لا يبالي الشاعر اللبناني طلال حيدر عندما تقول له انه مقلّ. بين ديوانه الاول "بيّاع الزمان" وديوانه الثاني "آن الاوان" الذي صدر في 1991 تسعة عشر عاماً، يهزّ الشاعر كتفيه: "كثيرون يقولون اني كسول، لكن ذلك غير صحيح. انا اكتب الشعر وليس هو من يكتبني. لا افهم هاجس الكمية وطول القصيدة عند الشعراء العرب ولا سيما منهم المحدثين. الشعر يأتي من حياة الشاعر، والفن يعيد صنع العالم كيفاً لا كمّاً. امرؤ القيس الذي كان لا يزال حاضراً كتب خمساً وعشرين قصيدة فقط. لا اجلس الى الطاولة واكتب. هذا عمل مكتبي لا فن. الشعر هو روحنا على الورق، واهمية القصيدة تكمن في توهجها لا بكمية الاوراق التي تملؤها. تأتي نعمة القصيدة عندما "أضيء" اي ابلغ توازني الروحي. والوقت لها لا لي. لا تقلقني الكمية". اللغة الأقرب هو ابرز الشعراء باللغة المحكية في لبنان، وهؤلاء قلّة في اي حال حتى اذا احصينا شعراء الاغنية. ورث الصناعة عن سعيد عقل من دون ان يفقد العفوية التي ميّزت ميشال طراد وبلغت احياناً حدّ الفجاجة عنده. يعترف: "اشطب كثيراً واترك نفسي. ما عشته. حياتي. خالدة سعيد الناقدة المعروفة تقول اني اصفّي كثيراً". يعترض عندما يُشار الى ازمة الانتشار التي يواجهها الشعر باللغة المحكية ويؤكد شعريتها وصعوبة التعامل معها: "هي اللغة الاقرب لكنها ليست الاسهل. ليست زجلاً او "قرّادة" او كلاماً، والموسيقى ليست شكلاً من اشكال اللغة بل رنين الايقاع الروحي. عندما حدّد الخليل بن احمد بحور الشعر لم يكن يضع نظاماً له بل يحلل التراث الشعبي. ولم تعد هذه البحور تتسع لتوتر الانسان المعاصر لذا تكثر التجارب واللغات. لا ارى مشكلة او صعوبة في الشعر بالمحكية، ولا اعتبره في مرتبة دون ذلك المكتوب بالفصحى. في مقدمته ل "جلنار" الذي كتبه ميشال طراد سمى ما يكتب بالمحكية شعراً، وكان يعتبر قبل ذلك مجرد "قول" ودون الشعر المكتوب بالفصحى مرتبة. لسعيد عقل الفضل في تحرير الشعر بالمحكية من عقدتي النقص هاتين، وميشال طراد هو المبدع الاساسي الذي فتح الباب على تراث الشعر العربي. في 1972 نلت جائزة سعيد عقل وكتب عصام محفوظ الكاتب والناقد اللبناني ان ثمة من اتى من خارج اسوار ميشال طراد. كان شعره رومانسياً لكنني تخطيت المدرسة الرومانسية التي حددت ملامح حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وربما كان ذلك ما جعلني اكسب الرهان. الانتقال من الفصحى الى المحكية كان هو الابداع عند عقل وطراد، ولكن على من يأتي بعدهما ان يكمل. اما ان يقول جملته او لا يقول شيئاً. وانا لم آت من زجل الضيع بل من كل الشعر في العالم، وتأثرت خصوصاً بسان جون برس وخوان ريموند خيمينيز الذي ناداني الى مساحات شعرية خارج المألوف. ولي مجموعة بالفرنسية هي "أوراق المطر". ليست شعوبية تشير الى تفضيل الشعراء الشبان الفصحى على المحكية وتسأله عن قرائه. "لغتي ليست لبنانية بل عربية، وهي مفهومة في العالم العربي، الجمهور المغربي أدهشني بتجاوبه في اصيلة، وكذلك المصري في القاهرة، والاردني في جرش. في السبعينات جمعتني سهرة بالموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب وفيروز وعاصي في فندق دمشقي. قرأت شعراً فمسح عبدالوهاب دموعه. المحكي فصحى متطورة، واللغة لم تأخذ بعد شكلها النهائي كما قال سعيد عقل فهي كائن حي يتغير مثلنا. ليطمئن القوميون فالمحكية ليست شعوبية ولا تهدد الاتصال بين الشعوب العربية". يروي انه عندما استمع الى قصيدة "فخار" لميشال طراد، قال الاخير: "اتعرف؟ ان مسماراً في حذاء شاعر اكبر من اكبر جوهرة في العالم. أستطيع الآن ان اموت مرتاحاً لأنه اتى من يكمل". ويقول انه لم يغضب من نفسه في مسيرته الشعرية: "لم اقل مرة انني ارتكب خطأ. هذا هو الطريق الذي سيصل بي الى مكاني، وطريقي يعطيني طمأنينة في رحلتي". ويتلو مقطع قصيدة الفها اثناء زيارته الى لندن: ساعة رمل لحالها بتخلّص الصحراء والطير وقتو مش معو بيطير بتحني الارض صابيعها العشرة وبيرنّ خلخال الزمان بآخر السفرة يمزج طلال حيدر المجرد بالأليف في شعره، وفي "آن الاوان" يجدد مخزون الشعر بالمحكية بقصائد تشكيلية عن الحروف، تخرج عن المألوف في هذا النوع من الشعر. ويحضر سهل البقاع بعاداته البدوية وامتداده ويفرض المكان نفسه على الشعر الذي تغيب عنه المدينة ولغتها وابوابها المفتوحة على الغرب. لا ذكر لبيروت في الديوان الذي ترد في كلمة "لبنان" مرة واحدة بينما تحضر بعلبك والسهل والمدن السورية ومصر. ينفي البعد السياسي ويقول ان "اسماء الاماكن تحضر بمعناها الحضاري والتراثي لا القومي. شعري هو سهل البقاع. بعلبك، الماء، الحجر، النوم، ركوة القهوة والحصان. كتبت عن بيئتي الثقافية وهذه من لبنان". "مغناة الفرمان" كثيراً ما تسأله لتعرف فيردّ بالشعر. تتذكّر "مغناة الفرمان" ذات الحوار الشعري وتقول ان هذه اللغة لا تصلح للمسرح. يقول ان صاحبة الفكرة، الزمان يخلق ضيعة، كانت الشاعرة الراحلة ناديا تويني وان الشعر وحده، وكان منه، يليق بموضوع وهمي كهذا. كانت بطلة المسرحية مجدلى التي اطلّت للمرة الاولى في "الفرمان" على الجمهور واحسّت بالرهبة. يرى حيدر اليوم انه "ربما كان المسؤول الاول والأخير الصوت. فيروز وحدها كان صوتها يبدأ من فوق اعمدة بعلبك، ولم يكن ممكناً مع مجدلى و غيرها ان يخرج العمل بنتائج مختلفة، وربما كان الموضوع لا يحمل اكثر من ذلك. كانت الالحان التي وضعها زكي ناصيف جميلة جداً لكن الاصوات ظلمت الموسيقى والشعر، ولم يقبل ناصيف ان يعطي الالحان لأحد بل سجلها بصوته واحتفظ بالشرائط. في 1972 كتب مسرحية "مرجان وياقوت وتفاحة" التي قدمها "محترف بيروت للمسرح" وكان عماده روجيه عساف ونضال الاشقر. يقول ان المحترف كان يبحث عن الجملة المسرحية في زمن الانتقال من النص المترجم الى التأليف، من اعلام تلك الفترة ايضاً ريمون جبارة وجلال خوري. "مسرح النهضة الجديدة قصف عمره بسرعة لأن الحرب هدمت مداميكه. كانت المسرحية عن الانتاج والاستهلاك واستغلال الافراد في المجتمع. نعم، برزت فيه الخطابة والنخبوية، وهذا امر طبيعي في مرحلة انتقالية كتلك. كل الذين كتبوا للمسرح في لبنان اتوا من الخشبة، ممثلين ومخرجين، باستثناء عصام محفوظ، بعد مرور زمن برز روجيه عساف كأفضل من فهم المعنى الحقيقي للمسرح، ويبقى ريمون جبارة علامة مميزة مع عساف". فيروز تسأل عن فيروز وانت ترجو ألا يجيب بالشعر لكنه يصرّ عليه: "الكلام عن فيروز يبقى اقلّ بكثير من صوتها. المغنون يبحثون عن قصائد ليغنوها، ومع فيروز يحدث العكس. القصيدة تبحث عنها لتصبح شعراً. صوتها يرسم فضاء للشاعر ويفتح له مدى ليصبح شاعراً اوسع والمع". وهل كان من الشعراء الذين ساعدوا الاخوين رحباني في اعمالهم؟ يجيب: "لم يساعدهم احد. كان عاصي يهتم بأخذ رأي جورج شحادة شاعر لبناني راحل بالبنية المسرحية ويستشير ايضاً سعيد عقل وكامل التلمساني. لم يشارك احد عاصي في فعل الابداع، وهو عالم من الشعر والموسيقى قد لا يأتي مثله بعد مئات السنين، الا زياد وهو عاصي زماننا انما بشكل مختلف ورائع. منصور كان شريكاً في الاعمال لكن الجملة الاساسية كانت لعاصي شعراً وموسيقى. مسرحية "صيف 840" التي حققها منصور لا تذكّر بأي مسرحية او مغناة ل "الاخوين رحباني" كنت صديقاً لعاصي الرحباني وكنت مستمعاً جيداً لمسوداته المسرحية والموسيقية، وهو كان مستمعاً جيداً لما كنت اقوله. عاصي سيأخذ مساحة كبيرة بعد موته، وثمة من تساءل: لم لا يكمل زياد المشوار؟ لكن عاصي اخذ جملته معه، وزياد يكمل انما بجملته الخاصة، والا اصبح صدى ابيه". المسرح الرحباني كان مسرح الاخوين رحباني كلياً. تناول القيم وعذابات الارض من دون ان تدوس شخصياته عليها بأقدامها في حين انطلق زياد من اليومي بكل دقائقه وتفاصيله وابتعد عن الرومانسية التي تظهر في أول عمل له "سهرية" ليعتمد الدعابة السوداء في ما بعد. يقول حيدر ان "عاصي بنى وطناً من الوهم. لا شرّ فيه حقاً ولا موت باستثناء مقتل غربة على البوابة في "جبال الصوان". كان الوطن الوهمي هو الاطار الملائم للتطرق الى المثل التي نادى بها. فيروز غير موجودة في مسرح زياد وهي معه أغنية فقط،وبين فيروز عاصي وفيروز... زياد مسافة بين الاغنية القصيدة وتلك المضادة، الاغنية - المسرح التي تشبه الزمن الآتي. نعمة كبيرة ان يفتح زياد صوت الزمان الآتي، ومسرحه للناس كلهم وعلى قياسهم. لكن لا احد احسن او اسوأ من الآخر. لكل من عاصي وزياد صوت زمانه". وأي الفيروزين اقرب الى الحقيقة وحقيقتها؟ يرفض المقارنة: "هي الاثنتين معاً. لم تغنِ له لانه ابنها بل لأنه صوت الزمن المقبل. ليست مضطرة ان تلعب بمجدها وتوقع بصوتها اعمالاً لا ترضى عنها . جملة زيادة تحتاج الى فيروز جديدة، وهي استطاعت ان تكون الجملتين معاً. عندما تسكت احسّ انني وقعت من الفضاء الى هاوية". كتب نص فيلم عنوانه "مبارك صبرك يا بيروت" الذي حققته وزارة الاعلام اللبنانية ومثّل فيه، و"هالكان عندن بيت" الذي اخرجته رندة الشهّال ونال جائزة في مهرجان قرطاج ونصين لفيلمين روائيين عرقلت الحرب تنفيذ جورج نصر لهما، وآخر يحققه جان كلود قدسي وهو عن الاغتراب والعودة. وكتب اغنيات عدة منها واحد لفيروز: "لحّن زياد "وحدن" واعتبرها مفصلاً بين عصرين: عاصي وزياد، كما كانت "انت عمري" التي لحنها عبدالوهاب لأم كلثوم مفصلاً في تاريخ الاغنية العربية". اغنية واحدة لفيروز على الرغم من هذه الصداقة الطويلة؟ يجيب "لبنق على "وحدن" الآن". يؤمن بالابراج: "انا من برج الاسد واحبه. قلت عنه: "محمي مثل برج الاسد رمانك العالي. لا اعرف خصائصه ولكن اعرف انه مثلي، قوي وضعيف". مارس التعليم والصحافة ولكن "لم احب التعليم ابداً وجدرانه المغلقة". واين هو بين كل ذلك؟ يرد ّ بمقطع من "بياع الزمان": "بكرة ان سألوهن عنا ودقّوا عالباب / قلّن يا فقر حبستو كلمة بكتاب. انا هناك". وماذا بعد؟ "انا من هذه البلاد الاوسع. عمري ستة وخمسون عاماً، واؤمن بعبارة قالها سعد زغلول لزوجته وهو يحتضر "غطيني يا صفية، مافيش فايدة". ادعو نفسي اليائس الفرح، لانني لا ابلغ الحزن الاسود. كل ما آمنت به وانتظرته دمّر، وزاد ايماني بأن لا شيء غير الشعر يستأهل ان يعيش الواحد و يموت من اجله. هو الحرية النهاية التي نمارسها. والفعل الوحيد الذي نحمل مسؤوليته لأننا مهما تهدّمنا لا يجب هدم قصيدة واحدة".