هل حان وقت الصلح مع العراق، وهل يجب على الدول العربية أن تفتح صفحة جديدة مع بغداد وتتجاوز آثار ونتائج احتلال الكويت وحرب تحريرها؟ بعض المحللين والسياسيين العرب يطرحون هذا الاحتمال، اما من منطلق التضامن مع العراق او لجس النبض وتتبع ردود الفعل على اثارة هذه المسألة. والسؤال طرح في الفترة الاخيرة بعد ازمة المواجهة بين نظام صدام حسين ودول التحالف الثلاث الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا، وما أعقبها من استعداد أبدته القيادة العراقية "للتحاور" مع هذه الدول و"تطبيع" العلاقات معها. والذين يثيرون موضوع تطبيع العلاقات العربية - العراقية يقولون ان العراق اصبح، نتيجة حرب تحرير الكويت، ضعيفاً عسكرياً واقتصادياً ولا خوف منه، وانه لم يعد يشكل خطراً على دول اخرى، ولا بد ان قيادته "تعلمت الدرس" ولن تكرر بالتالي أخطاء الماضي. ويضيف هؤلاء ان المصالحة مع العراق تدعم الموقف العربي وتحقق نوعاً من التوازن مع ايران، وان الوضع العام في المنطقة العربية سيكون أفضل اذا طويت صفحة أزمة الكويت. بل يذهب بعض هؤلاء الى حد القول ان الوضع العربي كان سيكون أفضل "لو لم تقع حرب تحرير الكويت"، وينطلقون من ذلك للدعوة الى "الانفتاح مجدداً على العراق". هذه الآراء تطرح مجموعة تساؤلات ابرزها: هل صحيح ان الوقت حان لفتح صفحة جديدة مع العراق؟ وعلى أي أساس يمكن ان تجري مثل هذه المصالحة؟ وهل يمكن ان تكون هناك مصالحة عربية مع العراق بوجود الرئيس صدام حسين في الحكم؟ لا يمكن التعامل مع مسألة كهذه بخفة وبمجرد نشر التمنيات وتوزيع النصائح ورفع شعارات مغرية وجذابة بعناوينها. ولا يمكن، ايضاً، قراءة القصة من نهايتها وتجاهل كل ما حدث منذ البداية. بل لا بد، قبل الاجابة عن هذه التساؤلات، من العودة الى أساس هذه الازمة التي يقول عنها الدكتور عصمت عبدالمجيد الامين العام لجامعة الدول العربية في حواره مع "الوسط" ان "لا سابق لها في العالم العربي". "انقلاب" صدام حسين بداية القصة - اذا كان البعض نسيها - ان صدام حسين هو الذي قلب الوضع في المنطقة في الثاني من آب اغسطس 1990. غزو الكويت لم يكن رد فعل غاضب متسرع على رفض المسؤولين الكويتيين تلبية عدد من المطالب العراقية، المالية والاقتصادية والجغرافية والسياسية، بل كان نتيجة خطة أعدتها القيادة العراقية وبدأت تمهّد الاجواء لها، اقليمياً ودولياً، منذ انتهاء الحرب مع ايران في صيف 1988. لم تكن العملية "فورة غضب" ولم يدخل صدام حسين الى الكويت ليخرج من هذا البلد بسرعة بعد تلبية مطالبه، او بعد هدوء أعصابه. غزو الكويت كان، ايضاً وخصوصاً، المحطة الاولى في عملية عراقية كبرى بعيدة المدى تهدف الى الهيمنة او السيطرة، بشكل او آخر، على الخليج، ومحاولة فرض واقع جديد وميزان قوى جديد على هذه المنطقة وعلى الشرق الاوسط ككل. لقد اعتبر صدام حسين، ضمناً، ان غزو الكويت وما يمكن ان ينتج عنه - لو تحققت طموحاته - هو ثمن الحرب التي خاضها العراق مع ايران طوال 8 سنوات وأدت الى ضرب وتدمير واضعاف قاعدة الثورة الايرانية ووضع حد للمدّ الايراني، ولو الى حين. وتجاهل صدام حسين كلياً - بل لم يكن مهماً بالنسبة اليه - ان عملية الغزو تشكل انتهاكاً واضحاً للشرعية العربية والدولية لأن الكويت دولة مستقلة ذات سيادة وعضو في الأممالمتحدة والجامعة العربية. ولعله أراد بعمله هذا ان يكسر قاعدة احترام سيادة وحدود الدول العربية الاخرى، بحيث تضم الدول الكبرى الدول الصغرى تحقيقاً لمصالحها الذاتية. لم يدخل صدام حسين الكويت لينسحب منها بسهولة. وهو لم يعتقد، قبل