أعاد عقد التسعينات للولايات المتحدة مركز الصدارة في الاقتصاد العالمي والقرار السياسي الدولي، ومع ان الولاياتالمتحدة بدأت هذا العقد مثقلة بدين داخلي يفوق 4000 مليار دولار، اي ما يساوي 72 في المئة من حجم انتاجها السنوي، وعجز في الموازنة يرفع قيمة الدين العام بنسبة 10 في المئة سنوياً، فهي تمكنت من تحقيق هذا التميز بسبب عجز الآخرين وخلافاتهم ومبادراتها العسكرية في الخليج والصومال. إن أول - وربما اهم - التطورات المؤاتية للولايات المتحدة تمثل في توجه الاتحاد السوفياتي نحو سياسة الاقتصاد الحر، بعد الاعلان الضمني عام 1985 عن افلاس الشيوعية. وما تلاه من تفسخ الامبراطورية السوفياتية واعلان استقلال الجمهوريات وتحرر معظم البلدان الشيوعية الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي من انظمتها وارتباطاتها بالاتحاد السوفياتي. فما بين 1989 و1990 انحسر التحدي السوفياتي وانسحب الجيش السوفياتي من افغانستان توفيراً للموارد والارواح، وبالتالي تقهقرت الاستراتيجية الهادفة للوصول الى المياه ومصادر الطاقة، وانسحب السوفيات، حسب برنامج واضح، من المانياالشرقية مقابل معونات اقتصادية من مارد اوروبا الاقتصادي، المانيا الغربية، وازت 12 مليار مارك او حوالي 8 مليارات دولار. واهم بكثير من الضغط الاقتصادي المباشر الذي اسهم في تعجيل هذه التحولات كانت الاستفاقة السوفياتية على الكارثة البيئية التي نتجت عن محاولات تسريع الانتاج الصناعي واهمال مواصفات السلامة في منشآت توليد الطاقة النووية، وكانت كارثة تشرنوبيل بمثابة تحذير مخيف للسوفيات والدول المحيطة بالآثار الكارثية الممكنة نتيجة حوادث مماثلة، وبرزت المخاطر البيئوية في الحالة الصحية للشعب السوفياتي، فعام 1989 كانت نسبة 49 في المئة من الشباب السوفياتي المرشحين للخدمة العسكرية لا تتمتع بالشروط الصحية التي تسمح بالاستيعاب، وقد توقف العسكريون والسياسيون امام هذا ليدركوا ان الانسان، هدف الانماء، كان مرغماً على ان يكون الوسيلة حتى عجز عن ذلك صحياً واصبح من الواجب على قادة الاتحاد السوفياتي السعي الى تعويض الضرر الفادح الذي لحق بالطبيعة والانسان، فالانهار اصبحت ملوثة وبعض البحار الداخلية جفت مياهها، فيما ارتفعت نسبة الاطفال المصابين بعاهات نتيجة التلوث. الى كل ذلك، اخذت الاختلافات الاثنية والدينية تتعاظم ما بين الجمهوريات، واصبح عبء جمهوريات الاطراف ثقيلاً على الحكومة المركزية، فكان التفسخ والانهيار، وبدأت مرحلة البحث عن الاستقرار والنمو المعاصر بمواصفاته الانسانية الضرورية، وتواجدت دولتان لهما ثقل اوروبي ودولي هما جمهورية روسيا وجمهورية اوكرانيا فيما انضمت غالبية الجمهوريات المستقلة حديثاً الى جحافل دول العالم الثالث الباحثة عن الموارد والمعونات والتكنولوجيا والعلاقات. بالمقابل، كانت اوروبا الغربية تعيش في اواخر الثمانينات نشوة ترقب قيام السوق المشتركة بكامل ابعادها مطلع 1993. بمعنى الانفتاح الكامل على التعامل والانتقال والاستثمار، وظهر للاوروبيين ان عليهم، اذا كان لهم ان يأخذوا مكان الصدارة في الاقتصاد العالمي، تحقيق الوحدة النقدية بين الدول الاعضاء، فوقعوا اتفاقية ماستريخت التي تهاوت في مفاعيلها بالنسبة الى الوحدة النقدية قبل مضي عام على توقيعها. ووجدت اوروبا الغربية، التي كانت تنمو بمعدلات تفوق معدل نمو الاقتصاد الاميركي، نفسها عاجزة عن ابتلاع المانياالشرقية، البالغ عدد سكانها 16 مليوناً، بصورة اوتوماتيكية، فالمستشار كول حينما سارع الى اعلان وحدة الالمانيتين ولم ينتظر مشاورة الاميركيين او حتى مشورة اقرب حلفائه الفرنسيين، توقع ان تكون كلفة التوحيد حوالي 200 مليار مارك واعتبر ان هذه الكلفة هي بمقدور المانيا الغربية تحمّلها، لكن خطوات الوحدة اظهرت ان الكلفة اكبر بكثير وان عنصر الوقت لا يختصر بسنتين بل سيكون على الارجح من خمس الى ست سنوات تحتاج خلالها المانيا الغربية الى ضخ 1200 مليار مارك او حوالي 800 مليار دولار في اقتصاد المانياالشرقية لتطوير اوضاعه وصولاً الى مستويات الانتاج والدخل في المانيا الغربية. وبكلام آخر، أصبحت الكلفة المرجحة لامتصاص وتطوير اوضاع كل مواطن سابق في المانياالشرقية موازية ل 75 الف مارك او حوالي 50 الف دولار، وهذه كلفة باهظة، خصوصاً اذا افترضنا توفيرها خلال فترة خمس سنوات تنقضي صيف 1995، والالمان كما هو معروف يخافون التضخم اكثر من اية علة اقتصادية اخرى، وبالتالي ومن اجل تحقيق الوحدة الكاملة اقتصادياً بين الالمانيتين، مارس البنك المركزي الالماني سياسة صارمة في مجال السياسة النقدية فرضت معدلات مرتفعة للفائدة على المارك من جهة وقيدت الاقراض للقطاعات الاقتصادية ضمن نسب محدودة. وبرزت النتيجة الحتمية في تباطؤ الاقتصاد الالماني وتقلص حجم مبادلاته مع شركائه الاوروبيين، فأصيبت كل من فرنسا واسبانيا وايطاليا بأضرار فادحة، وعجزت بريطانيا عن تخطي مصاعبها الاقتصادية المتتابعة منذ عام 1988. فتقوضت امكانات الوحدة النقدية لان هذه الوحدة تستوجب اصلاً تكريس المارك الالماني بمثابة النواة والقاعدة للوحدة النقدية . المصاعب الاقتصادية الاوروبية تزايدت بسبب الانكماش الاقتصادي الذي تعاني منه الولاياتالمتحدة، حيث الصادرات الاوروبية لشمالي اميركا مهمة للاقتصاديات الاوروبية، كما تقلصت اعداد السياح الاميركيين في اوروبا، والعكس حصل اذ تزايدت اعداد السياح الاوروبيين في الولاياتالمتحدة، وتأثرت حدة هذه التقلبات بصورة سلبية بارتفاع اسعار العملات الاوروبية تجاه الدولار خلال الفترة المعينة. الى كل ذلك اظهرت احداث يوغوسلافيا، بوحشيتها، عجز الدول الاوروبية عن التدخل بفعالية لمنع الحروب العرقية والدينية، وبالتالي سقط الوجه الثاني لاتفاقية ماستريخت، فتلك الاتفاقية هدفت الى تأمين وحدة النقد الاوروبي وتوفير قواعد مشتركة للامن الاوروبي، وتداعت الوحدة النقدية تحت وطأة الفوائد المرتفعة على المارك، كما ان وحدة العمل العسكري الهادف الى الحفاظ على التوجهات الاوروبية الحضارية تحطمت امام ما يحدث في يوغوسلافيا، وظهر هذا العجز واضحاً بالمقارنة مع الدور الاميركي في حرب تحرير الكويت. فعلى رغم ان الفرنسيين والبريطانيين شاركوا في تحرير الكويت وصد الجيش العراقي، الا ان مشاركتهم بقيت رمزية على صعيد العدد والعدة والادوار العسكرية التي انيطت بقواتهم. ويبرز افضل دليل على عجز الاوروبيين عن معالجة الوضع اليوغوسلافي عسكرياً من خلال ربطهم اية مبادرة من هذا النوع بمشاركة اميركية فعّالة. وهكذا اختار الاوروبيون، بعد مراجعة حساباتهم المادية والبشرية، الارتداد عن تحدي الاميركيين لاحتلال مركز الصدارة في النظام العالمي وأعلنوا تبعيتهم للولايات المتحدة بتعليقهم أية مبادرات عسكرية من جانبهم على توافر المشاركة الاميركية الفعالة. ان انهيار النظام السوفياتي من جهة وتعثر خطوات توحيد اوروبا نقدياً