"لم يكن من طموحاتي في الطفولة أن أصبح مخرجاً, ربما أردت أن أكون صحافياً إلا أن ما غير حياتي هو ابن خالتي: أذكر أننا كنا في السادسة عشرة حين أخذني إلى استوديو جلال، إذ كان يصور فيلم لنادية لطفي من إخراج أحمد ضياء الدين الذي كنت اعرفه بحكم زمالتي وابنه في المدرسة. ما حدث يومها هو أنني انبهرت بالسينما بصورة مذهلة, وهو أمر أفشل في تفسيره حتى الآن. والمؤكد أن ما بهرني لم يكن النجوم أو الإخراج أو التكنولوجيا، بل شيء آخر غامض حقاً. يومها وقرر ابن خالتي دخول معهد السينما وقررت أن افعل مثله" ما سبق جزء من كلمات المخرج داود عبدالسيد في مقدمة الكتاب الذي صدر في مناسبة تكريمه في المهرجان القومي للسينما المصرية في دورته الأخيرة وحمل عنوان"داود عبدالسيد... أبواب ورسائل"للصحافي محمد رجاء. جاء الكتاب في 245 صفحة من القطع المتوسط مملوءاً بمقتطفات مما جاء على لسان داود عن أعماله السينمائية سواء التسجيلية أو الروائية والتي كتب القصة والسيناريو والحوار أيضاً لغالبيتها إلى جانب الآراء النقدية عن هذه الأعمال لعدد من الأسماء المعروفة ومنها الراحل يوسف فرنسيس وسمير فريد وعلي أبو شادي وكمال رمزي... بدايات تسجيلية خصص المؤلف فصلاً كاملاً في بداية الكتاب هو عبارة عن مشاهد سريعة وبسيطة رصد فيها مولد داود عبدالسيد في حي شبرا الشعبي ثم انتقاله إلى حي مصر الجديدة وهو في العاشرة، وعلاقته بدور السينما التي كانت تملأ حي مصر الجديدة وبزوجته كريمة كمال الصحافية في مجلة"صباح الخير"فيما يشبه الشهادات على لسان داود. ثم خص البدايات التسجيلية لداود بجزء كامل من الكتاب منذ تخرج في المعهد العالي للسينما عام 1967 وتعيينه مع ثلاثة آخرين هم علي بدرخان وخيري بشارة وحسام علي، في هيئة السينما في شباط فبراير 1968. وعمله كمساعد مخرج في ثلاثة أعمال روائية طويلة هي"الرجل الذي فقد ظله"لكمال الشيخ وپ"الأرض"ليوسف شاهين وپ"أوهام الحب"لممدوح شكري. ويعرض الكتاب لقول داود انه كره العمل كمساعد مخرج"ربما لأنه عمل يتطلب تيقظاً شديداً في حين انني أميل للحظات السرحان والتأمل، وربما لأنني أريد أن اصنع ما يلح عليّ لا أن التزم بمجرد عمل احترافي". يتحدث الكتاب بعد ذلك عن التحاق داود في أوائل السبعينات من القرن الماضي، كمخرج في المركز القومي للأفلام حيث من خلال المجلة السينمائية أول أفلامه"رقصة من البحيرة"عام 1972 من أربع دقائق عن فرقة البحيرة للفنون الشعبية. وقدم بعد ذلك بسنتين أول أفلامه التسجيلية التي تحمل تجربة ورؤية ما. وكان الفيلم بعنوان"وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم"وهو من 21 دقيقة رصد عبدالسيد من خلاله إحدى الظواهر التي تنطوي على صراع درامي هو في الحقيقية صراع أيديولوجي وسياسي أو طبقي، إذ يتابع بداية إرسال الفلاحين أبناءهم إلى المدرسة وما أثاره ذلك من غضب لدى طبقة الأعيان وقام داود بإهداء الفيلم الذي صوره في قرية لاصيفر البلد في محافظة كفر الشيخ شمال دلتا مصر إلى الدكتور طه حسين وتلامذته إيماناً منه بدور التعليم في تفعيل قضية الشعب من خلال تنويرهم وتوعيتهم. ولاقى الفيلم عند عرضه ترحيباً نقدياً كبيراً وقدم خلال الفترة نفسها فيلم"الأمن الصناعي"وكانت آخر أفلامه التسجيلية عام 1980"عن الناس والأنبياء والفنانين"عن الفنان التشكيلي راتب صديق وزوجته عايدة شحاته. من"الصعاليك"الى الحرامي ورصد المؤلف في فصل آخر أفلام داود عبدالسيد الروائية التي بدأها عام 1985 بفيلم"الصعاليك"لنور