الغزو، ان تحالفاً عربياً ودولياً كبيراً - الاهم من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية - سيتشكل ضده. وظل، حتى الأيام الاولى من 1991، يراهن على ان الحرب لن تقع ضد العراق، أو أن العراق لن ينهزم فيها، في حال وقعت. ولو لم يكن غزو الكويت جزءاً من خطة عراقية كبرى، لما كان صدام حسين رفض، بين آب اغسطس وكانون الأول ديسمبر 1990، عروضاً عدة تلقتها بغداد من فرنسا والاتحاد السوفياتي آنذاك وبعض الجهات الدولية والعربية، تدعو الرئيس العراقي الى سحب قواته من الكويت، في مقابل وعود بل ضمانات بعدم توجيه ضربة عسكرية ضد بلده. المسألة لم تكن مسألة تهور أو جنون بل مسألة حسابات باردة لكن خاطئة. لو بقي العراقيون في الكويت هل كان تحرير الكويت، ولو بالقوة العسكرية، ضرورياً ام كان يجب القبول، ضمناً، باحتلال وضم والغاء دولة عربية من الوجود و"التساهل" مع صدام حسين؟ الجواب البديهي على سؤال كهذا - ينبغي الا يطرح في الأساس - هو بالطبع: نعم، كان يجب تحرير الكويت بأي ثمن. ولو تجاوب صدام مع المساعي العربية والدولية لما كانت الحرب وقعت أصلاً، ينبغي تحرير الكويت، بأي ثمن، ليس فقط لأسباب مبدئية وقانونية، بل أيضاً لأن قبول ضم الكويت الى العراق سابقة بالغة الخطورة تهدد الأسس التي قامت عليها الدول العربية منذ استقلالها وتؤدي الى زعزعة استقرار العالم العربي ككل. ومع ذلك، تمكن معالجة هذه المسألة - أي هل كان تحرير الكويت ولو بالقوة ضرورياً ام لا - من زاوية اخرى: ماذا كان حدث لو بقيت القوات العراقية في الكويت ولم تقع حرب التحرير؟ هل كانت الكويت - ومعها الكويتيون - في وضع أفضل اليوم؟ بالطبع لا. هل كانت منطقة الخليج اليوم أكثر أماناً واستقراراً؟ بالطبع لا. كانت هذه المنطقة واجهت ثلاثة أخطار: خطر قيام صدام حسين بفرض هيمنته على دول اخرى، خطر انفجار صراعات عراقية - ايرانية لأن ايرن لا يمكن ان تقبل بنمو وتوسع العراق بهذا الشكل، وخطر تدخل دولي واسع لأن الدول الكبرى لن تقبل بأن يبدل صدام حسين موازين القوى في المنطقة. لو بقيت القوات العراقية في الكويت هل كانت ايران أضعف أو "أهدأ وأعقل" مما هي عليه اليوم؟ لا، بل كانت القيادة الايرانية استغلت مسألة الموافقة على ضم الكويت لتقوم باحتلال اراضٍ عربية اخرى او تثير الاضطرابات والقلاقل في المنطقة على نطاق اوسع مما تفعل اليوم. لو بقيت القوات العراقية في الكويت هل كان وضع العرب في الساحة الدولية افضل مما هو عليه اليوم، وهل كانت مقدرتهم على مطالبة الدول الكبرى - وخصوصاً الولاياتالمتحدة - بالضغط على اسرائيل لارغامها على احترام الشرعية الدولية وانهاء احتلال الأراضي العربية... هل كانت مقدرتهم هذه أكبر؟ لا. فالدول الكبرى كانت ستستغل "سكوت" العرب عن ضم الكويت بالقوة الى العراق لتتساهل اكثر فأكثر مع احتلال اسرائيل الأراضي العربية وانتهاكها الشرعية الدولية. هل كانت الدول الكبرى "رضخت" للأمر الواقع وعقدت "صفقة" مع صدام حسين لو تساهلت الدول العربية مع غزو الكويت؟ لا. لأن الدول الكبرى لا يمكن ان تعقد "صفقات" مع "قيادات مغامرة" تريد تغيير موازين القوى بوسائل غير شرعية في منطقة الشرق الاوسط ذات الأهمية الكبرى اقتصادياً واستراتيجياً وسياسياً. لو بقيت القوات العراقية في الكويت هل كانت القضية الفلسطينية في وضع افضل اليوم؟ لا. فأول عمل كانت ستقوم به اسرائيل هو احكام سيطرتها التامة على الأراضي العربية المحتلة، بحجة تدعيم امنها. ولا قدرة لصدام حسين - لو افتر ضنا انه اراد ان يفعل شيئاً - على القيام بأي عمل ضد اسرائيل لأن الدولة اليهودية لديها من الاسلحة ما هو كفيل بالحاق دمار بالعراق اكبر بكثير مما تعرض له خلال حرب تحرير الكويت. هل كانت أوضاع مصر والجزائر والسودان وليبيا ولبنان ودول اخرى افضل عليه اليوم لو بقيت القوات العراقية في الكويت؟ لا. بل كانت دول عربية عدة شهدت هزات واضطرابات داخلية اخطر بكثير مما يتعرض له بعضها اليوم. هل كان المدّ الاصولي الاسلامي أضعف اليوم لو بقيت القوات العراقية في الكويت؟ لا. بل ان السكوت على ضم الكويت كان سيعطي زخماً هائلاً لكل الحركات "التغييرية" في العالم العربي. هل كان الوضع العربي العام أفضل وهل كانت "وحدة الصف العربي" أقوى وأمتن اليوم لو ان القوات العراقية بقيت في الكويت؟ لا. بل كان ذلك سيؤدي الى نشوب حروب عربية - عربية، بأشكال مختلفة ومتنوعة، ولفترة طويلة من الزمان. أية مصالحة؟ ما تشهده منطقة الشرق الاوسط اليوم هو في الواقع - شئنا أو أبينا - نتيجة خطأ صدام حسين الكبير. فغزوه الكويت كان كرة الثلج التي أحدثت الزلزال. والآن، بعد مرور عامين على حرب تحرير الكويت، هل حان وقت الصلح وفتح صفحة جديدة مع العراق؟ وعلى أي أساس؟ ومع من في بغداد؟ لا بد من القول، قبل كل شيء، ان صدام حسين اراد بغزوه الكويت تغيير الخريطة السياسية والجغرافية للعالم العربي، في محاولة منه لتحقيق اهداف ومصالح عراقية، بغض النظر عن الاضرار والخسائر التي تلحق بالآخرين. وما قامت به الدول العربية، بأغلبيتها الكبيرة، لتحرير الكويت من الاحتلال، ليس فقط دفاعاً عن الحق العربي وصيانة للشرعية العربية بل ايضاً دفاعاً عن مصالحها وأمنها واستقرارها، وعن حق كل دولة في ان تعيش آمنة ضمن حدودها المعترف بها عربياً ودولياً. لذلك لا يمكن ان تكون هناك مصالحة مع العراق لتأمين المصالح العراقية فقط - لأن العراق يحتاج الى مثل هذه المصالحة - بل لا بد لأية علاقات جديدة ومستقبلية مع العراق ان تكون مبنية على اسس واضحة تضمن المصالح العربية وعدم تعريض المنطقة لاخطار وتهديدات وهزات. ويمكن القول ان اسس وشروط أية علاقات مستقبلية صحيحة بين الدول العربية والعراق يجب ان تقوم على العوامل الآتية او تأخذها في الاعتبار: 1 - لا يمكن ان تكون هناك مصالحة عربية - عراقية على اساس تناسي الماضي و"تبويس اللحى" وكأن شيئاً لم يكن، وكأن ما قام به صدام حسين هفوة حان وقت التغاضي عنها. فأية مصالحة على اساس "تناسي الماضي" تؤدي الى اعطاء شرعية عربية - ولو متأخرة - لغزو الكويت وتشجع دولاً اخرى على تكرار تجربة صدام حسين من دون ارتكاب اخطاء صدام. فليست هناك مصلحة عربية عامة للمصالحة على هذا الأساس، بل هناك مصلحة عراقية. 2 - أية علاقات جديدة مع العراق يجب ان يكون منطلقها اعتراف المسؤولين العراقيين علناً بأنهم اخطأوا بغزو الكويت وأنهم يتحملون كل ما نتج عن الغزو، واعلان القيادة العراقية تخليها الرسمي والنهائي عن أية مطالب اقليمية في الكويت والاعتراف بالكويت رسمياً كدولة مستقلة وذات سيادة. ويجب ان يرافق ذلك قبول الحكومة العراقية، رسمياً وخطياً، ترسيم الحدود البرية والبحرية نهائياً مع الكويت وفقاً لقرار اللجنة الخاصة المكلفة من الأممالمتحدة ترسيم الحدود بين البلدين برعاية وضمانة الأممالمتحدة. ولا يكفي ان يصرح طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي بأن "فصل الكويت قد أقفل" من دون أن يقدم أية ايضاحات حول هذه العبارة. 