"للجدران آذان" مثل قديم يستعمله الناس للتحذير من البوح بما لا ينبغي خشية ان يكون ثمة من يسترق السمع خلسة من وراء حجاب. لكن الثورة التي أحدثتها التكنولوجيا الحديثة في عالم الاتصالات والتنصت الالكتروني لم تلغ المسافات الشاسعة بين ارجاء المعمورة فحسب، بل اقتحمت المنازل والمؤسسات لكشف اسرارها وخفاياها الى العلن. وآخر ما توصلت اليه هذه التكنولوجيا جهاز يلتقط ويسجل المكالمات التي تتم بواسطة الهاتف النقّال الذي كان حتى زمن قريب وسيلة الاتصال الوحيدة التي لم يتمكن خبراء التنصت من اختراقها. التحقيق الآتي يلقي الاضواء على هذا الجهاز الجديد الذي ألغى آخر الحواجز التي تحمي الخصوصية والسرية في حياة الناس. بدأت نشاطات التنصت الالكتروني منذ الأيام الأولى لانتشار الاتصالات البرقية في القرن التاسع عشر. ويؤكد ذلك وجود قوانين سُنّت في الولاياتالمتحدة عام 1862 تمنع اعتراض الرسائل البرقية بواسطة التلاعب في الاسلاك الكهربائية. أما التنصت على الخطوط الهاتفية فيعود الى نحو قرن من الزمن، وكانت المحكمة العليا الاميركية وافقت منذ العام 1928 على استعمال رجال الشرطة هذه الوسيلة للإيقاع بالمجرمين من خلال تسجيل مكالمات بصوتهم تستخدم أدلة لادانتهم. وحديثاً، تحتاج السلطات المحلية في أي دولة الى امر قضائي يسمح لها بالتنصت على الخطوط الهاتفية للحد من النشاطات الاجرامية شرط ان تكون جميع وسائل التحقيق الأخرى فشلت في التوصل الى نتيجة. اما هيئات وأجهزة الاستخبارات الرسمية فتستعمل التنصت الالكتروني من دون اذن مسبق لأنه جزء اساسي من عملها اليومي. وتوجد وسائل عدة للتنصت الالكتروني، ولعل اكثرها فاعلية وأقلها كلفة هو جهاز راديو صغير مرسل للاشارات مصنوع من عدد من الشبكات الكهربائية الصغيرة ترانزيستور. ويمكن صنع جهاز من هذا النوع أصغر وأقل سماكة من طابع بريدي وإخفاؤه في اي مكان داخل الغرفة التي تكون هدفاً للتنصت. وأما الوسائل الاكثر تطوراً فتشمل استعمال مسدس يطلق أشعة "لايزر" ضوئية على الهدف المطلوب من مسافة بضع مئات من الامتار. ويستطيع شعاع"اللايزر" هذا التقاط الاحاديث وحملها الى الشخص الذي يقوم بعملية التنصت بسهولة، ويتميز هذا الاسلوب بصعوبة اكتشافه ومواجهته عكس التنصت بواسطة الراديو الذي يمكن تحديد مصدره والتشويش عليه. الى ذلك يستعمل خبراء التنصت مكبرات للصوت "ميكروفونات"، وآلات تسجيل موصولة بالخطوط الهاتفية المستهدفة، وسماعات تشبه تلك التي يستعملها عامل الصيانة عند فحص الخطوط الهاتفية داخل علبة أو "صندوق" الخطوط الرئيسي في كل منطقة. لكن معظم وسائل التنصت هذه تفشل فشلاً ذريعاً عند استعمالها لالتقاط احاديث تتم بواسطة الهاتف النقال. ومن هنا تأتي اهمية هذا الجهاز الجديد الذي بدأت اجهزة الاستخبارات البريطانية استعماله منذ ثلاث سنوات على الأقل ولم يكتشف الا اخيراً بعدما اثيرت فضائح التنصت على أمير ويلز تشارلز وزوجته الاميرة دايانا في الصحف البريطانية. فما هو هذا الجهاز؟ وكيف يعمل؟ يستطيع "جهاز اعتراض الهاتف النقال" CELLULAR INTERCEPTOR DEVICE تتبع وتسجيل جميع المكالمات الهاتفية التي تتم بواسطة الهاتف النقال اضافة الى التنصت عليها، ويمكنه تحديد ارقام هاتفية معينة ضمن شبكة التلفون النقال الوطنية في أي دولة يستعمل فيها. ويختلف هذا الجهاز عن اجهزة الكشف SCANNER التي يستعملها هواة التقاط المخابرات الهاتفية لأنها تعجز عن انتقاء الاحاديث وأرقام الهاتف مسبقاً قبل الاستماع اليها. ويشمل الجهاز الجديد هذا هاتفاً نقالاً يتصل بجهاز كمبيوتر تم تعديله للقيام بهذه المهمة. وتستعمل هذه الآلة برامج كمبيوتر خاصة لاقتفاء أثر جميع المخابرات الهاتفية الجارية في أي محطة أو "خلية" من محطات شبكة الهاتف النقال الوطنية الواقعة ضمن نطاقها. ويتراوح مدى هذه الآلة الفاعل من مسافة ثلاثة أميال نحو 5 كيلومترات في المناطق التي تكثر فيها المباني الى مئة ميل نحو 150 كيلومتراً في الأرياف ومن على سطوح المباني الشاهقة. ويعمل الكمبيوتر الملحق في هذه الآلة بواسطة الدخول على موجات التحكم التي تبثها محطات الهاتف النقال الرئيسية بشكل اوتوماتيكي لايجاد وتحديد هوية جميع خطوط الهاتف ضمن محطة معينة. وبعد تحديد الرقم المطلوب يستطيع الكمبيوتر الاستماع الى المكالمة الجارية ويلاحقها من مكان الى آخر في حال تغيرت الذبذبات عند تنقل الاشخاص من محطة الى اخرى أي من منطقة الى منطقة ثانية. ويمكن اعتراض المكالمة بواسطة وضع اشارة على الرقم المطلوب الموجود على شاشة الكمبيوتر. ويتم الاستماع الى الحديث الدائر من خلال وصل الكمبيوتر الى سماعات للأذن او مجهار مكبر للصوت. وحتى فترة قريبة كان هذا الجهاز سراً من اسرار التجسس تحتكره هيئات مثل اجهزة الاستخبارات البريطانية المعروفة باسم "أم.آي.فايف" و"أم.أي.سيكس". ولكن بدأ الحديث عنه علناً في الصحف البريطانية الشهر الماضي بعدما اتهم بعضها الاستخبارات البريطانية بتسجيل مكالمة ذات طابع حميم اجرتها الاميرة دايانا مع صديق لها يدعى جيمس غيلبي بواسطة هاتف نقال فيما عرف لاحقاً بفضيحة "دايانا غيت". كذلك تؤكد اوساط الصحافة البريطانية ان الجهات نفسها كانت وراء تسجيل مكالمة الامير تشارلز "الساخنة" مع صديقته المتزوجة كاميلا باركر - بولز والتي اطلق عليها اسم "كاميلا غيت". وكانت صحيفة "ذي صن" الشعبية البريطانية حصلت على شريط التسجيل الذي يحتوي مكالمة الاميرة دايانا مع صديقها من مدير مصرف متقاعد في السبعينات من عمره اسمه سيريل رينان التقط الحديث بالمصادفة في 4 كانون الثاني يناير عام 1990 على جهاز الكشف الذي يملكه في منزله. وبعدما تأكد رينان من هوية المتحدثين سجل المكالمة وباعها الى الصحيفة التي تهوى الفضائح لقاء مبلغ الف جنيه استرليني. وبقي شريط التسجيل هذا طي النسيان حتى اواخر شهر آب اغسطس الماضي عندما دفعت الشائعات الدائرة في شأن انهيار زواج امير ويلز وزوجته الصحف البريطانية الى التفتيش عن مادة جديدة لجذب القراء. وقررت صحيفة "ذي صن" نشر تفاصيل المكالمة التي سجلها رينان بعدما دفعت له مبلغ خمسة آلاف جنيه استرليني اضافة الى تفاصيل مكالمة اخرى مماثلة سجلتها سيدة تدعى جين نورغروف وتسكن في المنطقة نفسها التي يعيش فيها رينان. ولكن نورغروف اصرت انها سجلت هذه المكالمة عشية رأس السنة اي قبل أربعة ايام من تسجيل رينان للمكالمة نفسها. وحيّر هذا الاختلاف في التوقيت رجال الصحافة الذين عكفوا على ايجاد تفسير لما حدث واستعانوا بخبراء في التنصت لهذا الغرض. وبعد دراسة طويلة لنوعية الاصوات الصادرة عن شريطي التسجيل قرر خبراء التنصت ان "نظافة" الصوت وخلوه من ذبذبات معينة تصدر كل 8 ثوانٍ يدل على ان المكالمة لم تسجل مباشرة على اجهزة الكشف التي يملكها الهواة مثل سيريل رينان وجين نورغروف. ويعتقد اندرو مارتن مدير شركة "أوديوتل انترناشونال" التي حللت اشرطة التسجيل بأن المكالمة التقطت بواسطة جهاز متطور وحساس مثل "جهاز اعتراض الهاتف النقال"، وتم تسجيلها وبثها لاحقاً مرات عدة كي يستطيع الهواة التقاطها "بالمصادفة" كما حصل مع رينان ونورغروف. وربما يفسر هذا الرأي اختلاف توقيت التسجيل لدى الهاويين على رغم تشابه المكالمة التي سجلاها ويؤكد مزاعم الصحافة لجهة ضلوع الاستخبارات البريطانية في هذه الفضيحة. وكانت الصحف البريطانية تحدثت عن شريط تسجيل لمكالمة بين دوق يورك الأمير اندرو وزوجته سارة سجلت في 8 كانون الثاني يناير 1990 بالاسلوب نفسه اضافة الى شريط "كاميلا غيت" الذي نشرت مجلة "نيو أيديا" النسائية الاوسترالية، تفاصيله الشهر الماضي. وعلى رغم ان اهتمام الصحافة البريطانية بالموضوع نابع من مصلحة شخصية تهدف الى جذب مزيد من القراء، لكن نشر تفاصيل هذه المكالمات اثار زوبعة كبيرة من الاسئلة والاتهامات والاتهامات المضادة عن دور الصحافة، ومستقبل الامير تشارلز وزوجته الشخصي والعملي، اضافة الى الحديث عن حق الناس بالخصوصية، عاديين كانوا أم مشاهير. ويبدو ان نشر تفاصيل شريط "كاميلا غيت" كان له وقعه الكبير لدى الأمير تشارلز الذي بدا تعيساً ومرتبكاً اثناء ادائه واجباته الرسمية اخيراً. وكان أمير ويلز استعان بخبراء شركة أمن خاصة "لتطهير" قصر كنزنغتون من وسائل التنصت في حزيران يونيو الماضي ولكن مهما كان تأثير فضيحة التنصت عليه فان ما يهم غالبية الناس، خصوصاً اذا كانوا أشخاصاً بارزين ومهمين، هو الدور الذي ستلعبه تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في حياة الناس الخاصة وخطورة سوء استعمالها على الافراد والمجتمع ككل.