الشريف ومحمود عبدالعزيز ويسرا، وهو من تأليفه وانتاجه. لم يكن هذا، الفيلم الأول الذي يكتبه ولكن كان أول ما يتم تنفيذه بالفعل من ضمن ما كتب من مشاريع سابقة له توقفت لأسباب مختلفة ومنها فيلم بعنوان"كفاح رجال الأعمال"عن أوبرا"الثلاث بنسات لبريخت"وهو فيلم ساخر يدور حول بدايات الرأسمالية والخلايا التي تقوم بالنصب. وآخر عنوانه"الوباء"وتدور أحداثه حول ضابط يترك بإرادته البوليس السياسي ويتحول إلى المدني ويتفرغ لاكتشاف سر إحدى جرائم القتل ويكتشف في رحلة بحثه عجز القانون ونصوصه عن التوصل إلى الحقيقة. قوبل فيلم"الصعاليك"بترحيب كبير واعتبر الجميع داود مخرجاً صاحب رؤية انضم إلى أبناء جيله ممن سبقوه في تحقيق أفلامهم وهم محمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب. ثم كان فيلمه الثاني عام 1991"البحث عن سيد مرزوق"لنور الشريف وآثار الحكيم ولوسي وعلي حسنين وقام داود بتأليفه أيضاً. وهذا الفيلم محاولة جديدة للسينما المصرية على حد قول داود"فهو تلخيص لمتناقضات المجتمع المصري في يوم واحد من حياة مواطن بسيط يعيش فاقداً الوعي لمدة 20 سنة ويكرر أفعاله اليومية بالنمط نفسه. وفي اليوم الذي يكتشف فيه نفسه يصطدم بمتناقضات الواقع وتستيقظ رغبته في المقاومة فيبحث عن سبيل للخلاص". أما الفيلم الثالث فكان"الكيت كات"الذي كتبه داود السيناريو والحوار له عن رواية"مالك الحزين"لإبراهيم أصلان. واستغرقت كتابة السيناريو من داود شهرين علماً أن مادة الفيلم كانت موجودة في الرواية ويقول داود:"كنت أرغب في البداية أن يحمل الفيلم عنوان"عرايا في الزحام"على رغم أن"الكيت كات"عنوانه جذاب وله جرس موسيقي جميل وربما يليق ذلك العنوان بالرواية أكثر إلا أن الرقابة اعترضت على الاسم الذي اخترته. لقد فوجئ إبراهيم أصلان في البداية بكم التغييرات التي حدثت في الرواية إلا انه كان عاقلاً لدرجة انه أخذ بمبدأ الأستاذ نجيب محفوظ بأن الكتاب كتاب، والفيلم المأخوذ عن الكتاب عمل فني آخر". حقق"الكيت كات"نجاحاً جماهيرياً كبيراً وقوبل بحفاوة نقدية بالغة لدرجة انه لم يثر أي قدر من الخلافات بين النقاد على نقاط محددة كمشهد أو تفصيلة درامية أو أغنية أو حال عامة لا يستطيع معها الكاتب أن يتواصل مع الفيلم. وعلى رغم هذا النجاح يستدل المؤلف بقول لداود من أن هذا الفيلم سبب له مشكلة كبيرة:"حاولت أن أكتب الكثير من المواضيع بعد ذلك إلا أن نجاح"الكيت كات"كان شبحاً ماثلاً أمامي لذا أخذت أردد مع نفسي أن الفيلم وحش ... أنا أكرهه حتى كرهته بالفعل وتخلصت من سيطرته عليّ". ويعرض المؤلف لفيلم"أرض الأحلام"الذي عرض عام 1993 عن قصة وسيناريو وحوار هاني فوزي وبطولة فاتن حمامة. ثم فيلم"سارق الفرح"عام 1995 للوسي وعبلة كامل وماجد المصري. بعد ذلك يأتي فيلم"ارض الخوف"الذي عرض عام 2000 وقام ببطولته احمد زكي وفرح, وقام داود بكتابة السيناريو والحوار له وهو أمر تكرر مع فيلم"مواطن ومخبر وحرامي"عام 2001. وخصص المؤلف جزءاً أخيراً في الكتاب لسينما داود والتي تحمل عالماً من الإشارات والتفاصيل الصغيرة, محاولاً اكتشاف"الميكانيزم"الذي تعمل به لغته الخاصة في مشاهد نقدية حملت عناوين"الزمن فرشاة والعالم تابلوه"وپ"أطراف تمتد عبر مختلف الأبواب"وپ"روابط محكمة وجاذبية أرضية"وپ"داود عبدالسيد مجرد رسول". وفي النهاية يرصد الكتاب لعشرات الجوائز وشهادات التقدير التي حصل عليها عبدالسيد من خلال عرض أفلامه في الكثير من المهرجانات المصرية والعربية والدولية.