وتطوير نظام دفاعي مشترك بين دول السوق المشتركة وفرت للولايات المتحدة اولوية تنافسية ملحوظة، وعزز من هذه الوضعية تباطؤ النمو في اليابان وتدني القيم فيها ونجاح حرب الخليج وترسيخها للقوى الاميركية على انها الضمانة المستقبلية. اليابان، من جهتها، حققت في الثمانينات خطوات جبارة، فقد أصبحت مؤسساتها المالية الاكبر في العالم، وارتفع معدل دخل الياباني الى مستوى يفوق معدل دخل الفرد الاميركي والالماني، وأصبح الانتاج الياباني مطلوباً لنوعيته لا لتدني اسعاره، وتعاظمت استثمارات اليابان في الخارج وأصبحت اليابان، بالنسبة الى دول جنوب شرقي آسيا المتوثبة اقتصادياً، كهونغ كونغ والصين تايوان وكوريا وماليزيا، بمثابة المانيا الشرق الاقصى، وبدأت اليابان تتخلى عن الصناعات التقليدية لحلفائها وتخصصت في التقنيات الحديثة وأهمها الاختراعات الالكترونية. لكن الانجازات الاقتصادية اليابانية تعرضت للاهتزاز بسبب فضائح مالية برزت واحدة بعد الاخرى وكانت متشابكة مع فضائح سياسية، وأسهمت المعلومات عن التلاعب في اسعار الاسهم ورشاوى السياسيين في هبوط اسعار الاسهم اليابانية بنسبة 47 في المئة ما بين 1990 و1991، ولا زال مؤشر اسهم سوق طوكيو يراوح حول 17000 نقطة، في حين بلغ هذا المؤشر اوائل عام 1990 مستوى 33000 نقطة، وبالتالي تسبب انهيار اسعار الاسهم اليابانية المستمر على مدى اكثر من عامين في انخفاض موجودات المصارف اليابانية التي تراجعت اهميتها، كما ان اسعار العقارات التي بلغت مستويات غير معقولة هي الاخرى تراجعت بنسبة 50 - 60 في المئة. اضافة الى كل ذلك، ارتكبت اليابان خطأ جسيماً في التعامل مع الجمهورية الروسية بصدد قضية جزر الكيريل التي تطالب بها اليابان، فقد اعلنت طوكيو قبل ان يزورها الرئيس الروسي يلتسين انها لن تمنح روسيا أية معونات ما لم تسترجع جزر الكيريل، فالغى يلتسين زيارته ومن ثم ركز على التعاون الاقتصادي مع كوريا الجنوبية التي تعتبر منافسة الى حد ما لليابان في مجالات عدة للانتاج. وقبل فترة قريبة عزز يلتسين علاقات روسيا بالصين، وهو أمر يثير حذر اليابانيين وترقبهم. اليابان منشغلة اليوم بتدني صادراتها وانحسار معدل النمو وفضائحها السياسية، وأوروبا منشغلة بالانكماش الاقتصادي والعجز عن التقدم في مجالات الوحدة النقدية والتعاون العسكري، اما الولاياتالمتحدة فيبدو انها بدأت تتجاوز مفاعيل ازمة مؤسسات الادخار والتمويل، والمؤشرات تدل على ان الاقتصاد الاميركي سينمو عام 1993 بنسبة تتراوح بين 2 و3 في المئة وهي نسبة مرشحة للارتفاع عام 1994. في الوقت ذاته، تعزز الموقع الاميركي في المنطقة العربية عموماً، وتواجد الاميركيين في الصومال اعطى الولاياتالمتحدة ثقلاً في شرق افريقيا واشرافاً مباشراً على الملاحة في خليج عدن. وتجاه هذه المكاسب الاستراتيجية الكبيرة والتحرك الاقتصادي الاميركي، وبالمقارنة مع اوضاع البلدان والكتل المنافسة، يبدو ان مفتاح القرن الحادي والعشرين هو في يد الرئيس كلينتون، وقد ورثه عن الرئيس الذي أمنه من دون ان يؤمن اعادة انتخابه، لاهماله الشؤون الاقتصادية. وبالتالي من المفيد في مقال مقبل النظر الى توجهات روبرت رايخ واندريا تايسن، فالاول كان مستشار كلينتون الاقتصادي خلال الحملة الانتخابية وهو أحد وزرائه الجدد. وتايسن، استاذة الاقتصاد في كاليفورنيا، اصبحت كبيرة المستشارين الاقتصاديين للرئيس كلينتون. * كاتب وخبير اقتصادي لبناني.