرنانة البشعة التي صدرت عن كلينتون، بما فيها من عدم اتزان وتزلف، من دون ان يكون هناك المزيد مما سيقوله. ولهذا فان مما يبعث على الطمأنينة ان نرى بعض العلامات على الاستمرارية بين ادارتي بوش وكلينتون. مصالح أميركا فالاميركيون يحاولون استئناف عملية السلام، كما انهم حددوا موعداً مبكراً لذلك. والاهم من هذا انهم اعادوا اصدار رسالة جيمس بيكر التي اعطاها للفلسطينيين قبل مؤتمر مدريد وطمأنهم فيها الى رفض اميركا ضم اسرائيل الأراضي المحتلة، وأوضح بجلاء ان الهدف الأساسي من المحادثات هو مبادلة الأرض بالسلام. كذلك يبدو ان زيارة وارن كريستوفر الى المنطقة سارت على ما يرام. اذ يقول فيصل الحسيني انه كان جليا في التأكيد بأن اميركا ستكون شريكاً كاملاً في المحادثات. ومعنى هذا ان اميركا لا ترى دورها مقصوراً على مجرد تأمين المنتدى الذي تتحدث فيه الاطراف الى بعضها البعض. وهذه نقطة حاسمة، لأنه لا يمكن ان يكون هناك مساواة بين اسرائيل الدولة الكاملة وبين الفلسطينيين الشعب الرازح تحت الاحتلال. وقد اعتبر الفلسطينيون كلمات كريستوفر- ومن الواضح انه كان يريدهم ان يعتبروها- التزاماً من اميركا باستعدادها للتدخل من اجل ضمان الانصاف والعدل. وهذا امر ضروري كما انه يبعث على الاطمئنان. ولربما كان كريستوفر سيعيد التفكير اذا كان في وسع اميركا ان تواصل تأييد موقف رابين الوسط من قرار الاممالمتحدة الخاص بالمبعدين. اذ ان رابين عرض السماح بعودة مئة مبعد على الفور، على ان يعود الباقي مع نهاية العام. وبدا للوهلة الاولى ان الاميركيين يؤيدون هذا، الا ان مصادر اميركية رفيعة بدأت تصدر تلميحات مفادها ان الاميركيين يضغطون من اجل المزيد. وهذا ما يجب عليهم ان يفعلوه. فكما قلت في مقالتي السابقة انه من غير المنطقي اطلاقاً ومما لا يتفق مع مبادئ الاممالمتحدة ان نتوقع من كل دولة في العالم الالتزام بقرارات مجلس الامن الدولي بينما تخرج اسرائيل على ذلك وتكتفي بتطبيق نصف واحد من تلك القرارات. وفي ظني ان الكثير سيعتمد على نتائج اجتماع كلينتون مع رابين في واشنطن. فالموقف الاسرائيلي بصراحة في غاية الضعف. فاسرائيل دولة تدور في فلك الولاياتالمتحدة وتعتمد الى درجة كبيرة جداً على المساعدات والهبات والأموال والاسلحة الاميركية. ففي هذا العالم الذي تقود معظم الدول العربية فيه انظمة معتدلة، وبعد ان تم احتواء صدام، وبعد ان انتهى النفوذ السوفياتي، من الصعب ان يرى المرء ان هناك أية بطاقات مهمة لدى اسرائيل لكي تجبر الولاياتالمتحدة على التصرف ضد المصالح الوطنية الاميركية. فالمصالح الوطنية الاميركية تقتضي نهجاً متوازناً متعقلاً نحو الشرق الاوسط. ومعاملة جميع الدول على قدم المساواة بدلاً من التحيز السافر لصالح اسرائيل. الا ان الاسرائيليين معتادون على الضغط على الاميركيين. وخلال الحملة الانتخابية بدا ان كلينتون راضٍ عن استمرار هذا الوضع. ولكنه قطع الكثير من الوعود اثناء حملته. وبعد ان حصل على الاصوات التي يريدها يبدو انه يفهم ان الناس لن يحكموا على ادارته من خلال عدد الوعود التي نفذتها، بل من خلال مدى نجاحها في معالجة القضايا. ولا يمكن ان تحقق واشنطن اي نجاح في سياستها الشرق اوسطية من خلال وضع نفسها تحت الضغط الاسرائيلي مثلما أشارت خطابات كلينتون في حملته الانتخابية. ولذا فنحن نأمل ان يكون الرئيس الاميركي حكيماً الى درجة يدرك معها ذلك بسرعة. ان نجاح فيصل الحسيني في لندن يفتح الباب امام مشاركة اوروبية اوثق في عملية السلام. وهذه المشاركة تحتاج الى نشاط بريطاني لأن البريطانيين معروفون بفعاليتهم الديبلوماسية. ولا بد من مشاركة اوروبا للابقاء على استمرار عملية السلام لا سيما ان الراعية الاخرى للمفاوضات، روسيا لم يعد لها وزنها السابق. ثم لا بد من المشاركة الأوروبية للضغط على اسرائيل لكي تتصرف بشكل سليم في الأراضي المحتلة ولكي تكف عن انتهاك حقوق الفلسطينيين الانسانية. اذا انتهى يلتسين ... لقد كان من الامور المشجعة ان نسمع فيصل الحسيني يتحدث عن خطط البعثات التعليمية الفلسطينية للدراسة في بريطانيا وغيرها من الدول الاوروبية. ومع ان هذا ليس بديلاً للانهماك في عملية السلام، فانه طريقة لزيادة تعميق المشاركة الأوروبية في المحنة الفلسطينية على المستوى الانساني. فالفلسطينيون شعب يلقى الحرمان من كل حق انساني، بما في ذلك حق التعليم والتدريب وتطوير بنية اقتصادية اساسية. والمأساة بالنسبة الى الفلسطينيين هي انهم شعب موهوب قادر على كسب عيشه وتحسين وضعه اذا ما اتيحت له الفرصة لذلك. وأخيراً كلمة وجيزة عن روسيا، فقد قرأت للتو دعوة من الرئيس الاميركي السابق نيكسون لتقديم مساعدات دولية هائلة الى روسيا قبل فوات الأوان. ويقول نيكسون، ان أي خلفٍ ليلتسين سيكون أسوأ منه لا أفضل. والواقع ان الذين قرأوا مقالاتي السابقة سيذكرون انني قلت الشيء نفسه منذ مدة في شهر كانون الأول - ديسمبر - الماضي، ومنذ ذلك الوقت لم يحدث الشيء الكثير. وانني اكرر القول ان الغرب، بل الجميع، سيفقدون كل شيء اذا ما جاء احد المتطرفين مكان يلتسين، او اذا ما عمت الفوضى المطبقة او حدث مزيج من هذا وذاك. وقد وصلت خطورة الازمة الى درجة ربما تكون انتهت مع قراءتكم هذه المقالة. وإذا ما انتهى يلتسين فاننا نحن الذين نتحمل اللوم، وسيكون الحصاد مريراً بالنسبة الينا. * نائب عن حزب المحافظين ووزير بريطاني سابق.