3 - أية علاقات جديدة مع العراق يجب أن تقوم على أساس اقدام القيادة العراقية على تنفيذ كل قرارات مجلس الامن الدولي المتعلقة بغزو الكويت وحرب تحريرها، والتي تشمل - في ما تشمله - ازالة اسلحة الدمار الشامل والخضوع لحظر دولي شامل على شحنات الاسلحة وقطع الغيار ودفع تعويضات تقدر بعشرات المليارات البلايين من الدولارات لجميع المتضررين من غزو الكويت ونتائجه، ووضع حد لأية نشاطات ارهابية وعدم تعريض الامن والسلام والاستقرار في المنطقة للخطر واعادة جميع الاسرى الكويتيين بلا شروط ومن دون طلب اي "ثمن". ولا تهدف المطالبة بتنفيذ هذه القرارات معاقبة النظام العراقي على ما قام به فحسب، بل تهدف، ايضا وخصوصاً، الى حماية المنطقة من أية "تجارب" مماثلة للتجربة العراقية. وليس مصادفة، في هذا المجال، وجود قرار دولي بابقاء العراق لفترة طويلة تحت الرقابة الدولية للتأكد من انه لن يعمل على زعزعة وتهديد الاستقرار في المنطقة. 4 - تعهد القيادة العراقية الرسمي باحترام حدود وسيادة كل الدول العربية وتقديم الضمانات اللازمة بهذا الشأن. 5 - يجب ان يرافق ذلك كله اقدام القيادة العراقية على اتخاذ سلسلة تدابير داخلية الهدف منها اقناع الدول الاخرى بأن الجيش العراقي ليس اداة لسياسة ومخططات توسعية بل هو لحماية العراق وصيانة وحدته والدفاع عن حدوده وسلامة اراضيه، وبأن أولويات الحكومة العراقية هو البناء الداخلي وليس التدخل في شؤون الدول الاخرى. وبكلام آخر، يجب ان ينكفئ العراق على ذاته، تماماً كما انكفأت مصر على ذاتها في نهاية عهد عبدالناصر، خصوصاً في عهد انور السادات، من دون ان يقلل ذلك من شأن مصر - والعراق - سياسياً. لا مصالحة مع صدام يدفعنا هذا كله الى طرح السؤال الآتي: - هل يمكن للدول العربية ان تقيم علاقات جديدة مع العراق مع وجود صدام حسين في الحكم؟ والجواب على ذلك هو: لا، يستحيل على دول عربية كثيرة، خصوصاً ضمن المعطيات الراهنة، ان تفتح صفحة جديدة مع العراق طالما ان صدام حسين في الحكم. وهناك مجموعة اعتبارات تدفعنا الى هذه القناعة أبرزها: 1 - لم يصدر عن صدام حسين أي كلام او موقف او عمل يظهر انه نادم، فعلاً، على غزو الكويت، ويعترف بخطأ ذلك، بل ما صدر عنه يظهر بوضوح انه غير نادم على ما فعله وانه لا ينوي الاعتراف بتسببه بالاضرار الفادحة التي دفع العراق وآخرون ثمنها. 2 - صدام حسين لا يريد تنفيذ قرارات مجلس الامن بل يحاول التملص منها، لأن تنفيذ هذه القرارات يعني، فعلياً وعملياً، تغيير طبيعة دور العراق، ولسنوات طويلة، بحيث يتحول العراق من بلد مؤثر على الاحداث ومشارك في صنعها ويطمح الى ممارسة الزعامة والقيادة في المنطقة العربية، الى بلد منهمك بمشاغله وهمومه الداخلية المتعددة. وهذا الوضع هو نتيجة سوء استغلال صدام امكانات العراق ودوره. 3 - صدام حسين ليس هو الشخص الذي يمكن ان يحدث التغيير الكبير في دور العراق - كما فعل انور السادات مثلاً - ويضع حداً لطموحاته الخارجية ويبدل نظرته الى الدول المجاورة. 4 - ليست هناك ثقة عربية في صدام حسين أو في أية تعهدات او وعود يمكن ان تصدر عنه. وتجربة احتلال الكويت لا تزال ماثلة في أذهان الكثيرين من المسؤولين العرب. وليست هناك، أيضاً، ثقة دولية - خصوصاً لدى الدول الكبرى - بنظام صدام حسين. ولذلك يرى الكثيرون ان افضل وسيلة لحماية المنطقة العربية من اية اعمال او طموحات عراقية في ظل حكم صدام حسين، هو ابقاء هذا البلد محاصراً ومطوقاً بمجموعة من قرارات مجلس الامن وباجراءات ومواقف عدة متنوعة.
الوقت لم يحن، اذاً، للصلح مع العراق. والعلاقات الجديدة والمستقبلية بين الدول العربية والعراق يجب ان تنتظر تغيير النظام في بغداد. ولا يمكن ان تكون هناك مصالحة يربح فيها العراق ويخسر العرب.